صفحات الرأي

من الكبت إلى التعجل: الأبعاد النفسية لـ “التحولات الثورية” في المنطقة العربية

 

 هاشم رامي

شهد عالمنا العربي الكثير من الأحداث الجليلة على مر التاريخ، وكللت تلك الأحداث أخيرا بالعديد من الثورات التي هزت أركانه، بداية من تونس، ثم مصر، وليبيا، وامتدت لتشمل اليمن، والآن سوريا. ويتوقع الكثيرون أن يمتد المد الثوري، أو على الأقل آثاره، إلى بقية البلدان العربية، بل وربما دول خارج المنطقة، مما سيؤثر في شكل العالم الذي نعيش فيه.

وكنتيجة طبيعية لما حدث، جرت محاولات متعددة لفهم وتفسير هذه الثورات وتأثيراتها. واعتمدت معظم التحليلات على الرؤي السياسية، والاقتصادية، والتاريخية، والاجتماعية، لفهم أسباب وتأثيرات الثورات العربية. أما هذه المقالة، فهي محاولة لتقديم رؤية نفسية لأسباب وتأثيرات تلك الثورات.من البديهي أن الثورات تنشأ نتيجة لحالة من عدم الرضا عن الوضع القائم، ومحاولة لإيجاد وضع جديد يؤدي إلى حالة من الرضا. من ناحية المسببات، تهتم الرؤية النفسية بمحاولة تفسير ما الذي يجعل الإنسان غير الراضي يتحول من حالة اللافعل إلي حالة الفعل لتحقيق الرضا.

إحباط نفسي

يعد “الإحباط النفسي”، خاصة إذا اشتدت حدته وطالت مدته، سببا منطقيا وجوهريا للانفجار والثورة على الأوضاع القائمة، والانتقال من حالة اللافعل إلى الفعل. وينشأ الإحباط النفسي إذا كان هناك تباين وتناقض بين ما يريده الإنسان ويراه من حقه، وبين الواقع الفعلي. وقد أسهمت العولمة والإعلام المفتوح وثورة الاتصالات في هذا التباين، ومن ثم الإحباط. فقد أصبح الإنسان العربي العادي على وعي وإدراك بحياة الإنسان في الدول المتقدمة، ولذلك أصبحت توقعاته ورؤيته لما يجب أن تكون عليه حياته في تناقض وتباين واضح مع واقعه، خاصة من ناحية حقوق الإنسان، والحقوق السياسية والاجتماعية، وفي بعض البلدان الحقوق الاقتصادية أيضا.

ولكن الإحباط النفسي – كما أظهرت الدراسات النفسية – لا يؤدي دائما إلى الانفجار والثورة، بل هو يؤدي في الكثير من الأحيان إلى السلبية وحالة من عدم الانتماء. إذن، فبرغم منطقية الإحباط النفسي كسبب للثورة، فإنه غير كاف لتفسير حدوث الثورة، مما يستوجب البحث عن ظواهر أخري لتفسير ما حدث من الناحية النفسية. يرتبط بمفهوم الإحباط النفسي مفهوم آخر يسمي “التنافر العقلي المعرفي”، أو عدم التوازن النفسي. وطبقا لهذا المفهوم، يعاني الفرد تنافرا وتباينا بين ما يراه العقل أنه منطقي وسليم، وبين الوضع القائم. هذا التنافر وعدم التوازن النفسي يؤدي إلى حالة من التوتر والقلق النفسي الشديد، الذي يصيب الإنسان بمعاناة لا يستطيع العقل تحملها.

تولد هذه المعاناة طاقة عقلية ونفسية قوية، تدفع الإنسان إلى محاولة التغلب على هذه المعاناة، حيث إن العقل البشري لا يستطيع أن يتحملها لفترة طويلة. لذلك، تدفع هذه المعاناة الإنسان دفعا ليقوم بعمل أي شيء لاستعادة التوازن النفسي. والنتيجة إما أن يقوم الإنسان باستخدام هذه الطاقة العقلية لتغيير واقعه، فيقوم بالثورة على الواقع، وإما أن يستخدم الطاقة في تغيير رؤيته هو عن الواقع ليرضي عنه، فلا يثور. وعلى ذلك، فإن عدم التوازن النفسي يساعد على حدوث الثورة، ولكن ليس منفردا. إن اندلاع الثورة يتطلب وجود عدة عوامل نفسية مجتمعة.

وفي هذا الإطار، يظهر مستوى تحليلي آخر يساعدنا في تفهم أسباب اندلاع الثورات. فطبقا لنظرية الدوافع، يسعي الإنسان أولا لتحقيق حاجاته الأساسية، مثل المأكل والمشرب والمسكن. فإذا حقق هذه الاحتياجات الأساسية، تظهر لديه دوافع للحصول على احتياجات أخري، مثل حقوقه السياسية. فقد يثور الإنسان لعدم حصوله على احتياجاته الأساسية (ثورة الفقراء)، أو لحصوله على احتياجاته الأساسية وتطلعه إلى احتياجته الإنسانية الأخري (ثورة الطبقة المتوسطة). وفي بعض الأحوال، يحدث خليط من الاثنتين.

أما الظاهرة النفسية الأخري الجديرة بالتمعن، فهي ظاهرة “التوحد النفسي”. وقد ابتدع هذا المفهوم الطبيب النفسي الشهير سيجموند فرويد، ويقصد به حالة نفسية لا شعورية تجعل الإنسان يشعر وكأنه اكتسب مشاعر وسمات شخص آخر، مما يجعله يشعر بمعاناته أو حماسته، وأن ما يصيبه كأنما أصابه هو نفسه. حدث ذلك في تونس، حيث رأينا الشعب التونسي، خاصة الشباب، قد حدثت لهم حالة من التوحد النفسي مع محمد بوعزيزي. وفي مصر أيضا، حدثت حالة من التوحد النفسي مع خالد سعيد. دفعت هذه الحالة الشباب في البلدين إلى الانتقال من حالة عدم الرضا واللافعل إلى حالة عدم الرضا والفعل.

وعلى مستوى آخر، نجد أن حالة من التوحد النفسي قد حدثت للشعوب العربية مع بعضها بعضا. فبعد نجاح الثورة التونسية في الإطاحة بالرئيس بن علي، توحد معها الشعب المصري، وأقام ثورته، وهكذا دواليك في العديد من الشعوب العربية. كما نجد أن هذه الظاهرة النفسية قد تكررت داخل الحالة الثورية لكل شعب على حدة. فعلى سبيل المثال، في الثورة المصرية، نزل الشباب أولا، ثم توحد بقية أفراد الشعب معه.

أما على مستوى الطبقات الحاكمة، فنجد أن هناك حالة من الجمود العقلي والانفصال عن الواقع قد أصابتهم في معظم البلاد العربية. اتسمت الأنظمة الحاكمة بالبطء الشديد، وعدم المرونة في التعامل مع الأحداث، مما قد يكون ناتجا عن المرحلة العمرية المتقدمة لمعظم هذه القيادات، وطول فترة البقاء في الحكم. كما أن كثيرا من هذه القيادات أصابتها حالة نفسية يطلق عليها “الإنكار النفسي”، وفيها يقوم العقل البشري بإنكار وعدم تقبل حقيقة ما يحدث، وخلق واقع آخر. وقد كانت التصريحات المتكررة بأن “مصر ليست كتونس”، و”ليبيا ليست كمصر ولا كتونس” دليلا على هذه الحالة.

هذه المفاهيم النفسية مجتمعة قد تساعدنا على محاولة فهم أسباب الثورات العربية، ولكنها بالتاكيد ليست كافية لتقدم رؤية شاملة ووافية لأسباب ما حدث. فالثورة مثل معظم الأحداث الكبيرة تكون نتاج تفاعل تراكمي بين عوامل متعددة، بعضها سياسي، وبعضها اقتصادي واجتماعي، وبعضها نفسي. فإذا كنا نرغب حقيقة في فهم أسباب ما حدث، فيجب علينا عمل دراسة وافية تشمل جميع العوامل السابق ذكرها، وكيف تفاعلت مع بعضعها بعضا.

الآثار النفسية للثورات

وكما لعبت العوامل النفسية دورا واضحا في قيام الشعوب العربية بالثورة، فإن تلك الثورات العربية وما صاحبها من أحداث لها أيضا تأثيرات نفسية في الشعوب. بعض هذه الآثار النفسية قد يكون إيجابيا، وبعضها قد يكون سلبيا. كما أن بعض الآثار النفسية نتجت عن الثورة نفسها، والبعض الآخر كان نتاج أحداث العنف التي صاحبت وأعقبت الثورات.

