صفحات العالم

الغرب صاحيا على نداء الشرق في فعله وليس في خياله فحسب!/ مطاع صفدي

 

 

كلما لاحت في الأفق الدولي المحيط بالمسألة السورية بوادر نوايا معينة نحو حل ما، تصاعدت بديلاً عنها مقدمات لحقبة جديدة من حروب المقتلات والمهالك غير المسبوقة. وفي الوقت الراهن يحتل المشرق العربي المساحات الأكبر من نشاط الدوليات الدبلوماسية عامة البالغة أوج حركاتها من المؤتمرات واللقاءات بين الأقطاب ومعاونيهم للدول الكبرى من المستويات الأول والثاني وحتى الثالث. كل هذه تحت إشراف ما يسمّى بمنطق الصفقات والتفاهمات والسيناريوهات.. ألخ، من هذه المصطلحات التي يحاول مستخدموها أن يحلوا ألفاظها (المهيبة) محل أية أفعال حقيقية قد تُنهي مآسي الأمم المستضعفة، وأقلّها حضوراً في المشهد العالمي.

لكن الغرابة المتفاقمة في كل هذه المشهديات أو التمثيليات الدولية أن أقطابها الرئيسيين، بدءاً من السيد كيري وزير خارجية أمريكا، هم الذين يبشرون الأوساط الصحفاية المرافقة بكثافتها المضطردة كل لقاءٍ عام، بأن ما يتخذ من القرارات في جلسات هؤلاء الكبار ليست سوى حبر على ورق. ومع ذلك فاللعبة لا تزال مستمرة.

وها هي مقررات ميونيخ ربما قد تختلف قليلاً عن سابقاتها لمؤتمرات جنيف؛ فهي على الورق لكنها تتحدى التنفيذ عملياً على الأرض؛ ذلك أن وقف الحرب لم يعد مجرد شعار يستخدمه السادة الدوليون كتغطية لاستمرارية المعارك العبثية. فأوروبا اليوم لم يعد تأثيرها بأحداث المنطقة صوتياً فحسب، أي عن طريق تلقي أخبارها فحسب، أو حتى مع استنشاق بعض دخان حرائقها المنبعثة من براكين الجنوب، بل يشعر الإنسان الفرنسي أو الألماني أن القارة نفسها لم تعد محصنة حدودها البحرية بخاصة وراء القوانين المنظمة للهجرة. فـ(الغزو البربري) التاريخي يخترق يومياً كل البحار، ويداهم الشواطىء و(الغرباء) السُمْر وأطفالهم وشيوخهم يعبرون مدن الشمال، فالجنوب يمكنه أن يصير شمالياً بطريقة ما.

نريد القول أن الفارق الوحيد المميز لمؤتمر ميونيخ عن أمثاله هو أن أصحابه ـ ما عدا روسيا طبعاً ـ يريدون أن يتصدوا هذه المرة ليس لبعض مظاهر الحدث المأساوي السوري أو العراقي، بل لعلهم باتوا عازمين على إلغاء الاستراتيجية الموصوفة بالعميقة، المحركة لكلية الحدث، والتي أمست معروفة لدى الجميع، والملخّصة بإجهاض الربيع العربي من جذوره؛ أوروبا اليوم لم تعد مجرد جارة بعيدة أو قريبة قليلاً من المتوسط وسكّانه الجنوبيين. هؤلاء السكان يصير الكثير منهم شريكاً داخلياً للأوروبي في عقر داره. وهو أمر كان مستحيلاً في المخيال الغربي، لكنه يتحول إلى واقع يومي ومداهم ومتماد. فالفوضى الدموية الهائلة كلما اشتد أُوارها لن تميز بين من يتلظَّى بجحيمها داخلها، ومن يكتفي بالتفرج عليها من خارجها. وهي الحال التي كان يعيشها الاوروبيون طيلة سنوات الثورات العربية، وحان زوالها الآن.

(كيري) ليس واثقاً أن ينجح مؤتمره الأخير في ميونيخ، ولا ما سيتبعه من تظاهرات شبيهة، في فرض حل سلمي على فصائل المقاتلين مع النظام أو ضده في سوريا.

