«النار ده كله ليه؟ إحنا في سوريا ولا إيه!»
عمر قدور
في اليوم الذي سقط فيه اثنا وعشرون قتيلاً من بين المتظاهرين المصريين سقط عدد أكبر من الضحايا برصاص الأمن السوري، لكن ذلك لم يمنع من تصدر الحدث المصري اهتمام السوريين أسوة بهمهم الخاص، بل اختلف الاهتمام هذه المرة عن الاهتمام القديم الذي رافق مستهل الثورة المصرية بعد أن اكتوى السوريون بنار القمع واختبروا مباشرة فظاعة القتل، إن لم نقل إنهم أصبحوا مضرب المثل في ذلك حتى أن المصريين في ساحة التحرير هتفوا متسائلين ومستنكرين: «ضرب النار ده كله ليه؟ إحنا في سوريا ولا إيه!».
ومع أنها كانت فرحة عارمة، عندما شهد السوريون سقوط الرئيس المصري السابق حسني مبارك، إلا أن تطورات الحدث المصري اللاحقة لم تغب عن أذهان السوريين، كما لم تغب تطورات الحدث التونسي أو مآلات الثورتين الليبية واليمنية. لكن الأمر في مصر كان له وقع مختلف، فالسوريون اتفقوا في مشاعرهم إزاء الثورة المصرية رغم اختلاف دوافعهم. أنصار النظام كانوا يرون في حكم مبارك صديقاً لإسرائيل وعدواً لنظامهم الذي يدعي الممانعة، أما معارضو النظام والشباب الذين كانوا يتهيأون للانتفاضة فقد رأوا في اندلاع الثورة المصرية إيذاناً بانتشار «الربيع العربي» ووصوله إلى سوريا، وعلى هذا الصعيد يمكن القول إن مشهد ميدان التحرير قبل سقوط مبارك قد ألهم عزيمتهم ووجدانهم.
ما قد يبدو مستغرباً على صعيد الشكل أن الفرحة بسقوط مبارك تبخرت مع بدء الانتفاضة السورية، وعزز من ذلك الإعلام الرسمي أو الموالي الذي أخذ يسلط الضوء على ما يعدّه نقائص في التغيير الذي حصل في مصر، موحياً أو مصرّحاً بأن الوضع السابق هو الأفضل!. حتى أدعياء المقاومة والممانعة من الشخصيات اللبنانية الذين باتوا ضيوفاً دائمين على المحطات السورية أخذوا يفنّدون عيوب التغيير المصري، متجاهلين أولوياتهم التي تفترض بهم أن يكونوا أكثر انحيازاً إلى الحكم الجديد الذي لم يُبد الدفء السابق في العلاقة مع إسرائيل، ومتناسين عداءهم السابق لحكم مبارك الذي بلغ ذروته مع محاكمة خلية حزب الله في مصر. في الواقع بدت فرحة «الممانعين» بسقوط مبارك فرحة انفعالية آنية، وظهر على نحو جليّ أن الخصومة مع الحكم السابق مريحة لهم أكثر من التعامل مع التطورات الديمقراطية المستجدة، لا بسبب الخوف من امتدادها إلى سوريا وحسب وإنما لأن أصحاب المحور الممانع يفضّلون وجود خصوم تعتاش بضاعتهم بوجودهم.
اتخذت أبواق النظام من تقدّم الإسلاميين في مصر ذريعة للنيل من الثورة المصرية، مع أن النظام نفسه يقيم أوسع التحالفات مع القوى الإسلامية الإقليمية بدءاً من إيران مروراً بجنوب لبنان وصولاً إلى غزة. وإذا كان من «المعيب» لنا أن نفنّد نظاماً يتهاوى على مختلف الصعد، بما في ذلك منظومته الفكرية الهشة التي ترتكز على دعوى الممانعة، فإن هذه الإشارات تبدو لازمة لتفهم ارتباك النظام إزاء الديناميكية الإقليمية الحالية التي نالت من قدرته التقليدية على امتصاص الأحداث الخارجية واستثمار مفاعيلها، أو على الأقل تبديدها داخلياً. إن تجدد المظاهرات في مصر اليوم يفضح ثانيةً دعاوى النظام وأنصاره، فهم لا يستطيعون تقديم موقف منسجم من الحدث المصري، وليسوا قادرين على استرجاع حماستهم السابقة إزاء إرادة الشعب المصري في التغيير، خاصة عندما يرفع المتظاهرون المصريون علماً سورياً طويلاً في تعبير واضح عن دعمهم لثورة الشعب السوري.
