لا حـق لأحـد فـي الغبـاء!
ميشيل كيلو
لا عيب في أن يغلط المرء، إلا إذا كانت غلطه يخرب بيت غيره. يحق لكل مخلوق أن يتبنى آراء خاطئة وأن يعبر عنها و»يناضل» من أحل تعميمها وإقناع الآخرين بها، ويحق لكل مخلوق رفض ما يقوله غيره والرد عليه بالطريقة التي تعبر عن مستواه العقلي أو النفسي – في حال كان بلا مستوى عقلي -، خاصة إن كان من ترفض آراؤه أو قراراته يؤمن بحق الآخرين في أن يكونوا على صواب، وحقه هو في أن يكون على خطأ، وفي أن يصحح خطأه. من حق أي كان التعامل مع الآخرين وكأنه لا يعرفهم، رغم أنه ربما يكون قد أمضى فترة مهمة من حياته في حوار معهم أو في صحبتهم. أخيراً، يحق لأي كان توزيع شهادات الوطنية ذات اليمين وذات الشمال، وتقديم النصح لمن يشاء من دون حساب. نحن، كتاب وكتبة هذا الزمن نطرح قراءتنا للواقع في سوق الآراء والأفكار والمواقف المتناقضة المتضاربة، ويعلم بعضنا أن ما يقوله هو مجرد اجتهادات تستند إلى فرضيات غالبا ما تكون ناقصة أو أحادية الجانب، وأن أقواله وآراءه ليست منزلة أو معصومة، وأن من الطبيعي أن تلاقي القبول أو الرفض، لأن هذه كانت حال البشر في كل زمان ومكان.
لكنه لا حق لأحد في الغباء، خاصة إن كان من العاملين في الشأن العام. أقول هذا لأصوات متفرقة تعالت من أماكن بعيدة استنكرت لقائي مع شخصية رسمية سورية وتخوّفت منه، حتى أن أحدهم خشي أن أؤكل يوم أكل الثور الأبيض، وذكرني بأن ما فعلته في الماضي لم يحمني من السجن، ونسي أنني لو لم أفعله وأنا بكامل قواي العقلية لما أوصلني إلى السجن أي شيء! ما علينا، يستمد موضوع هذه المقالة أهميته من تباين مواقف الناس حول ما يدور في بلادنا: سوريا، التي نحبها جميعاً ونريد أن تخرج من أزمتها الراهنة إلى ما فيه حرية وحقوق شعبها، وسلامها وأمنها واستمرارها كدولة هي ركن المشرق العربي، إن أصابها ـ لا سمح الله ـ مكروه، كان في ذلك نهايتها ونهايته، خاصة بعد مأساتي فلسطين والعراق .
سأستعرض في عجالة أحد محددات موقفي من أزمة سوريا الحالية، بدءاً بأشد تظاهراتها عمقاً: أعني إنكار طابعها كأزمة والتعامل معها كمؤامرة، مع ما يترتب على ذلك من مشكلات تزيدها، كأزمة، تعقيداً وتجعلها عصية أكثر فأكثر على الحل، بالنظر إلى أنها تدفع بعض مكونات الوضع وعناصره وقواه إلى الهامشية، وبعضها الآخر إلى مواقف تصعيد متقابلة تفاقم طابعها والأحوال العامة، وتضفي عليهما عنفاً لا يني يتعاظم، مع أن المطلوب حل الأزمة، بروية يُمليها وعي الواقع على حقيقته، كأزمة، ورؤية منفتحة على الإقرار بما قد يكون هناك من أخطاء والاعتراف بأن للآخر حقوقاً يجب أن تلبى.