من الناحية الإيجابية، فقد أظهرت وبلورت الثورات روحا وطاقة إيجابية كانت غائبة عن الشعوب العربية لفترات طويلة. هذه الطاقة الإيجابية يصاحبها شعور بالتفاؤل بأن المستقبل سيكون أفضل، من الناحية النفسية، وهي توفر للعقل المجال والبيئة الصحية التي تجعله يقوم بوظائفه على أكمل وجه. تمنح هذه الطاقة الإيجابية الإنسان القدرة على التفكير بطربقة أفضل، بل على الإبداع والابتكار. كما أنها تدفع الإنسان للتعاون مع الآخرين، والعمل بروح الفريق.

هذه الطاقة النفسية الإيجابية تزيد أيضا من شعور الإنسان “بالآخر”، مما يدفعه إلى مراعاة شعور الآخرين، ومعاملتهم باحترام، والبعد عن محاولة إيذائهم. بل وهي تدفع الإنسان للعمل من أجل مصالحهم وسعادتهم، حيث تختفي الأنانية، وتبزغ روح الإيثار. وقد رأينا ذلك بوضوح في ميدان التحرير في مصر، وغيره من الميادين في بقية البلدان العربية.

زادت هذه الثورات من ثقة الناس بأنفسهم، وقدرتهم على التغيير، وإحداث الفارق في حياتهم، بل وفي مجتمعاتهم، وتبدو هذه الثقة أكثر وضوحا في الأجيال الشابة. فبعد عقود طويلة تم فيها وصمهم بالسطحية والتفاهة والسلبية، جاءت هذه الثورات لتثبت أن ذلك غير حقيقي. فهذه الأجيال هي التي فجرت الثورات، وأثبتت لنفسها وللآخرين أنها إيجابية وقادرة على الفعل، وتمتلك المعرفة والأدوات العصرية التي تمكنها من إحداث الفارق. ومن الجدير بالذكر أن الطاقة النفسية الإيجابية، وروح التفاؤل، وارتفاع معدل الثقة، تسهم في تحسين الصحة النفسية لأفراد المجتمع، خاصة على المدي القصير، حيث تكون نشوة نجاح الثورة والأحداث الإيجابية هي الغالبة على الساحة. ويكون لذلك تأثير واضح في انخفاض معدلات انتشار المعاناة النفسية بين أفراد المجتمع على المدي القصير.

ولكن بالإضافة لهذه الآثار النفسية الإيجابية للثورات العربية، فهناك أيضا آثار نفسية سلبية، ظهر بعضها نتيجة لحدث الثورة ذاته، وبعضها الآخر نتيجة لأحداث العنف التي واكبت وأعقبت تلك الثورات. فمناخ الحرية الذي أفرزته تلك الثورات صاحبه نوع من الانفلات النفسي الناتج عن الإفراط في الإحساس بالحرية الشخصية، فأصبح بعض الناس يتصرفون بحرية مطلقة دون أي اعتبار للقواعد المجتمعية.

هذا الإفراط أو الانفلات النفسي يمكن تفسيره بأن الإنسان العربي ظل، لعقود طويلة، في حالة من القهر والكبت النفسي الشديد. وعندما زال هذا الكبت، تولدت طاقة نفسية كبيرة، أدت إلى انفجار انفعالي، وانفلات نفسي، وإفراط مبالغ فيه في استغلال مناخ الحرية الناتج عن نجاح تلك الثورات في الإطاحة بالنظم السلطوية والقهرية. ويمكن تشبيه ما حدث بإناء مغطي مملوء بالماء كان يغلي لوقت طويل، ثم تم رفع الغطاء فجأة، فتدفق البخار خارج الإناء بغزارة وكثافة.

