«السلفيون الجهاديون» وقد عادوا إلى أوطانهم تاركين خصومة الـ «نيتو» وراءهم
حازم الأمين
قال عبدالحكيم بلحاج في مقابلة مع تلفزيون العربية: «إن ليبيا ستكون دولة مدنية تعددية»، وبلحاج لمن لا يعرفه هو الأمير السابق لـ «الجماعة الليبية للدعوى والقتال»، وهي الجماعة النواة لتنظيم القاعدة في المغرب العربي، وبقي في أفغانستان إلى ما بعد معارك طورا بورا، لكنه اليوم مسؤول المجلس العسكري الليبي في طرابلس. أي أن بلحاج خلع بزة «الجهادي التكفيري» وارتدى ثياب «الثوري التغييري» الطامح إلى دولة يسودها «العدل والنزاهة». فهل علينا أن نصدقه؟ وما هو مضمون المراجعة التي قال إنه أجراها؟
لكن بلحاج ليس لوحده من «السلفيين الجهاديين» الذين انخرطوا في الثورات العربية منذ انطلاقها قبل أقل من سنة. في مصر أنشأ طارق وعبود الزمر اللذين حكما بقضية اغتيال الرئيس أنور السادات، حزباً سياسياً وقررا خوض الانتخابات النيابية المقبلة، بعد مراجعة أيضاً. في اليمن يعتبر عبدالمجيد الزناداني جزءاً من المعارضة المنتفضة في الشارع هناك، وفي سورية ظهر جيل جديد من مشايخ السلفية والسلفية الجهادية في مظهر الثائرين والمنخرطين في حركة الانتفاضة السلمية.
يشكل ذلك مؤشراً من دون شك إلى نوع من التحول في طموحات السلفيين على أنواعهم، لكنه مؤشر غير كافٍ للاطمئنان إلى أن هذه البيئة صارت جزءاً من تشكيلة اجتماعية وسياسية يمكن أن تتعايش مع راهن حياتنا.
ثمة حقبة دموية استمرت لنحو عقدين لا يمكن طيها بقرار مراجعة داخلي تجريه هذه الجماعات. ثمة آلاف من القتلى، لا بل عشرات آلاف القتلى، وثمة مسؤولية عن صورة سلبية قُدمت عن العرب والمسلمين تولّى هؤلاء تخريجها. وثمة ثقافة قتل جرى تعميمها إلى حد كدنا نصدق معه أننا فعلاً جزء من ثقافة موت أخروية، وهذه الثقافة اتسعت على نحو فاز فيه مثلاً أبو مصعب الزرقاوي في استطلاع أجري في الأردن بنحو 75 في المئة من ميول المُستطلَعين!
فهل تكفي مراجعة داخلية لطي هذه الصفحة؟ وهل يكفي قرار بالانخراط في الثورات السلمية للقول بأن هؤلاء الأشقياء تابوا إلى مجتمعاتهم؟
من المفيد ربما الاقتراب قليلاً مما يجري في البيئة «السلفية الجهادية» لالتقاط المؤشرات الجديدة التي تسودها. فيبدو أن حال تخبط في المعايير والحسابات وفي قراءة المراحل السابقة تسود مدارك وجوهها الجديدة. ويبدو أننا حيال مثلث «مراجعات» تتبادل فيه هذه الجماعات المسؤولية عن حقبات الشقاء المنقضية. فهناك المعضلات الوطنية لهذه الجماعات في بلدانها، وهناك الحقبة الأفغانية، وتليها الحقبة العراقية. أي «الخروج» من الأوطان المختلفة إلى أفغانستان، ومنها إلى العراق.
اليوم يُنسب لـ «القاعدة في العراق» ذروة المرحلة الدموية، فيتولى أصحاب الوجهة «الأفغانية» في الجهاد أبلسة فرعهم في العراق، الذي، بحسبهم، انشق وغالى وقتل المدنيين، على رغم النصائح والفتاوى والأوامر التي كانت تصله من أفغانستان ومن وزيرستان. كلام من هذا النوع صار من الممكن سماعه من دون مواربة في أوساط «السلفية الجهادية»، لا بل إن رواية له بدأت تكتب ممهدة له بعرض الخلاف الذي سبق وصول أبو مصعب الزرقاوي إلى العراق، وتحديداً في معسكر هيرات الذي استقل به الزرقاوي عن «القاعدة» مدعياً أنها لا تكفر أنظمة يعتبرها هو كافرة.