لا حاجة إلى القول: إن التعامل مع أزمة يختلف اختلافاً جذرياً عن التعامل مع مؤامرة. الأزمة مشكلة أو جملة مشكلات لم تحل. وهي تفقد صفتها كأزمة بمجرد أن توجد لها حلول تتفق مع طبيعتها، التي قد تضم عوامل اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو ثقافية… الخ، فإن أحجم المعنيون عن حلّها بوسائل تزيل أسبابها، تحوّلت إلى أزمة مستعصية وانعكست أكثر فأكثر على الحياة العامة في جملتها، خاصة إن كانت مركبة واكتسبت بعداً اجتماعياً يدفع الناس إلى المطالبة بإزالتها، عبر إصلاحات تتخطّى مظاهرها الخارجية إلى الأبنية العامة العميقة التي أنتجتها، إن كانت من طبيعة شاملة. في هذه الحالة، تغدو الأزمة عاملاً كاشفاً يفصح عن طبيعة الأمر القائم وأهلية القائمين عليه، ونوعية تفكيرهم وخياراتهم وارتباطاتهم، ينجم عنها تغيير يخرج الواقع من مأزق لا خلاص منه في إطار الوضع الذي أنجبه وبمفرداته، ويأخذه إلى بديل هو بداية تكوينية جديدة بالنسبة إلى سائر أطرافه. بقول آخر: ثمة في كل أزمة سياسات ومصالح ومجموعات اجتماعية وقوى سياسية وخيارات وثقافة وتوافق واختلاف وبدائل، فهي كالمرض تمتحن صحة الجسم السياسي والمجتمعي، وتبين قدرتهما على التفاعل، ونوع التفاعل، مع ما ينشأ فيهما من مشكلات، إن أهملا حلها انقلبت إلى أزمة، وإن استمرت أدت إلى انعكاسات تطاول مجمل البنيان المادي والروحي للبلد، والإجماع الوطني وعلاقات الحقل السياسي، ورؤى وخيارات مكوناته، وأنتجت تناقضات متفجرة الطابع، خاصة أن وقع خلاف بين أهل الحل والعقد حول سبل التصدي لها، تحول إلى صراع داخلهم قد يبدأ محدوداً لكنه يتسع ويتفاقم باستمرارها، إلى أن يصير جزءاً منها يسهم في شل قدرة من يتصدون لها وفي إضعاف مسعاهم، خاصة إن نشأ توازن بين القوى المتصارعة يمنع أو يصعّب الخروج منها، أو إذا دخلت قوى خارجية على خط الصراع، وشرعت تمسك بالمفاتيح التي تمكّنها من إدارته لمصلحتها. نحن اليوم ـ للأسف – على مشارف وضع كهذا، فالأزمة لا تحلّ بالوسائل التي تستخدم للتخلص منها، وهي تدخل أكثر فأكثر في طور احتدام واحتجاز داخلي، وتنفتح أكثر فأكثر على تدخلات خارجية ستبدّل طابعها، وتزيدها تعقيداً، وتضعف أطرافها.
ليست الأزمة العامة: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية… الخ، التي تواجه مجتمعاً أو نظاماً ما ولا يمكن أن تكون مؤامرة، ما دامت الأزمة التي تنجم عن مؤامرة من طبيعة أمنية/ سياسية، وبما أنها تكون محدودة وتتجه ضد أو تقتصر على قوى تعمل غالباً في الصعيد السياسي، وتنصبّ على جوانب من علاقات مكوّناته، وتستخدم في حلها وسائل سرية غالباً، وتذهب دوماً نحو العنف وكثيراً ما تنهض عليه، بحيث لا يعقل أن ينخرط مئات آلاف أو ملايين المواطنين في أي وطن، من المطالبين علانية بحقوق تنتمي إلى الحقل السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي، أو إلى هذه الحقول مجتمعة، في مؤامرة، أو يكون لحراكها طابع المؤامرة: الذي يتسم بطابع فئوي/ أقلوي وسري، ويكون غير دستوري وشرعي. من هنا، لا تقهر المؤامرة بالوسائل التي تحلّ الأزمات، ولا تنتمي إلى الحاضنة التي تنتسب الأزمة إليها، وإذا كانت الأزمات تستغلّ من قبل من يريدون الانخراط في مؤامرات، فإنها تبقى مختلفة عن الأخيرة، في طابعها ومداها وحواملها وسبل معالجتها، فالأزمة، متى صارت عامة بصورة خاصة، لا تعالج بالقوة، لأن موضوعاتها ليست أمنية أصلاً، رغم أنها تترك انعكاسات واضحة على صعيد الوحدة الوطنية والنظام العام، بينما تعالج المؤامرة بواسطة الأمن وسياساته.
ثمة علامات تشير إلى أن النظام في سوريا لا يرى ما يحدث كمؤامرة، وإن قال إعلامه وتصريحات بعض مسؤوليه ذلك. لو كان يعتبره مؤامرة، لما قال بالحوار الوطني ووعد بإجرائه، علماً بأن الحل الأمني يعني، بالمقابل، أنه يتعامل معها، بما هي أزمة، من خلال وسائل لا تصلح للتخلص منها. هنا يكمن جزء مهم من المشكلة التي نواجهها جميعاً: مشكلة الإقرار الضمني بوجود أزمة يتم إنكارها علناً والتعامل معها بصفتها هذه، ومعالجتها كمؤامرة وبوسائل مكافحة المؤامرات، التي لن تنجح في حلها، لكونها تستهدفها حيث لا توجد، مع ما يترتب على ذلك من تفاقم في الأزمة خاصة، وفي الأوضاع العامة إجمالاً، ومن تخلق بيئة للتآمر ولقرينه: العنف، ليس النجاح في كبتها وحتى التخلص منها كافياً بأي حال للتخلص من الأزمة، التي ستستمر في التفاقم نتيجة الامتناع عن التصدي لها بصورة مباشرة وصريحة، حيث هي قائمة ومنذ فترة طويلة: في السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة… الخ، كما في علاقات هذه الحقول بعضها ببعض، وعلاقات السلطة بالدولة والمجتمع والعكس… الخ.