في المقابل، أن يهتف متظاهرون سوريون «يا مصر إحنا معاكي للموت» فهذه مفارقة سوداء من شعب آخر ما ينقصه هو الموت بطشاً، لكنه بالتأكيد تعبير حقيقي عن تآزر وجداني تجاه الاستبداد الذي عانت منه هذه الشعوب، وهو تعبير يفوق الأيديولوجيا القومية البائدة من حيث إعادة الاعتبار إلى الأصالة الإنسانية وإعلائها فوق الشعارات الجوفاء التي لم تؤدِّ عملياً سوى إلى الفاشية. يُظهر الموقف الشعبي تماسكاً تفتقر إليه الماكينة الإعلامية للنظام، فالشعب السوري أعلن انحيازه إلى إرادة الشعوب الأخرى، لذا لم يتردد أنصار الحرية في دعم حرية المصريين في التظاهر والمطالبة بالتغيير مرة أخرى، ودون التساؤل عن نتائج هذا التغيير وانعكاساته الخارجية. هذا لا يعني انحيازاً عاطفياً فقط، أو أن المتظاهرين أقلّ تسيساً من المحللين السياسيين، بل هو تعبير ناضج وجادّ عن أن إرادة الشعب هي وحدها الكفيلة بالوصول إلى أفضل النتائج وتصويبها كلما دعت الحاجة.
إن استئناف الثورة المصرية، والبدء في المرحلة الانتقالية في تونس، حدثان تتكامل أهميتهما من وجهة النظر السورية؛ فالشروع في العملية السياسية في تونس يطلق مرحلة جديدة من التغيير والصراع السلمي التي يتطلع إليها السوريون، أما استئناف الثورة في مصر فهو دليل على تمسك الشعب بقضيته وعدم المساومة عليها. منذ أشهر يكرر الناشطون السوريون أنهم لن يكتفوا بنصف ثورة، ويأتي الحدث المصري الحالي ليؤكد لهم على مقولتهم. ورغم أن فاتورة الدم التي دفعها السوريون أصبحت مثلاً إلا أن الأشهر الطويلة التي انقضت من عمر الانتفاضة لم تكن بلا أثر إيجابي على الوعي السياسي الذي تطور واستمد نضجه من التجربة المريرة المعاشة يومياً.
من المؤكد أن إسقاط الحكم بات هاجساً ملحّاً ومؤرقاً للانتفاضة، لكن الانتفاضة السورية أكثر وعياً اليوم بمعنى إسقاط النظام، وفي الواقع إن البنية المتماسكة للنظام السوري حتى الآن قد تكون ذات جدوى كبيرة فيما بعد من حيث انهيارها دفعة واحدة. هكذا يُقرأ التعاطف السوري مع تجدد المظاهرات في مصر على أنه رغبة في إسقاط النظام، وعدم الاكتفاء بإسقاط رموزه، وهي رغبة لا تأخذ ثوريتها من الواقع السوري فقط، بل تنحاز إلى المعنى التاريخي للفرصة التي قد لا تتكرر في المنطقة ضمن أمد منظور. وعندما يتصدر خبر مقتل اثنين وعشرين متظاهراً في مصر اهتمام الناشطين السوريين أسوة بشهداء الانتفاضة فهذا ذو بعدين؛ أولهما هو التعاطف الإنساني، وثانيهما هو الوفاء لخمسة آلاف قتيل سوري على الأقل لن تذهب دماؤهم بلا ثمن، والثمن المطلوب ليس انتقاماً، بل هو التغيير الحقيقي والجذري الذي يعوّض عن هذه الدماء.
يعود المصريون إلى ميدان التحرير، يوقع الرئيس اليمني على المبادرة الخليجية التي تنص على تنحيه، يتم اعتقال سيف الإسلام القذافي؛ هذه كلها باتت أخباراً سورية بامتياز، بانتظار أن يقدّم السوريون لأنفسهم وللعالم الخبر الذي طال انتظاره.
المستقبل