من المقاومات القومية إلى “المقاومة – المأدبة”/ وسام سعادة
يعتبر «حزب الله» نفسه «أشرف المقاومات». في أكثر من مناسبة حرص زعيمه الحالي على المفاضلة بين النموذجين الفرنسي والشيعي اللبناني الخميني للمقاومة. فأعتبر أن مقاومته هو، بخلاف تلك الفرنسية، تجنّبت الثأرية حين كان بمقدورها الاقتصاص من العملاء الحدوديين لإسرائيل، كما أنّها تعفّفت عن «المآل الطبيعي» لأي مقاومة عند التحرير، وهو استلام السلطة. النموذج اليوغوسلافي يصح كمثال على المآل هذا، لكنه نموذج نادر لا قانون، فضلاً عن ارتباطه بفكرة ما فوق قومية، هي الفكرة اليوغوسلافية، واذا كان بالمقدور اعتبار شخصية بقامة جوزيف بروز تيتو متعالية على الشوفينيتين الصربية والكرواتية، فمن الصعب اعتبار السيد حسن نصر الله «تيتوياً» بين الطوائف، كما أن تيتو لم يتأخر في الاصطدام مع الأخ الأكبر، السوفييتي، في حين أن معدل الارتباط الشرعي والعضوي لـ»حزب الله» بإيران لم ينخفض، بل تضاعف، بعد تحرير جنوب لبنان. كل هذا، ولن تجد أحداً من الصرب والكروات اليوم يقرّ بحيادية تيتو في التنافر بين القوميات. الصرب يرونه كرواتياً، والكروات يرونه خائناً لقوميتهم لصالح اقامة دولة يهيمن عليها الصرب، بطربوش جسده هو.
ليس صحيحاً أن المقاومة وصلت في فرنسا وايطاليا بعد التحرير إلى الحكم. فصائلها الرئيسية، الشيوعيون، وصلت بالأحرى إلى المعارضة البرلمانية، وارتضت «بقسمتها» هذه، في خضم الحرب الباردة. أما في اليونان فتركت المقاومة الشيوعية تذبح في حرب أهلية تلت الاحتلال الألماني.
في ليتوانيا واوكرانيا الغربية، كان التحرير بحد ذاته احتلالاً. واجهته مقاومة غفلت عنها العين لعقود، وانخرط بها، لأزيد من عشر سنوات بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، مئات الآلاف، ضد عودة الحكم السوفييتي. والمآل الطبيعي هنا، كان انتصار «المقاومة السوفييتية»، على «أخوة الغابات» كما تسمّوا، وكما هم يمجدون اليوم في دول البلطيق وفي غرب أوكرانيا.
المقاومة مفهوم مفتاحي من مفاهيم القرن العشرين، من السوء بمكان تقبيحه بشكل مطلق بحجة أنه يستر الاقتتال الأهلي بالتعبئة ضد الاستعمار، فقط للرد على استعادة «حزب الله» له، كما من العقم حصر كل المسألة بإنكار السمة «المقاوماتية» للحزب، بتعظيم معاني المقاومة ومآثرها، مشخصة في تجارب سواه، واعفاءه هو من امتيازاتها. عندما تصر جماعة من الناس على أنها «مقاومة»، لا يمكن عدم أخذ هذا الأمر بجدية. لكن عندما تصر هذه «المقاومة» على أنها «أشرف المقاومات» نكون أمام مقدار من الشطط. هذا الشطط سيجعلها، مع مرور الوقت، أسوأ المقاومات.
