تآكل الطبقة الوسطى وانكشاف الحداثيين/ محمد العباس
منتصف السبعينيات من القرن الماضي بدأ ظهور مفردة (التنمية) في الأدبيات إلى جانب حضورها كمفتاح للسلوك الإداري العصري في السعودية، بما هي المفردة السحرية التي تجوهر فعل وحضور الطبقة الوسطى، حيث جاءت بمثابة الإعلان والتنبيه إلى خطر التنمية العرجاء، التي تراعي تنمية المباني وإهمال المعاني، أي التركيز على العمران وتناسي الثقافة، مع مراعاة معظم مثقفي تلك اللحظة إلى عدم التورط في حساسية البعد السياسي للتنمية، وعدم التطرق لفكرة ربط الثقافة بالديمقراطية.
في تلك الفترة بالتحديد انتبهت دول مجلس التعاون الخليجي إلى أهمية المكوّن الثقافي، كنتيجة طبيعية لفاعلية صوت الحداثة ولبروز دور المثقف في التنمية، حيث تم انعقاد أول مؤتمر لوزراء الثقافة والإعلام عام 1986 في مسقط، حيث تم تجاوز فكرة كون الثقافة مجرد هواجس ذاتية إلى مفهوم الصناعة الوطنية التنموية، التي لا تنفصل عن الإنسان، وكانت الخطة الخمسية الرابعة في السعودية قد تضمنت بنداً يركز على (البناء الثقافي) كاستكمال لما تم تحقيقه على مستوى البنية التحتية.
ومن يتأمل البناء النصي لمنتجات الثمانينيات الأدبية سيلاحظ أنها بقدر ما كانت تحتفظ بشيء من الوجدانيات الذاتية المتعلقة بالأزمات والتطلعات الشخصية، ظهرت متوالية من النصوص المهجوسة بالهموم الاجتماعية والوطنية والقومية، سواء على مستوى الشعر أو القص، بمعنى أن تلك النصوص كانت ترصد التغيرات الاجتماعية، في الوقت الذي كانت تتحسس فيه مفهوم الوطن وعلاقته بأبعاده القومية، في إطار الصدمات الثقافية المتأتية من الوفرة المالية، بما تشكله من آثار على القيم، والمحسوسة من خلال التماس مع الآخر بكل أطيافه، الذي هيأ فرصة التعرّف على الذات واستنهاض الهوية والتماس العنيف نسبياً مع الجذور التراثية للثقافة، وكل ذلك من منظور يخالف الثقافة السكونية التي كانت سائدة ما قبل ظهور الطبقة الوسطى.
لم تكن أصوات تلك الفترة، سواء القصصية أو الشعرية على تلك الدرجة من الكفاءة الأدبية الخارقة، إذ لم تُحدث قفزتها الكبرى باتجاه الحداثة، ولكن تم ترميز فصيل منها بالنظر إلى أنها كانت تتحرك في منطقة فراغ هائلة، كما كانت هناك حاجة ماسة من الطبقة الوسطى لأصوات تعبر عن مآزقها وهواجسها وخيباتها وطموحاتها وإحساسها بلحظات التحول، ولذلك جاء النقد كرافعة تعاضدية، أو كعملية تسويقية واسعة، بمنطوق الغذامي، لتلك الأسماء والنصوص، حيث يمكن التمثيل بكتاب سعيد السريحي «الكتابة خارج الأقواس – دراسات في الشعر والقصة» الذي قارب فيه بحماسة تبشيرية فروض قراءة مجموعة من النصوص الشعرية لمحمد الثبيتي، والمجموعة القصصية لعبدالله باخشوين «الحفلة»، لكن ذلك التواطؤ لم يستمر طويلاً مقارنة بالمدة الزمنية التي احتل بموجبها أدباء الثمانينيات واجهة المشهد، حيث جاء النقد الجديد ليستأثر بمعركة الحداثة، حين تم نقل سؤالها من الشعر إلى النقد.
هذه النقلة اللافتة والمهمة التي يصفها عبدالله الغذامي بشيء من الدرامية بالموجة الثالثة للحداثة، يعبر عنها في كتابه «حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية» بقوله «في عام 1405هـ/1985م حدثت الموجة الحداثية الثالثة، وهي موجة تحمل تغيراً نوعياً، في حكاية الحداثة في السعودية، ولو تحدثنا بمصطلحات السرد، لشبهنا هذه الموجة بالعقدة، حيث تبلغ الحبكة الروائية أعلى درجات التصعيد والتوتر، هذه المرة جاءت حداثة من نوع مختلف وصادم، وقد كانت العلامة الحداثية عندنا في السابق هي القصيدة بصيغتها الحداثية الحرة، وما يتبع هذه القصيدة من نقد يصاحبها ويكون في خدمة قضية الشعر الحداثي، وكان متماهياً مع المقولات النقدية المطروحة منذ الستينيات، خاصة النقد الواقعي مع شيء من نقد فني بلاغي محدود، وقضيته محصورة في تسويق القصيدة الحديثة والمنافحة عنها.
غير أن إطلالة عام 1405هـ/1985م كانت تحمل معها منعطفاً مفصلياً في تاريخ الحركة وفي أبعادها، وهذا هو في تحول المسار إلى النقد والنظرية النقدية».