لا بد من معالجة الوضع السوري الراهن باعتباره نتاج أزمة لا تحل بالقوة، ولا بد من حل سياسي لها يتم في حاضنة عامة تجمع الأطراف الراغبة في حلها والقادرة عليه من سلطة ومعارضة، على أن يكون للمواطن العادي، المطالب بحلها، أي بحصته من الحرية والثروة، دور فاعل فيه، يبدل موقعه من الحياة العامة، ويتيح له الانتقال من هوامشها الخارجية إلى مركزها، ضمن علاقة جديدة بينه وبين السلطة والدولة، تنهض على أسس متوافق عليها يتم بلوغها حوارياً وسلمياً: من دون عنف أو إكراه وخارج أي فكر أو فعل تمليهما موازين قوى تفرض العنف والإكراه. هذا الحل يجب أن يتم في إطار وحدة الجماعة الوطنية السورية، وسلامة وأمن مكوناتها جميعها، ولا مفر من أن يكون نتاج تسوية تاريخية حاملها الرئيس المجتمع المطالب بالتغيير وتعبيراته السياسية، على أن يكون المتمتع الرئيس بثمارها وعوائدها، من دون أن يعني ذلك الانخراط في صراعات نهائية، ووقوع انقلابات لا يعرف أحد نتائجها، في بلاد صار من الواضح أنها تعاني من نقاط ضعف ترتبت على طول وتشعّب أزمتها، بعد أن نحّت نخبها السائدة السياسة عن علاقاتها مع مجتمعها، وأحلت محلها قدراً غير سياسي من العنف، كأنها لا تريد العقد الاجتماعي ولا تقبل أية صورة من صوره، ولا تعلم أن المواطن يتخلى للدولة عن حقه في العنف مقابل منحه الحق في الأمن، في جل مشكلاته بالسياسة وليس بالعنف، وأن احتكارها للعنف يعني امتناعها عن استخدامه، وإخراجه نهائياً من الشأن العام، وعدم اللجوء إليه خلال الأزمات، وحتى عند التصدي للمؤامرات، التي لا بد أن تفشلها السياسة ووسائلها: بصورة استباقية دوماً، فإن حدث ووقعت بالعنف في حدود دنيا ومدروسة تطاول المتآمرين أنفسهم، بينما يستمر بقية المواطنين في التنعم بالسلام والأمن، وممارسة أدوارهم العادية في أجواء من الطمأنينة والحرية.
لا يحق لأي سوري التعامل بغباء مع وطنه، وإلا ضاع وأسهم في ضياعه. ولا يحق لأحد أن يخرجنا من الوضع الحالي إلى وضع أسوأ منه، حبا بشعارات براقة أو مغرية، أكان ذلك بالأصالة عن نفسه أم تقليدا لحالات عربية ودولية عرفتها بلدان أخرى، لا يضمن نجاحها هناك نجاحها في تحقيق الهدف ذاته هنا، كما لا يضمن بقاء سوريا على حالها الراهن، وطنيا ومجتمعيا. لذلك، لا بد من حل سياسي يتصدي بكل جدية للأزمة القائمة، وهي مزمنة وصعبة ومن نتاج السياسات والخيارات الرسمية، لننتقل سلميا وتوافقيا وفي إطار آمن يلبي حاجة جميع السوريين إلى نظام حريات يحفظ مكونات الحقل السياسي السوري، وإن أعاد النظر في أوزانها وأدوارها، ويضع بلادنا أمام تاريخ جديد هو لنا جميعا، نطوي معه ما نعانيه اليوم، وعانينا منه خلال تاريخنا الحديث كله، من ظلم وتهميش، نرى فيه الأمل الذي بقي لنا، وإسهامنا الوطني والقومي والإنساني في نهوض عربي نعيش بداياته، ولا بد أن يكون لنا فيه دور يليق بنا كمواطنين عرب أحرار يعرفون كيف يعالجون مشكلاتهم، ويحافظون على سلامة وقوة وحرية دولتهم ومجتمعهم!
[ كاتب وسياسي من سوريا