صفحات الرأي

«أساطير الآخرين» لياسين الحاج صالح


ترتيب العلاقة بين السماء والأرض

عمر كوش

ينشغل ياسين الحاج صالح في كتابه «أساطير الآخرين» (بيروت، 2011) بالمسألة الإسلامية، بوصفها جملة من الإشكاليات والقضايا، الفكرية والأخلاقية والسياسية، التي يثيرها، ويطرحها، وضع الإسلام في عصرنا الراهن. ويتبع طريقة تحليلية وتفكيكية، تنهض على إنتاج أدوات حفرها، التي توظفها في الموضع المناسب، وحين تدعو الحاجة إليها. وهو ما يتطلبه استشكال الإسلام، واستنطاقه ومساءلته، بغية خلخلة منطق الوحدة والمطابقة، الذي اعتاد الدارسون سلوك دروبه المعتمة، والغرق في تفاصيله الميتافيزيقية.

ويبدو أن النظر إلى المشكل الإسلامي في إطار استقلاليته، وإلى الإسلام المتشكل في سياق التجربة التاريخية، يقتضي تركيز الاشتغال النقدي في إطار السعي إلى الكشف عن جذور المشكلة، عبر الحفر في طبقاتها المتراكمة، وعن آلية اشتغال دعاوى التميز والاستثناء والخصوصية، وأدوات وظروف أنتجها، اعتماداً على المنهج النقدي، وبهدف فتح الإسلام على أسئلة الحاضر، ومعرفة كيفية تشكله التاريخي والإنساني، إلى جانب تحديد مكامن ومواضع الخلل في التعاطي مع الإسلام المعاصر، مع الأخذ بعين الاعتبار الفارق الزمني بين الماضي والحاضر.

ويعي ياسين الحاج صالح، تماماً، متطلبات وإرهاصات منهجية تقرّ باستقلال المشكلة الإسلامية، كونه يقف على التضاد مع دعاوى اختزال المشكلة الإسلامية، وتذويبها في مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية وسوى ذلك. ويقف، أيضاً، على التضاد مع من يقرر أن الإسلام هو المشكلة الأساسية في مجتمعاتنا ولدولنا، لكن ما يثيره هي تلك الطبقات التي تراكمت، منذ عدة عقود خلت، في التفكير العلماني حيال وضع الإسلام عربياً، وأفضت إلى بروز تيار ثقافوي عربي، ماهوي ولا تاريخي، يرجع مشكلات العرب السياسية والحضارية إلى الثقافة، وإلى الدين الإسلامي في نسخته السنيّة على وجه الخصوص. ومقابل ذلك، ينهض الطرح الاختزالي، المفرط في تاريخيته، الذي يرجع تردي أحوال العرب والمسلمين ومشكلاتهم إلى جملة من العوامل السياسية والاقتصادية والديموغرافيه وسواها، فيما تغدو المشكلة الإسلامية، بالنسبة إلى أصحابه، مجرد أثر، يزول بزوال وصفات، تتضمن حلولاً تنهي تلك المشكلات، وتحسن الأوضاع.

استقلال المشكلة

غير أن انحياز تفكير ياسين الحاج صالح إلى القول باستقلال المشكلة الإسلامية، يأتي بوصفه حجر الزاوية في التناول العلماني للشأن الإسلامي، والذي يعتبر الدين ظاهرة دنيوية، لها وجودها وتعينها في العالم وفي التاريخ، وفي مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ومن الواجب الإحاطة بأوضاعها ونظمها من أجل فهم وضع الدين فيها، ذلك أن الدين لا يفسر نفسه، ولا يفسر المجتمعات والثقافة والسياسة إلا في بعض تفاصيلها. فيما تبزر الحاجة إلى فهم المجتمعات والثقافة والسياسة، وإلى فهم بنيته هو، لتفسيره وفهم تغيراته. كما أن اعتبار الدين ظاهرة تاريخية، يفضي إلى عدم اعتباره مماثلاً لنفسه على الدوام، لأنه يتغير ويتحول بتغير البيئات الاجتماعية وبتبدل التواريخ والعصور، وبتوسط بنيته الخاصة. وباعتبار عملية تشكل الإسلام التاريخية هي مستمرة، وغير متجانسة، فإنها تشي بإمكانية إصلاحه من حيث المبدأ، وبإمكانية ضبط مجال الدين وتمييزه عن السياسة والمعرفة والأخلاق، وتشكيله وفق صورة تاريخية مغايرة للصورة التي تشكل عليها في عصرنا الراهن، وقام بها ـ تاريخياً ـ بشر من أوساط المسلمين، من العرب وسواهم.