كيف هذا؟
تشريف «حزب الله» لنفسه فوق باقي المقاومات منعه من تدبر جملة أمور. أبسطها أن الحرب اللبنانية خيضت بين «مقاومات»: الفلسطينية، و»اللبنانية» (أي المارونية)، و»الوطنية» (أي اليسارية، والموالية لسوريا وليبيا أغلب الوقت)، و»الشيعية غير الخمينية» (أفواج المقاومة اللبنانية – أمل)، التي خاضت فصلاً من الحرب الأهلية مع المقاومة «الشيعية الخمينية» («الإسلامية»). ثانيها أن المقاومات في التاريخ المعاصر ترتبط اما بحركات قومية واما بحركات تحرر. يدخل في المقاومات المستندة إلى حركات قومية، «جيش التحرير الاوكراني» بقيادة ستيبان بانديرا الذي حارب السوفيات إلى جانب الألمان، وأحياناً اشتبك مع الألمان نفسهم، خلال الحرب. في استونيا او في ليتوانيا كذلك الامر اليوم، عندما يتحدثون عن «المقاومة» يعنون بها، من تحالف أو «تقاطع» مع الألمان خلال اجتياحهم للاتحاد السوفييتي. لا يلغي ذلك انهم مقاومة، فهم لا يعتبرون المقاومة «أقنوماً»، انما تعبير كفاحي عن حركة قومية، تريد اوكرانيا حرة، أو ليتوانيا حرة.
حركات التحرر الوطني في المستعمرات لم تطرح هي الأخرى المقاومة كأقنوم بذاته. عطفت المقاومة على «الثورة الوطنية الديمقراطية». الثورة الجزائرية، الثورة الفيتنامية، كمثالين أساسيين، يحضران هنا. هنا المقاومة تتجاوز نفسها، وبصرف النظر عن التفاوت في الحصيلة بين فيتنام والجزائر فالمشترك ربط المقاومة بتشكيل دولة أمة.
في المقابل، «حزب الله» مقاومة «أقنومية». من هنا، حرصه، الحساس المرهف جداً، على عدم خدش هذه الصورة، في مقابل قلة اهتمام المقاومات العنيدات في القرن الماضي بـ»الكوزمتك المقاومة» إلى هذا الحد. ومن هنا، توتر مستعر لكون المقاومة التي يجسدها الحزب ليست لها حركة قومية تعرّف عنها، ولا حركة تحرر وطني تتحرّك فيها، إلا إذا اعتبرنا حلفاء الحزب التابعين له يشكلون مداد هذه الحركة، أو إذا اعتبرنا حلفاءه الذين يتبع لهم، كنظام الملالي في إيران ونظام ال الاسد في سوريا، يشكلون هذه الحركة على صعيد الاقليم. طبعاً، يمكن للحزب أن ينسجم أكثر مع حيثيته، ويقول إنه حركة المقاومة لشيعة لبنان، فيكون بذلك مقاومة مرتبطة بما يعرف بالقوميات الإثنية (اذا ما اعتبرنا أن هناك قوميات اثنية لا يمكن لوحدها ان تشكّل دولة أمة، وقوميات وطنية، متجانسة أو متعدة اثنياً، انما يمكنها، بل تحتاج، إلى التحقق في دولة أمة). حتى تدخله في سوريا، كان يمكن أن يجد في هذه الحالة تبريره، بحصره بهذه الجزئية فقط: الدفاع عن «الإثنية المذهبية».
لكن الحزب لا يقنع بذلك. يريد لمقاومته ان تكون اثنية وأممية في الوقت نفسه، تأخذ على المقاومات السابقة أنها كانت مقاومات تقدمية، وتعتبر نفسها مقاومة ضد الجهاديين أيضاً وليس فقط الاسرائيليين، بدعوى أنها تحارب الرجعيين.
كل هذا الشطط المتراكم سيصل في آخر الأمر إلى «لحظة مضايا». الاختلاط الكابوسي، بين المعيارين الاثني المذهبي، والأممي الخمينوي، بين الحب «الطاهر» للنظام الإيراني والالتزام بلا حب تجاه النظام السوري، بين محاربة الرجعية ورفض التقدمية بما فيها تلك البعثية ذات الرائحة الأموية، سيفضي إلى مقاومة بوليمية، شرهة بازاء مريض وجائع. مقاومة – مأدبة تعلك شعاراً من قبيل «من يقاوم يأكل» وهي لا زالت تمني الذات والآخر بطاووسية، بأنها أشرف من تلك الفرنسية، وأشرف من تلك الفيتنامية.
٭ كاتب لبناني
القدس العربي