هذا التحول يعني في ما يعنيه أن حركة الحداثة صار لها ذلك البعد الفكروي المتمثل في الجهاز المفاهيمي الجدلي للنقاد، حيث تم تجاوز سحرية الأثر الذي خلفه شعراء التفعيلة، وما تمثله القصة القصيرة آنذاك كخزان للتاريخ الوجداني، إلى حافة التماس مع كل الظواهر التي تزلزل مفهوم قدسية اللغة لتتركها في الهامش وتتخطاها إلى إعادة تركيب المشهد، وفق تصورات منهجية بنائية، وإن كان ذلك لا يعني إلغاء أثر الشعر أو القصة أو حتى قصيدة النثر، التي كانت تتهجى حضورها في تلك الحقبة، وهو ما يعني أن حركة الحداثة كانت تنوع على حضورها بموجب قاعدة يمكن أن نسميها «قاعدة الخطابات المتوازية»، التي يتناوب فيها الشعر والقصة والنقد.
إلا أن أسامة عبدالرحمن لم يتفاءل كثيراً بتلك النقلات، حيث ظل الاشتغال على الأدب داخل حلقات ضيقة هو الأصل. وفي هذا الصدد يقول «ومع أن الأدب هو المسيطر على الساحة الثقافية فهو يعتوره الكثير من القصور، ليس من ناحية العطاء الإبداعي الثّر والجيد، ولكن حتى من خلال تمكنه من ارتياد البعد الأدبي من أبعاد الثقافة بحرية وممارسة دور فعال في التوعية المجتمعية»، حيث اشترط معادلة يكون فيها العطاء «مفرغاً من التفاعل مع المجتمع، وإن كان بعض العطاء الإبداعي قد يكون أرقى من قدرة القاعدة المجتمعية على استيهابه والتفاعل معه».
هذا الاستنتاج يؤيده عبدالله الغذامي بقوله «لقد ظل الأكاديميون بعيدين عن السؤال الثقافي والفكري التحديثي والتغييري في مجتمعنا، واستأثر بهذا التخصص والعرف العلمي الملتزم، وهذا في عرفي مؤشر على ترسّخ النسق المحافظ وتمكنه من الخطاب الاجتماعي والنفسي فينا، حتى لنرى أن التمسك بالعرف هو الحصانة من الانزلاق، وإذا ما استبدلنا عرفا أحللنا مكانه عرفاً آخر يحظى بالدرجة نفسها من الرسوخ»، بمعنى أنه يؤكد على ما حدث ليس سوى «حداثة ظاهرية وقد تكون سطحية لا تلامس الجذور ولا تنسف الأنساق وإن شاغبتها وحيدت من قوتها».
لكل معركة فرسانها وضحاياها، وفي معركة الحداثة لكل شاعر أو قاص أو ناقد إسهامه المعلوم، وهي أسماء معروفة ومختزنة في ذاكرة المشهد، حيث خضع المنجز وإن بشكل جزئي إلى المناقدة والمساءلة قبالة أكبر ناقد وهو الزمن، فمن كان يُنظر إليه كفاتح صار يُصنّف كناسخ، ومن تقدم الصفوف بعلو نبرته انطفأ صوته وسط الزحام، ومن قدم نفسه كتنويري وتحديثي صار نصه تقليدياً بموجب القراءات المتأخرة وهكذا، مقابل أسماء تجوهرت مع الوقت وأعيدت قراءتها من منظورات أدبية خارج ضجيج المعركة، لأن الصراع في جوهره لم يكن بين القدامة والحداثة بالمعنى الأدبي، بل بين قوى فاعلة على الأرض أو تريد أن تكون كذلك، فظهور النظرية النقدية الحديثة، والشعر الحديث، والأسئلة الإشكالية والمعرفية الحديثة لم تكن منفصلة عن السياق الاجتماعي الذي أُريد له أن يكون على درجة من المحافظة في لحظة حرجة لأسباب لا ثقافية بل سياسية.
هزيمة الحداثة أو ما سماه شاكر النابلسي بـ «نكبة البراعمة» نتيجة طبيعية لتآكل الطبقة الوسطى المتحدرة أصلاً من مؤسسات تراثية تهاب الخروج على المؤسسة، حيث تمت إعادة التموضعات لصالح ما عُرف بتيار الصحوة، وحدثت خيانة من نوع ما للطبقة من داخل التيار نفسه، ليتركوا من أخلص للتجربة في العراء، لأن عقل تيار الحداثة لم يكن على تلك الدرجة من الاكتمال والنزاهة والضمير، بل كان عرضة للاستقطاب القومي من ناحية، ومستسلماً قبالة ما اصطلح عليه كذلك بتيار (الصحوة) من ناحية أخرى، وهو مآل متوقع، فالطبقة الوسطى لم تنتج حداثيين فقط، بل صحويين مؤدلجين، وكأن الحداثة لم تكن سوى مزيج عبثي من الذاتية والظرفية والمصلحية، وهذا ما يفسر الصدام داخل الطبقة التي أخذت بالتفكك، أو تم تفكيكها وإعادة تركيب جانب منها لتؤدي وظيفة في موقع آخر.
كاتب سعودي
القدس العربي