ويجري في التناول النقدي إدراك الاسلام باعتباره ميراث العرب وسندهم التاريخي، وبوصفه ديناً يعتنقه المسلمون المؤمنون، من مختلف المشارب والمنابت. إضافة إلى تحوله إلى إيديولوجيا سياسية لمجمل حركات الإسلام السياسي الحديثة، الساعية إلى توظيف الدين من أجل الوصول إلى السلطة، والتي تضع الإسلام فوق القواعد العامة والقوانين الموضوعية، بوصفه استثناء. كما أن التلاعب بالدين لأغراض الدنيا ومصالحها لم يتوقف أبداً، وجرت عمليات واسعة لتوظيفه، بغية إضفاء الشرعية على السلطات السياسية وتسويغ مطامحها الدنيوية، الأمر الذي يفرض الإصلاح في الاسلام، والانتقال من الدين الصلب إلى الدين الليّن، بمعنى تحويل علاقة الإسلام بالدولة والأمة والعلم والاخلاق والقانون من علاقة لا تاريخية إلى علاقة تاريخية، كونه ثمرة التاريخ أكثر من الرسالة، والتاريخ مرتبط بصورة وثيقة بالتجربة الاسلامية المكونة، بوصفها تجربة اندمجت فيها الرسالة بالحرب والدولة. لذلك من شأن سلطة دينية مكتملة الشخصية، وواثقة من نفسها، أن تكون أجسر على اتخاذ قرارات فكرية تساهم في إعادة هيكلة الإيمان الإسلامي حول حرية الاعتقاد وإيلاء الأولوية للإيمان الفردي.

الهجرة

ويعتبر ياسين الحاج صالح أن الحدث المؤسس للإسلام كأمة، هو الهجرة من مكة إلى يثرب. وما كان ممكناً تأسيس الأمة لولا قطع صلات وروابط الدم والأهل والقبيلة، فالهجرة أسست للتحول من الطبيعة إلى الثقافة، ومن القبيلة إلى الأمة، وبالتالي من الجاهلية إلى الإسلام. لذلك ينظر إلى عودة النبي إلى المدينة، بعد فتح مكة، بمثابة تثبيت لمعنى القطع مع القبيلة والطبيعة لمصلحة الأمة والثقافة، وبالتالي، فإن ما حصل في السقيفة، كان بداية التمزق الإسلامي، كونه أعلن عن استبعاد الأمة لصالح النكوص إلى القبيلة، وحيث عادت الجاهلية، التي هزمت بالدعوة وبالحرب، كي تنتصر أيضاً بالحرب، ومعها تجددت القبيلة وتمزقت الأمة.

وتشكل الإسلام، مع الفتوحات الإسلامية، كسلطة إمبراطورية، ليجد نفسه أكثر ابتعاداً عن الجوهر الديني للدعوة الإسلامية، بعد أن أطلق ديناميات تاريخية وسياسية واجتماعية ارتدت عليه تهميشاً، وارتدت على العرب غربة وضياعاً. وقد جسد ذلك مكر التاريخ بالإسلام المنتصر، وزاد الأمر تعقيداً ما أنتجته الإمبراطورية الإسلامية من خطابات وتحديات وتبعات.

والدولة التي بناها النبي ورثها منه الخلفاء من خلال الحرب، وعنى ذلك تحولاً سريعاً لمركز ثقل الإسلام إلى الدولة التي قامت على نشاط حربي، والتي ورثها أبناء قريش الذين عارضوا دعوة النبي في البداية، ثم آلت الوراثة إلى بني أمية، بوصفها العشيرة الأقوى في ذلك الوقت. وقد وسم هذا التحول المشروع الإسلامي المركب، الذي حمل توترات صميمية بين الأمة والقبيلة، بين الهدى والأمر، والصدر المنشرح والقلوب المؤلفة. حيث عنت مكة القبيلة وانشراح الصدر، فيما عنت المدينة الأمة وتأليف القلوب، وهو تركيب تجد فيه المقولة المعاصرة «الإسلام دين ودولة» أساسها.

أما اليوم، فيرى ياسين الحاج صالح أن إمكانية إعادة بناء الدين الإسلامي أو إصلاحه، عليها أن تمرّ عبر استقلال القرآن، بمعنى تحريره من الشريعة، وإعادة تأسيس شرعية الأخيرة عليه، إذ من شأن استقلال القرآن أن ينعكس على الإسلام، من خلال تشكيله في صورة مختلفة، تعيد توزيع علاقات السلطة والقوة فيه، لمصلحة الإيماني والروحي وانشراح الصدر، والقرآن المكي، وتخضع له البعد التشريعي والقرآن المدني وتأليف القلوب. ثم يعتبر أن الشرط الجوهري للإسلام في عالم اليوم هو انبعاث الوضعية الكلامية مجدداً، نظراً لبروز متغيرات وتحديات عديدة أمام الإسلام، ولتجدد أزمة الضمير الإسلامي، بفعل الصراع الإسلامي الإسلامي المتعدد المستويات، وتوتر علاقة المسلمين مع العالم المعاصر، وسوى ذلك كثير.

ويمكن لمتكلم حديث أن يتفاعل بجدية مع هذه الأمور، من خلال فتح نوافذ العقائد الإيمانية على العقل، وعلى الحداثة، منطلقاً من ضرورة أن يتحدث الإسلام، ويتصالح مع الحدث، كي يستطيع مواجهة تحديات الحداثة ومصارعتها.

بالمقابل، ما زال يردد مفكرو وأنصار الإسلام السياسي، دعوات تعتبر أن الإسلام هو الحل للأزمة الشاملة التي تعصف بالبلدان والمجتمعات العربية، وتريده أن يكون ديناً ودولة وأخلاقاً وجيشاً وعقيدة وثقافة، مع أنه ليس بوسع الإسلام أن يكون، اليوم، دولة أو علماً مهما فعل أصحاب هذه الدعوات، إذ ثمة عوائق ظرفية ومفهومية تحول دون ذلك، تجسدها المتغيرات والتطورات المعرفية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية الهائلة في عالم اليوم، إلى جانب أن العبارة القرآنية «لا إكراه في الدين»، يرى فيها ياسين الحاج صالح التعريف الصحيح للدين، فكيف يمكن جعل ما لا إكراه فيه دولة، التي يقوم أساسها على الإكراه.

أخيراً، يمكن القول إن سعي ياسين الحاج صالح في تناول المسألة الإسلامية، ينفتح على آفاق عديدة، فكرية وثقافية وأخلاقية وسياسية، ولعل الأفق القيمي فيه، ينهص على محاولة إعادة ترتيب العلاقة بين السماء والأرض على أسس دستورية وقانونية، بما ينتج استقلالاً واسعاً للناس والدنيا، ويؤسس لمعنى الحرية، التي ظلت تحايث مختلف صفحات كتابه، والتي تنشدها شعوبنا العربية، وتقدم لأجلها الشهداء ومختلف التضحيات في الشوارع والساحات، والأمل معقود على المستقبل، الذي بدأ يلوح في الأفق القريب مع فجر الثورات العربية.

(كاتب سوري)

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى