«الثورة غداً » مسرحية تتضامن مع المتظاهرين في سوريا
في الثقافة لا عودة إلى الوراء
راشد عيسى
لم يتح للسوريين بعد ميدانهم المأمول الذي يمكن أن يتحول، على غرار ميدان التحرير، فسحة لكرنفال نشهد فيه كل مختلف أنواع الفنون، ولم يتح بعد أن تتحول احتجاجات السوريين نفسها إلى موضوع للتأمل الفني، ولو أن ألواناً من الكوميديا راحت تطل برأسها هنا وهناك رغم مشهد الدم. سوى أن الممثلين الشابين، الأخوين ملص (محمد وأحمد) ابتكرا حيزهما الخاص، وطريقتهما الخاصة في التعبير عن تضامنهما مع المحتجين.
ليس مألوفاً أن يستخدم المرء منزله الشخصي وأن يحوله إلى مسرح يدعى إليه الجمهور، خصوصاً إذا كان المنزل قيد السكن، لكن الأخوين ملص فعلا ذلك مراراً منذ العام 2009 بمسرحية حملت عنوان «ميلودراما»، في تجربة أطلقا عليها اسم «مسرح الغرفة»، بل وصل الأمر إلى إقامة «تظاهرة مسرح الغرفة» العام 2010 تضمنت ستة عروض قصيرة.
معتقل ورجل أمن
وأخيراً قدم التوأمان الشابان عرضاً مسرحياً جديداً حمل عنوان «الثورة غداً تؤجل إلى البارحة» يتناول في خمس وعشرين دقيقة تجربة متظاهر يتعرض للاعتقال، وما العرض سوى هذا الحوار الذي يدور، على نحو كوميدي، بين المتظاهر والمحقق في مكان هو قسم للشرطة. وبخصوص المكان، لا يكترث الممثلان الشابان بالمعنى الذي يمليه المكان، وكيف يمكن أن يتساوق مع مجريات النص، فالمكان، أي منزل العائلة، هو مجرد حل إنقاذي جاء في ظل ضيق الأمكنة المتاحة للعرض، وللمناسبة أيضاً، فإن تجربة الشابين استطاعت أن تتفلت من سطوة بيروقراطية يحتاجها استخدام أي مكان لفعالية ثقافية. المكان إذاً خارج حسابات المعنى، حيث يكتفي العرض ببعض إشارات شرطية كناية عن المكان. كذلك فإن توزع الجمهور على المكان لن يخضع إلا إلى إمكانية استيعاب عدد المتفرجين.
المهم أن الأخوين ملص يتقاسمان دوري متظاهر اعتقل للتو ورجل الأمن الذي يحقق معه، وحسناً فعلت مصادفة الأخوة والتوأمة بين ممثلين يحملان الملامح والقسمات ذاتها، فقد خدمت المعنى بصورة بالغة، حيث يتقاسم الجلاد والضحية الملامح نفسها.
يخوض الممثلان في حوار بات من مألوف الشارع السوري ويومياته. ويكرران المفردات المتداولة في هذا الحوار، عن المتظاهرين والمندسين والفيسبوك وسواها من مفردات. تستعاد في الحوار لغة رجل الأمن وسلوكه المرعب تجاه المعتقلين، وكذلك الامتهان الذي يواجهه الناس إثر اعتقالهم. وهنا يتعرض الممثلان، وربما لأول مرة في حوار مسرحي سوري، لنقاش الانتماء الطائفي، لكن للوصول إلى نتيجة مفادها أن كلا الرجلين يختلط أصله بمجموعة من الطوائف المتآخية في العمق. فرجل الأمن الذي يتحدث بلغة الساحل السوري سيكشف أنه ينتمي إلى الطائفة السنية، بينما المتظاهر الذي يتحدث لغة أهل دمشق يتحدر أصلا من الساحل، ومن والدة مسيحية، وهكذا..
شخصية رجل الأمن تقدم على نحو كوميدي، أولاً عبر تقليده الفاقع للهجة الساحلية، ومن ثم عبر جهله الفاضح الذي يتكشف في طريقة لفظه لكلمة الفيسبوك، أثناء التحقيق. لكن تلعثم المتظاهر وخوفه وارتباكه كوميدي أيضاً، وهذا ما يجعل من العرض كوميدياً.
شهداء
لا يكف العرض أيضاً عن توجيه انتقاد شديد لأداء الإعلام السوري، لا بل يصل الانتقاد الأشد إلى أداء مجلس الشعب السوري في صورته ووقفته «التاريخية» إزاء خطاب الرئيس. ويروح العرض يؤكد على لسان بطليه أن السوريين يتأرجحون بين خيارين كلاهما يجعل الوصول إلى قول الحقيقة عسيراً؛ فإما الخوف الذي يربط ألسنة الناس، وإما تلك المدائح على طريقة قصائد نواب المجلس. يتبدى ذلك حين يتاح للمتظاهر فرصة للقاء الرئيس والتعبير له عما يجري لكن خوفه يمنعه، لكن رجل الأمن، حين يحاول أيضاً لقاء الرئيس، لن يستطيع أمامه إلا أن يلقي قصائد وأشعاراً. لكن هذا الحوار يقوم على افتراض «نظرية» الحاشية التي تمنع وصول أخبار البلاد إلى الرئيس، والتي سقطت بمرور الزمن.
في النهاية يحاول العرض الوصول إلى قاسم مشترك للجميع، السلطة والمحتجون فيختم بقراءة الرجلين سورة الفاتحــة على أرواح شهداء سوريا جميعاً. لكن، وبقليل من التدقيق، وهذا على هامش العرض، سنرى أنه حتى ذلك لم يعد متفقاً عليه، ولقد شهدت بالفعل جدلاً حول إن كان أحد الموسيقيين طالب بالوقوف دقيقة صمت على أرواح شهداء سوريا، أم شهداء الحرية!
«الثورة غداً تؤجل إلى البارحة» عرض مسرحي أول في إطار ثورة السوريين، وهو بالطبع عرض مغامر لم يسلم منتجوه من هجوم وتخوين وتهميش. وكذلك هو وليد الحدث، وفي خضمه، ويصعب أن نطالبه بمسافة عن الحدث من أجل تأمل فني، ومن أجل شروط عرض مسرحي مكتمل. إنه صرخة تضاف إلى صرخات السوريين الراكضين في الشوارع، ولعل أول ما تقوله هذه الصرخة، إنه أيضاً في الثقافة لا عودة أبداً إلى الوراء.
راشد عيسى
(دمشق)
السفير