فالمستقبل المباشر لسيْر الأزمة هو نحو موجة عنف جديدة، ربما ستكون الأخطر من سوابقها على الأقل من حيث اتساع دائرة المتدخلين العلنيين على مستوى الدول سواء من المنطقة أو من الغرب نفسه.

إذا كان هناك تغيير ما في المنظور القادم، فلن يكون هذه المرة من طبيعة عسكرية أو سياسية، بل ربما إيديولوجية مبدئياً، ويكون موطنه الأول هو ساحة الوعي. ليس لدى المتورطين المباشرين، بل في أوروبا نفسها، وتحديداً هو تغيير في الموقف الإنساني بل العقلاني لدى هذا القطاع الكبير، لكنه الصامت غالباً في أمور السياسة العربية الخارجية. ذلك أن الطوفان الجنوبي المهاجر سيكون له تأثيره الحاسم، وفيما يتعلق خاصة بمدى سلطة الاستراتجية الموصوفة بالعميقة التي يعتنقها الوجدان الثقافي الغربي، على وعي فئاته القيادية، كأنها قوة ردع تمنع هذه الفئات من حق الرقابة أو المناقشة لأفعال دولهم، وفي «العالم الثالث» تحديداً.

بكلمة مختصرة ربما صار على الوجدان الثقافي الغربي أن يزيح عن كاهله أعباءَ ذلك الخيار، أو الآمر اللاأخلاقي، لكنه التقليدي والموغل في التجذر؛ القائل بأن لا أمن للغرب إلا بزوال الشرق.

مثل هذا التغيير في الخلفية العقائدية للمشروع الثقافي الغربي، إنْ كُتب له أن يحقق بعض اليقظة في الوعي السياسي لبعض أركان الطبقة الحاكمة لأهم دول الغرب الأوروبي، هل سيكون هو المدخل الأنطولوجي وليس التاريخي فقط، نحو جعل مفهوم المدنية الإنسانية يفارق أخيراً ممارسته اللفظوية الفارغة، ليصبح هو محور الآمر الأخلاقي القيم على كل وجدان عمومي، بحيث تغدو السياسة، والدولية منها خصيصاً، أعلى فن للأخلاق الكونية، وليس مجرد تجارة رخيصة بمفردات مبتذلة قاتلة لمعاني المثُل والقيم العامة.

وإلى أن يحين أوان هذا الانقلاب الأعظم، وإن لم يعد بعيد المنال، فالدولة الغربية ستظل أسيرة لمناهج التقافز العقيم ما بين السياسة الالتباسية والأخلاق المحبطة. والأنكى في كل هذه الموبقات المتراكمة في مجاهل الدبلوماسيات المتسلطة على مسارح الأفعال الدولية الكبرى والصغرى. فما هو شعور المثقف الأوروبي أن قارته تُجرُّ كلها نحو تكرز العصر الأشد ظلاماً من حقبة الديكتاتوريات الداخلية والاستعمارات الحمراء السوداء الخارجية. ما يفعله (بوتين) الروسي ليس قيادة أقذر الحروب الأهلية في المشرق وحدها، بل كأنه يلتفت وراءه إلى أوروبا نفسها عارضاً تجربته كنموذج لما ينبغي أن تتطور نحوه حتى أرقى دولها الديمقراطية.

في اللحظة عينها ينسحب (فابيوس) من خارجية فرنسا محتجاً بصمت على طواعية دولته إلى النهج الأوبامي المسلّح بالجاروف الروسي. هل نقول أن ثمة تغييراً في الوجدان الثقافي لبعض نبلاء الأخلاق (الشماليين) حتى يحين يوماً ما أوان التغيير الأصعب في شرقنا البائس، فلن يكون تطوره، بَعْد، مرتهناً فقط بإيقاع النكبات وحدها، والمتسلسلة من بعضها… إلى متى!

ذلك موعد لن يظل أملاً مستحيلاً إلى حين يقتنع عتاة الغرب بأن الشمس لن تنير العالم إذا سطعت فقط من قلب الشرق، لكنها عجزت عن اختراق قلب الغرب أيضاً، ولو لصحوة واحدة على الأقل.

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى