«ديكتاتور» محمود درويش
عبده وازن
كان محمود درويش على حقّ عندما تجاهل قصيدته الطويلة «خطب الديكتاتور الموزونة» وراح ينكرها مؤثراً عدم التحدّث عنها.
كان محمود على يقين أنّ قصيدته هذه المؤلفة من سبع قصائد أو سبعة خطب بحسب عنوانها، ليست بقصيدة وأنها خلو من الشعر حتى وإن صيغت على طريقة الشعر التفعيلي المشبع بالقوافي المتنوّعة. غابت هذه القصيدة عن أعمال درويش الشعرية ولم تظهر في ديوان من دواوينه وجهلها قراؤه ما خلا قلّة قليلة. وكان محمود نشرها في مجلّة «اليوم السابع» التي كانت تصدر في باريس في العام 1987 – على الأرجح-، فهو يبوح في إحدى رسائله الى سميح القاسم عام 1986 أنّه في صدد كتابة قصيدة عن الديكتاتور… لكنّ مجلّة «أدب ونقد» المصرية عمدت الى نشر هذه القصيدة كاملة في أيار (مايو) 1997 متيحة أمام قرائها فرصة الإطلاع عليها، رغماً عن إرادة صاحبها الذي سعى الى إنكارها.
لماذا أنكر محمود درويش هذه القصيدة؟
هذا السؤال قد يصح طرحه الآن أكثر من أي وقت مضى. فهذه القصيدة قد تكون صالحة لأن تقرأ راهناً في ضوء سقوط الديكتاتوريين العرب واحداً تلو الآخر. وقد عمّمتها أخيراً مواقع الكترونية كثيرة ولكن بأخطاء طباعية جمة. لعل محمود تمثل بعضاً من هؤلاء الديكتاتوريين من دون أن يسمّيهم أو يدل عليهم بوضوح. ومَن يقرأ هذه «الخطب» الموزونة (والمقفاة) يتهيّأ له أنه يبصر ملامح من هذا الديكتاتور العربي أو ذاك وذلك، بخاصة أن الشاعر دمج ملامح الديكتاتوريين في شخص واحد هو الديكتاتور العربي، المتعدّد الوجوه والخطب.
كتب محمود درويش هذه القصيدة بين تونس وباريس كما يُفترض. ففي منتصف الثمانينات المنصرمة لم يجد درويش من «منفى» سوى تونس ، مثله مثل الكثرة من الفلسطينيين الذين غادروا لبنان عقب الاجتياح الاسرائيلي عام 1982. ومن تونس كان ينتقل الى باريس ليقيم فيها أشهراً ويتنفس «هواء الحرية» كما كان يقول. كتب محمود هذه القصيدة المركّبة أو «المصطنعة» في إحدى مراحله الشعرية المهمّة. إنها مرحلة «ورد أقل» و»هي أغنية…» ، مرحلة البداية الجديدة التي راحت تترسّخ ديواناً تلو ديوان حتى بلغت ذروتها في الدواوين الأخيرة. كان بدأ الشاعر في تلك الآونة ينقطع نهائياً عن ماضيه من غير أن يتنكر له البتة، منطلقاً نحو آفاق شعرية جديدة وساعياً نحو حداثته الخاصة التي تتقاطع مع حداثة الشعر العربي وتنفصل عنها. وكان لا بدّ لهذه القصيدة «الخطابية» أن يكون لها صدى مفاجئ وغير متوقع. فالقصيدة تعلن مباشرتها الفجّة ولا تخفي عيوبها وهناتها ولا تتحاشى الوقوع في السهولة غير الممتنعة وفي شرك التصنّع والتكلّف.
بدت القصيدة هذه على خلاف شعر محمود حينذاك، تقليدية، عادية، متخففة من أسرار صاحبها ولمساته. قصيدة تقريرية تذكر ببعض ما كتب نزار قباني من قصائد سياسية ساخرة وهجائية وخالية من أي قيمة فنية. ولا أحد يعلم ما الذي حدا بشاعر «جدارية» الى أن يكتب مثل هذه القصيدة الغريبة تماماً عن جوّه ورؤيته الشعرية، كما عن لغته ونسيجه الإيقاعي الفريد. واللافت أيضاً أن محمود درويش كوجه سياسي – وليس كشاعر – لم يكن حينذاك على خصام مع أي نظام عربي، ولم يكن معنياً مباشرة بـ «مآثر» الأنظمة غير الديموقراطية التي دعمت القضية الفلسطينية. لم يكن يعنيه صدام حسين ولا القذافي، أما الرئيس زين العابدين فلم ينثنِ بعد أعوام عن تسلّم الوسام الذي منحه إياه، واعتبره درويش بإصرار، وساماً للقضية الفلسطينية وليس له شخصياً. ولكن في تلك الآونة كان الزعيم ياسر عرفات على أتمّ الخلاف مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، فهل كان من أثر لهذا الخلاف في كتابة هذه القصيدة؟ قراءة القصيدة تقول لا. فالديكتاتور الذي سخر منه محمود درويش هو أكثر من ديكتاتور، ديكتاتور عام، يمكن أن يكون هنا أو هناك، لكنّه عربيّ من دون شك. عربي ملمّ بقصيدة امرئ القيس التي حرّفها درويش على لسانه: «وإن كانت الحرب كراً وفراً/ فإنّ السلام مكرّ مفرّ». بل إن الديكتاتور هذا يحفظ قصيدة أبي القاسم الشابي ولكن محرّفة أيضاً: «إذا الشعب يوماً أراد/ فلا بدّ أن يستجيب الجراد».
وهذا الديكتاتور لا يخفي نزعته الى السلام وتهاونه إزاء إسرائيل والغرب: «آن لنا أن نلقن أعداءنا السلام»، يقول. ثم يضيف: «ماذا يريدون؟ كلّ فلسطين؟ أهلاً وسهلاً…/ يريدون أطراف سيناء؟… أهلاً وسهلاً/ يريدون أنهار لبنان؟ أهلاً وسهلاً». إنه الديكتاتور العربي العام، المتخاذل والأناني والمتغطرس والمجنون الذي لا يملّ الجلوس على الكرسيّ ولو «الى الأبد»، الذي يسنّ القوانين وحده ويقرّر وحده، الذي يسمح لشعبه أن يخرّ على قدميه، الذي من واجبه أن يعيش ومن حق شعبه أن يموت… الديكتاتور الذي يظن نفسه أيضاً شهريار، كاره النساء الذي لم تتمكن شهرزاد من إيقاعه في فخ الحكايات الساحرة.
لو لم تحمل القصيدة توقيع محمود درويش لما ظن القراء أنها له، مع أنّ بعضاً من تعابيره وتراكيبه اللغوية والإيقاعية تتخلّل أسطرها. أما روحها فهي غريبة عن مناخ شاعر «سرير الغريبة» وكذلك رؤيتها ونسيجها… وقد بدت السخرية التي تحفل بها غريبة هي أيضاً عن محمود درويش الذي لم يعتد البتة إفلات زمام القصيدة. هذه السخرية بدت فضفاضة على قامة الشاعر وكأنّها ألقيت عليه من خارج. وكم كان محقاً في إنكاره القصيدة ورفضه الكلام عنها.
إلا أنّ قراءة هذه القصيدة اليوم قد تكون سانحة نظراً الى تمثلها شخص الديكتاتور في أشدّ صوره هزءاً وفضحاً.
الحياة