الذات السياسية وأثرها على الثورة/ علاء تباب
لم تنجح ثورة التغيير، حتى الآن، في إنشاء كيان سياسيّ منظّم يمتلك هوية خاصّة، ويقوم على أساس الفرز المحكم للتوجهات الفكرية التي تكوّن سوريّا. فلم تتمكن التنظيمات السياسية الناتجة بعد الحراك الشعبي، عند الشروع في صناعة ذاتها أو إنشاء علاقات سياسية مع تنظيمات أخرى، أن تفرز الفئات الفكرية التي يتكون منها الواقع السياسي، لتضعها في الخانة المناسبة لها، فوضعت العدو في خانة الصديق، ووضعت الصديق في خانة العدو، ووضعت الحليف في خانة فريقها الذي يتكون منه التنظيم السياسي التابع لها.
تجاوز هذه التنظيمات السياسية مرحلة الفرز الفكري في تنظيم ذاتها لتقفز مباشرة إلى إنشاء علاقات مع التنظيمات السياسية الأخرى، من دون الأخذ أيضا في عين الاعتبار ضرورة فرز التنظيمات التي تتعامل معها بشكل دقيق وخالٍ من المحاباة، جعلها عرضة للتلاشي والذوبان في الكيانات الأخرى.
مشكلة هذا المنهج الحالي لهذه التكتلات السياسية الخالية من التنظيم القائم على أساس فكريّ معيّن، أنّها تذوب كالسكر الأبيض في فناجين قهوة أي تنظيم آخر، ليس لقوته، ولكن لعدم وجود أطر سياسية متناغمة تقود هذه التنظيمات السياسية. ما يعني أنّ العلاقات السياسية التي شرعت التنظيمات لخلقها مع الآخرين لا معنى لها، ولا تعدو كونها مجرد أضغاث أحلام سياسية، وذلك لافتقارها وجود» الأنا الفكري» الخاص بها، لأنّه عندما يريد تنظيم ما مخاطبة تنظيمات سياسية أخرى، لا بدّ لهذا التنظيم كي ينجح، أن يمتلك» الأنا السياسية» الخاصّة به؛ لأنّ مخاطبة أي تنظيم سياسي لا يكون إلّا من خلال تنظيم مقابل، له كيانه الخاص. وضرب الواقع السياسي، الائتلاف الوطني السوري لنا مثلاً، فأحد لا يخفى عليه اليوم، أنّ الهيكلية الميكانيكية لهذا التنظيم السياسي، هي التي تحمل المسؤوليّة الأكبر في فشل قيادة الائتلاف الوطني لمرحلة الثورة، فرغم امتلاك هذا الكيان السياسي للعديد من الشخصيات المخلصة والوطنية التي تسعى لإنقاذ سوريا، إلّا أنّه لم يستطع القيام بمهمته التي يريد، لأنّ المشكلة ليست في الشخصيات التي تكوّن هذا التنظيم السياسي، بل بوجود تكتلات غير متناغمة، بل ومتنافرة يقوم أساس الائتلاف الوطني عليها في تكوينه، أي أن عدم قيام هذا التنظيم السياسي بفرز نفسه بشكل دقيق أثناء تشكيله منذ البداية، جعله غير قادر على أن يتعامل بقوة وفاعلية مع التنظيمات السياسية الأخرى، دولية كانت أو إقليمية أو حتى المحلية منها. وبذلك تحوّل الائتلاف الوطني من خلال صورته التي فطره الغرب عليها وصنعه على عينه، بحجة الدعم السياسي، إلى كيان وظيفيّ يخدم المصالح الميكافيلية – الشخصية – للآخرين من حيث لا يدري البنية الاستقطابية التي فطرت عليها هيكلية الائتلاف الوطني، خدمت من حيث لا تدري مصالح الآخر أكثر من مصالح الثورة، أو حتى مصالح الائتلاف الذاتية، بل جعلت من هذا التنظيم «هولوكوست سياسي» يهدد أفضل الشخصيات الوطنية والسياسية والفكرية من السوريين بالإحراق، ففشل الائتلاف ليس بسبب أشخاصه، بل لأن الاستقطابية السياسية التي يقوم كيانه عليها، جديرة بإفشال أكبر السياسيين في العالم، فحتى لو جاء زعيم السياسة معاوية بن أبي سفيان ووضع مكان الرئيس الحالي، ستكون النتيجة السياسية هي ذاتها، لأنّ المشكلة ليست بأشخاص، ولكن بالأساس الذي يقوم هذا التنظيم عليه.
لم تع التنظيمات السياسية التي تتكلم باسم الشعب السوري حتى الآن، أنّ المرحلة الثورية لا يمكن أن يقودها الجميع، ولا بد لفريق متناغم من قيادتها، والقول بأن الجميع يجب أن يقودوا المرحلة، هو كلام إنشائي لا يقترب من الواقعية، بل هو دفع بالحراك الشعبي نحو الفشل والتشتت واللا قيادة. لذا لا يمكن للائتلاف الوطني اليوم، أن يقود المرحلة، إلا إذا غير تركيبته الائتلافية وجعل من ذاته تكتلاً سياسيّاً يحتوي على أشخاص توافقيين يؤمنون بالتوجه والأهداف ذاتهما، لأنّ التشكيل غير المتناغم داخل الائتلاف حوله لأداة معطِّلة ومُعطَلة، إضافة إلى ذلك عليه كي ينجح في مهامه التي يريد وليس التي تريد – الدول العرابة وذات المصالح الميكافيلية – أن يتقن عملية الفرز في التعامل مع التنظيمات السياسية الأخرى، والقدرة على تصنيفها باحترافية وحيادية مطلقة في الخانات الثلاث (الصديق، العدو، الحليف)، ولا يعني فرز الذات السياسية وتحديد هوية التنظيم ومن ثم السعي لجعلة قائد المرحلة الثورية بالضرورة إلغاء الآخر، لأنّ قيادة المرحلة الثورية هي قيادة مؤقتة، وستكون صناديق الاقتراع القائمة بعد إنهاء الثورة، هي الفيصل الوحيد في اختيار من يحكم وكيف يحكم
إنّ التنظيمات السياسية الوحيدة التي أتقنت لعبة الفرز وتحقيق «الأنا السياسية» في مرحلة الثورة السورية، اقتصرت للأسف على التنظيمات المتطرفة، المتمثلة بحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الـ»pyd» وتنظيم «داعش» ونظام الأسد والنظام الإيراني وحزب الله في لبنان، حيث استطاعت هذه الأنظمة عن طريق فرز ذاتها السياسية وتصنيف الآخرين بشكل صحيح بالنسبة لما تسعى له من أهداف، أن تتجنب عملية الاستنزاف الذاتي التي عانى الائتلاف منها طيلة الفترة الماضية، نتيجة احتوائه على كافة التكتلات المتناقضة وغير المتناغمة، خاصة بعد التوسعة السياسية الأخيرة التي تعرّض لها وأعاقت حركته كفريق سياسي موحد قادر على اتخاذ القرارات وقيادة مرحلة الثورة، فعلى سبيل المثال، جعل الائتلاف الوطني بعض الحركات الكردية السياسية جزءاً من فريقه السياسي، في حين اتخذته تلك الحركات – التي نجحت في فرز ذاتها – كحليف ومركوب سياسيّ تحقق من خلاله أجنداتها السياسية الخاصة بها.
في النهاية، إنّ الحديث اليوم عن مؤتمر وطني شامل لقيادة الحراك الشعبي السوري هو مضيعة للوقت، وضرب من الخيال لا يمكن تحقيقه، فلا مكان لأدوات الفرز والتصنيف الفكري والسياسي في مثل هذه المشاريع السياسية على الإطلاق. فالحل لن يكون إلّا بتنظيم سياسي بعيد عن فكرة «الائتلافية»، وقائم على مبادئ وأهداف متفق عليها من قبل أعضاء التنظيم المراد صناعته، وليس ببعيد أن يكون هذا التنظيم السياسي هو الائتلاف الوطني، بشرط تغيير منهجه وبنيته السياسية، وإلا ستقود المرحلة المقبلة تكتلات سياسية وعسكرية منظمة لا تمثل ثورة الشعب السوري لا من قريب ولا من بعيد.
٭ كاتب سوري
القدس العربي