التلهف السريع على الرغبات

ظهرت أيضا ظاهرة نفسية سلبية أخري، هي “التعجل”، أي أن يكون الإنسان في حالة من التلهف على تحقيق رغباته سريعا، ولا يطيق فكرة أن يصبر، ولو قليلا، حتي تتحقق النتائج الإيجابية المنتظرة. ويظهر ذلك جليا في حجم الاحتجاجات الفئوية التي نشهدها الآن. ورغم أنها في الأعم ترفع مطالب عادلة ومنطقية، فإنها توضح بجلاء هذا التعجل النفسي، الذي يدفع الإنسان إلى اختيار أقصر وأسهل الطرق للوصول إلى ما يريده.

وإذا كان الإنسان متدينا، كما هو حال معظم الشعوب العربية، فتتولد عنده القناعة بأن وصول أشخاص متدينين إلى الحكم، بغض النظر عن كفاءتهم، هو أقصر الطرق لتحقيق الرخاء المأمول، والنتائج المرجوة. هذه الرؤية النفسية قد تكون أحد التفسيرات لفوز التيار الديني في الانتخابات، ولكن ما يدعو للقلق والحذر هو: ماذا سيحدث من الناحية النفسية، إذا لم تستطع التيارات الدينية أن تحقق الرخاء المنتظر سريعا؟.

كان لتلك الثورات أثر نفسي واضح في انتشار ظاهرتين نفسيتين، هما “التمرد اللاشعوري” على السلطة الأبوية، و”الفجوة النفسية – المعرفية” بين الأجيال. وهي ظواهر نفسية موجودة دائما في كل المجتمعات البشرية، ولكن الثورات أدت إلى تفاقمها بشكل كبير. ويظهر ذلك فيما نراه من خلاف واضح بين الأجيال الشابة والأجيال الأكبر سنا من حيث الرؤي، واللغة، والسرعة في المطالبة بتحقيق التغيير. كما زادت ظاهرة التمرد على السلطة في كثير من أماكن العمل بدون أسباب منطقية، وأصبح واضحا أن هناك حالة من العداء اللاشعوري، وعدم الاحترام بين الأجيال المختلفة.

وقد كان لأحداث العنف التي واكبت وأعقبت الثورات آثار نفسية سلبية هي الأخري. فقد أدت تلك الأحداث إلى زيادة في معدلات القلق والتوتر النفسي والخوف من المجهول بين أفراد الشعوب العربية. كما ازداد معدل انتشار أحد الأمراض النفسية الجسيمة الذي يسمي “اضطراب ما بعد الصدمة”. وهذا المرض يصيب الأفراد الذين تعرضوا إلى أو شاهدوا أحداث عنف جسيمة.

وقد تعرض الكثيرون من أفراد الشعوب الثائرة إلى أحداث عنف مباشرة. كما أن من لم يتعرضوا لها مباشرة قد تابعوها عن قرب، من خلال وسائل الإعلام المختلفة. يتمثل هذا المرض في معاناة الإنسان من القلق والخوف الشديد باستمرار، كما تصيبه حالة من التوجس والتحفز والخوف من المستقبل، وتذكر الأحداث العنيفة وكأنها تحدث مرة أخري. وتؤدي تلك المعاناة بالإنسان إلى العزلة، وتجنب الناس، وأي شيء قد يذكره بما حدث. وللأسف الشديد، فإن أكثر الفئات تأثرا بهذا المرض هم الأطفال، مما يؤدي إلى تأخر في نموهم النفسي والاجتماعي والعاطفي.

السؤال المنطقي الذي يطرح نفسه على مجتمعات ما بعد الثورات هو: ما هي الوسائل النفسية التي يمكن من خلالها تفادي هذه الآثار السلبية، والمضي قدما نحو مستقبل أفضل؟. النصيحة الأولي هي تجنب العنف، وتأهيل وعلاج الضحايا في أسرع وقت. كما ينصح بعمل تصالح نفسي مجتمعي يعتمد علي المصارحة والمكاشفة، ثم الاعتذار والتصالح في أسرع وقت. وإذا أضفنا إلى ذلك الشفافية، والوضوح، ووجود خريطة طريق واضحة للمستقبل، تجعل كل فرد على يقين بأننا على الطريق السليم إلى تحقيق المأمول، فإننا سنستطيع التقليل من وطأة الآثار السلبية، والتعظيم من الآثار الإيجابية للثورات. وكلما أسرعنا الخطي، كان المستقبل أفضل لشعوبنا ومجتمعاتنا.

عن مجلة السياسة الدولية – القاهرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى