«إملاءات» الخارج ومطالـب الداخـل
فواز طرابلسي
تبدو الكتابة عن الازمة السورية – عشية انعقاد اجتماع الوزراء العرب في الدار البيضاء ـ كأنها تكرار للكلام بواسطة الكلام ذاته، على الرغم من تطورات تزداد تسارعاً ودموية وخطورة. منها قرار الجامعة العربية تعليق عضوية سوريا، وتصعيد الموقف الاميركي الذي يدعو الدول العربية الى سحب سفرائها من دمشق وتكرار الدعوة لتنحي الرئيس الاسد والتحريض على عدم تسليم الاسلحة، وحديث المليك الهاشمي بدوره عن التنحي (ويا للصدفة!)، وتصاعد عدد القتلى في يوم واحد الى عشرات القتلى معظمهم ضحايا معارك بين قوات مسلحة نظامية وما قيل إنها عناصر عسكرية منشقّة، وأخيراً وليس آخراً عودة الحديث والوعيد عن «المناطق العازلة» شمالاً او جنوباً.
التكرار لأن الموضوع هو هو منذ البداية. ثمة نظام يعيش «حالة إنكار» لما يجري في بلاده ويمارس ذاك الإنكار بما هو تفسير ونهج وسياسة. ينكر وجود أزمة داخلية فيلقي تبعاتها على «خارج» ومن قبيل التداعي على «مخطط» بل «مؤامرة». وهو نظام ينكر، من جهة ثانية، أن الشكل الرئيس للعنف الذي يمارس الآن في سوريا بدأ بعنف مارسته أجهزته الأمنية والعسكرية ضد حركات احتجاج مدنية. وكلما كان النظام يمعن في هذا الإنكار وفي القمع، على امتداد الاشهر الثمانية الاخيرة، كان يتنامى الاحتجاج وتتسع رقعته وتتصاعد مطالبه وصولاً الى تحول الاحتجاج الى حركة شعبية عارمة تدعو لإسقاط النظام، بل هو أفضى الى لجوء عناصر مدنية وعسكرية الى العمل المسلح ضده.
وبدلاً من ان تشكل هذه التطورات الصدمة التي تخرج النظام من حالة الانكار يبدو انها تزيده تأكيداً على «الخورجة». إن نظاماً درج على اعتماد الدور الخارجي بما هو الواسطة الرئيسية لفرض شرعيته وسيطرته الداخليتين لا يبدو انه يملك غير الخارج يلقي عليه تبعات ازماته ـ ويفاوضه عليها ـ على امل ان يسهم هذا الخارج، كما السابق، في طمس المشاكل الداخلية وتجديد شرعية النظام.
ولما كانت الازمة بالدرجة الاولى خارجية لا بد لها من «إخراج» فحريّ ان يكون خير تعبير عنها على لسان وزير الخارجية وليد المعلّم في لقائه الأخير مع اجهزة الاعلام.
قد يقال إن الجامعة العربية لم تمهل الطرف السوري ما يكفي من الوقت لتنفيذ ما وعد به حين قبل المبادرة. لكن المؤكد ان دمشق تعاطت مع المبادرة بما هي قبل أي شيء آخر تغطية لمحاولة من المحاولات المتعددة لتحقيق حسم عسكري يزداد استحالة، بل ان الدبلوماسية السورية قدّمت فهماً للمبادرة العربية لا يختلف بشيء عما هي سائرة عليه من نهج وسياسات منذ بداية الأزمة.
فسّر الوزير المعلم «وقف أعمال العنف من أي مصدر كان» انه يعني وقف العنف «الخارجي» ضد النظام بأوجهه العسكرية والاقتصادية والرمزية. والمطالب السورية الرسمية هنا هي ضبط الحدود مع الجوار لمنع تهريب السلاح، ووقف الحوالات المالية الآتية من الخليج (المقصود الى المعارضة طبعاً) ووقف الحملات الإعلامية (من محطة «الجزيرة» خصوصاً)، الخ. حتى ان الوزير المعلّم عرض ببراءة انه في حال تنفيذ هذا البند الاعلامي الاخير، سوف تسمح السلطات السورية بفتح مكتب لـ«الجزيرة» في دمشق. والاطرف انه روى ان الجانب القطري وعد، في حال إتمام الصفقة بين البلدين، بتجنيد الفقيه المتلفز القرضاوي و«مثقفي» المحطة من اجل دعم الحل. وهو أمر لا يشرّف لا الفقيه المتلفز ولا «مثقفي» قناة «الجزيرة»، كائنين من كانوا. فلا عجب، بعد هذا، ان يتوّج موضوع «وقف العنف» بالدعوة التي وجهها وزير الداخلية السوري إلى «المسلحين» لتسليم السلاح لنيل العفو.
باختصار، «العنف من اي مصدر كان» يعني اي شيء وكل شيء الا الاعتراف بالعنف الذي تمارسه الاجهزة الامنية والعسكرية للنظام ضد محتجين ومتظاهرين كانوا في الأساس سلميين وهو العنف المسؤول حتى الآن عن القسم الاكبر من ضحايا هذه الازمة، ناهيك عن عشرات الألوف من المفقودين والمعتقلين وعن أعمال التعذيب والخطف والتهديد. وليس غريباً بعد هذا أن يدور الخلاف بين السلطات السورية والجامعة العربية على تعريف «وقف العنف» وكيفية مراقبته.
يكتمل إنكار العنف بإنكار عملي لوجود المعارضة. وقد تقدّم الوزير المعلّم بتفسير جديد لسبب الإصرار على أن يتم الحوار في دمشق هو وجود «ملايين في سوريا ليسوا من السلطة ولا من المعارضة ولديهم مطالب». وهكذا فدمشقية الحوار تعني رفض الحوار بين سلطة ومعارضة، علماً أنها لا تمنع الوزير المعلّم من الترحيب بدور تلعبه روسيا في الحوار الوطني السوري مع الإيحاء بأنه يمكن ان يتم في موسكو على ما أوحت السلطات الروسية غير مرة. فروسيا صاحبة مونة طالما انها «تخورج» الازمة هي ايضاً، متهمة طرفاً خارجياً، لا تسمّيه طبعاً، بمنع السوريين من الاتفاق فيما بينهم.
قد يبدو تطمين الوزير المعلّم بأن «السيناريو» الليبي لن يتكرر في سوريا كأنه الشواذ عن قاعدة «الخورجة». الحقيقة انه في الصميم منها. فالأسباب التي تحول دون التدخل الاطلسي العسكري، حسب روايته، هي اسباب «خارجية» بامتياز: الازمة الاقتصادية العالمية (علماً ان الازمة سابقة على تطبيق «السيناريو» الليبي ولم تحل دون تطبيقه). والاغرب هو القول إن سوريا، على خلاف ليبيا، دولة مواجهة مع اسرائيل ولها ارض محتلة. وهي حجة – خارجية طبعاً – على مستوى عال من الالتباس الدبلوماسي تنزل في منزلة بين منزلتين على أقل تقدير، تصلح لتذكير دول الجامعة العربية بدور سوريا القومي «المواجِه» لاسرائيل، ولكنه تذكير بلهجة هي الأقرب الى رفع العتب، وتصلح الحجة ذاتها لإيحاء شبيه بتهديد أطلقه رامي مخلوف ذات مرة من أن العبث بالنظام السوري سوف يهدّد امن اسرائيل.
ليس من حاجة لنظرية مؤامرة للاعتراف بأن الحاكم القطري يقدّم نفسه ـ في الازمة السورية كما في الازمة الليبية وغيرهما ـ بما هو وكيل عن قوى غربية، او هو يستبق تدخلها ليلعب دور الوسيط من اجل الحل العربي. يلعب الحاكم التركي هو ايضاً على الحد الفاصل بين الدورين. وبينهما تسعى مصر المجلس الاعلى للقوات المسلحة الى لعب دورها عبر جامعة الدول العربية وامينها العام مع ما يحمله من انزعاج من الاحتكار القطري. فيما الصمت يلفّ الموقف السعودي ولكنه صمت ليس مرشحاً لأن يطول. يراهن الحاكم القطري على انه لا بد أنه رابح في واحد من الدورين. فليس غريباً ان تتساءل دمشق: هل تمثل الدوحة نفسها ام هي تنقل «الإملاءات» الاميركية؟
الغريب هو لماذا لا يستطيع الحاكم السوري ان يستمع الى مطالب شريحة حيوية من شعبه، تضم قسماً كبيراً من الشباب، تحتجّ وتعارض، وتجمع على المطالبة بوقف القتل والاعتقال والقمع وفتح الحوار، بديلاً من ان يستمع الى «إملاءات» اميركا ينقلها اليه رئيس وزراء قطر؟
سؤال سخيف، اليس كذلك؟
والأسخف ان تبدو اميركا وكأنها هي التي تملي على النظام في دمشق ان يتوقف عن قتل شعبه وان يحاور معارضيه!
السفير