أصحاب الوجهة «الأفغانية» في المراجعات لا يزال أسامة بن لادن يغذي ضائقتهم «الجهادية» على رغم قرارهم اليوم بالانخراط في «الربيع العربي»، لكن ثمة من تقدم خطوة أخرى باتجاه مراجعة المرحلة الـ «بن لادنية» على هذا الصعيد، ومنهم من يُسمى اليوم بـ «السلفيين الوطنيين»، وهذه تسمية سلبية في قاموس السلفية. ويبدو أن الليبيين هم الأبرز على هذا الصعيد، فعثمان بن نعمان سبق الثورات العربية في «مصالحة» المجتمع، لا بل في مصالحة النظام، وتولى مفاوضة سيف الإسلام القذافي في لندن للإفراج عن المعتقلين الإسلاميين في السجون الليبية. لكن «الجهاديين» الليبيين اليوم فتحوا كل دفاترهم، وبدأوا بتأسيس خطاب الخروج من «القاعدة» والعودة إلى ليبيا، وهم اليوم يعرضون على المتابعين وجهة خلافهم «القديم» مع «القاعدة» في أفغانستان ووزيرستان، الخلاف الذي بدأ بحسب أنس الشريف في ذروة معارك طورا بورا، وامتد لاحقاً، بحسبه، ليشمل رفضهم «الجهاد العالمي» وتقدم الهم الليبي لديهم على أي هم آخر. لكن اليأس من إطاحة القذافي في حينها ألقى بهم في حضن الثنائي بن لادن – الظواهري.
هرم المراجعات هذا (أوطان – أفغانستان – عراق) من الممكن قلبه بسهولة لكونه لم يشمل نقاشاً ومراجعة لجوهر العنف الذي شكل ثقافة هذه الجماعات. فمعادلة بسيطة وغير نظرية يمكن أن تطيح بهذا الهرم الهش، ذاك أن القائلين من أبناء «السلفية الجهادية» بشقاء الفرع العراقي لقتله مسلمين هناك، يُقرون بقتل الفرع الدولي المتمركز في أفغانستان غير المسلمين، سواء في 11 أيلول أو في غيره من المحطات الدموية الكثيرة. ثم إن علينا أن لا ننسى أن «القاعدة الدولية» قبلت مبايعة أبو مصعب الزرقاوي لها وسمّته أميراً في العراق، وهنا طبعاً لا يمكن أن يستوي منطق «المراجعة». أما بالنسبة لمن بلغت بهم الحماسة للمراجعات حد التعرض لأيقونة «الجهاد» أي أسامة بن لادن، فهؤلاء لم يوضحوا الكثير من الوقائع. فهم على ما يقولون باشروا خلافهم معه في اعام 2002 في طورا بورا، لكن ذلك تنفيه مشاركتهم الكثيفة في العراق بين عامي 2006 و2007. ثم إنهم، في مرحلة المراجعة، لم يترددوا في الاستجابة لشيطانهم الجديد، أي النظام المنهار، حين عرض عليهم سيف الإسلام تسوية. وبالسرعة نفسها قاتلوا هذا النظام بغطاء جوي أمنه الـ «ناتو»، ذاك الحلف الذي قاتلوه في أفغانستان.
لا شـــك في أن حركة «الجهاديين» العائدين إلى أوطانهم تنطوي على قدرة هائلة على التحرك والمناورة والبراغماتية، غيـــر منسجمة على الإطلاق مع دعاويهم الجامدة والرجعية، وهذه الــقــــدرة يتفوقون بها على نظرائهم من الجماعات الإسلامية الأخرى. فالإخوان المسلمون في مصر مثلاً قدموا تنازلاً لم يخلُ مــــن مرارة حين تخلّوا عن شعار «الإسلام هو الحل»، في وقت يقول بلحــــاج إنه لا يــــريد دولة دينية في ليبيا، ويشير فيه شيخ سلفي ســــوري إلــى استعداده لقبول معارض مسيحي رئيساً لسورية.
لكن البراغماتية هذه ليست واعدة، لا سيما أن الحقبة الدموية لم تنقضِ بعد، وما يسمى مراجعات غير مقنع حتى الآن. والأهم من هذا كله أن شهية للسلطة كشفتها الثورات هي وراء الكثير من التحولات، ويبدو أنها كانت أيضاً وراء «الجهاد» الدموي.
الحياة