«غالبية صامتة» في سوريا… ماذا تقول وما هي مطالبها؟
غدي فرنسيس – صحيفة السفير
بين شارع التملق للنظام وتخوين كل هاتف باسم الحرية، وشارع التعطش المطلق للثورة كيفما جاء شكلها وحسبما أتت مفاعيلها، هناك شريحة كبرى لم تحسم موقعها، وقد تكون الاكثر عقلانية، والأقل عاطفية في سوريا.
لم تتكلم هذه الغالبية بعد، وذلك لأسباب كثيرة، أبسطها ان لا احد يسمعها في الضوضاء وفي احتقان ولَّّد لوائح شرف وعار تصنّف الناس نسبة لآرائهم. وأعقدها أن آلية العمل السياسي الجماعي الذي اخترعها العقل البشري تنعدم في بلدٍ يحكمه حزب واحد إلا إذا كان كما حال الغرب، تتناوب الأحزاب وتتنافس على السلطة، وهذا ما يسمى بحلم اليقظة في حالة سوريا. فإذا عبّرت الأحزاب المتوافرة في دمشق، تعبّر عن النظام الذي سمح لها بالتواجد كما تعبّر بما يتعارض مع مفاهيمها كأحزاب تغييرية وبالتالي مع قواعدها الشعبية الحقيقية.
تتمدد هذه «الأغلبية الصامتة» في مختلف المناطق والشرائح الاجتماعية. من كلية الهندسة في جامعة دمشق إلى دوائر المثقفين الراقدين على ضفاف الماركسية والقومية السورية والقومية العربية، إلى نوادي الليل الشبابية، إلى أسواق دمشق القديمة وتجارها. وهي تتسع ايضا لتشمل الفلسطيني الذي لم ينخرط في حزب البعث لكنه شاكر الجميل لنظام منحه الشعور بالمواطنة من حيث حق التملك والعمل والتعلم وبالتالي حق العيش بعد أن سلبت ارضه، من دون عنصرية اجتماعية. تكبر دائرة هذه «الغالبية» أكثر لتضم المفكرين والناشطين الذين يصرخون مقالات وتصريحات تدعو للتغيير ولكف العنف كما تدعو المتظاهرين للهدوء، فيما يستمرون بالتظاهر. هذه الغالبية هي بمثابة «شبكة الأمان» التي تستطيع ان تقود التغيير مهما كان شكل انطلاقته إلى النهاية السعيدة المرجوة بما يضمن أمن البلاد ووحدتها، كما يضمن استمرار «لاءات» الثورة حتى تتخذ الدولة شكلاً سليماً.
جامعة دمشق مصغّر عن سوريا
يقف فرع جامعة دمشق لحزب البعث في تجمع البرامكي حيث كلية الحقوق والهندسة والعلوم والاقتصاد والشريعة والسياحة. صرح كبير بحجم نصف كلّية تقريباً، على يسار كلية العلوم حيث علا هتاف «حرية» صغير الأسبوع الماضي فارتفع قبالته هتاف تأييد وتخوين. من لم يبال بالهتافين، ربما اكتفى بالجلوس في الكافتيريا حيث تعلّق إجمالاً صورة الأسد الأب على حائط والإبن على حائط آخر. من لم يصرخ ليس بالضرورة صامتا، لكن «أحداً لا يسمعه» تحت «الضوضاء».
حسن حميدوش أحد اولئك الصامتين. تلميذ سنة خامسة في كلية الهندسة يقتبس محمود درويش: «اكتب صمتي». فلا تقنعه «الثورة»، تماما مثلما لا يشبهه التملّق السائد وحملات التخوين ولا تعبر عنه تظاهرات التأييد وشكلها. حين سقط شهداء درعا وخرجت تظاهرة التأييد كان يسأل: ما المانع ان تهتفوا بالروح بالدم نفديك يا درعا مع هتاف فداء بشار؟ ثم انكفأ، ثم سكت، واليوم يجد نفسه ميّالا إلى البحث عن إمكانية الحل الذي وعد به الرئيس لكنه يعارض آلية التواصل مع المعارضة.
من حديقة كليّته يسأل «لم الاستماع إلى من يملك القواعد الشعبية فقط؟ لم لا يعطى المفكرون المعارضون مكاناً لإيجاد الحل؟ ثم يعدد الأسماء التالية بسرعة المطّلع: ميشيل كيلو انتقد شكل التواجد السوري في لبنان والخسارة اللبنانية وكان معارضاً مقنعاً. هيثم منّاع يتحدث باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان من منفاه. العام 2003 إبان غزو العراق اعلن انه يفضل الموت على الدخول فوق دبابة اميركية. برهان غليون، دكتور الاستشراق في السوربون والطيّب تيزيني مفكّر أكاديمي… أنا اريد ان أعرف دولة يصلحها هؤلاء وامثالهم، لا شيوخ العشائر والقبائل والطوائف.
كل القصة صورتين
تحت صورتي الكافتيريا حيث تنشغل طالبة شقراء، بهوايتها كبصارة في القهوة مع زميلتها، وتنقسم المحجّبات بفرز مذهبي فاقع مؤلم، تكاد لا تسمع نفسك إذ تتكلم. طاولة تصف المؤامرة وتفصّلها، وطاولة تبحث في الحل. وقربهم على مسافة جانبية، تجلس فلسطين. لا تجيب عند السؤال، تعبر عن التباسها الدائم بظل نكبتها. «هي القضية الوحيدة في حياتي» يقولها مناف معجل فيختصر السؤال. لا يريد أن يحكم ويحكي فهو «ضيف لا دخل له». ورغم ذلك ينعطف قائلاً: بالنسبة لي كفلسطيني، النظام أعطاني حقوقاً لم تمنحني مثلها دول العرب. في التصنيف نقول: حوراني، حلبي، فلسطيني… ولا نفرّق! هويتي مثل هوية حسن بفارق واحد من حيث الشكل، فعلى بطاقتي صورة القدس بينما بطاقة السوري عليها صورة الجامع الأموي…
وإذا بحثت عن «الفلسطيني» في دمشق تجده في دكتور جامعي وطالب هندسة وطب وصيدلي وقومي سوري أو قومي عربي أو ماركسي أو فتحاوي أو حماسي أو أي شيء آخر، باستثناء موظف الدولة.
يضحك سائق السيارة العمومي راجياً أن تنتهي الازمة لأنه يعيش مع قلق دائم. لأنه لا يجد سبيلاً معبّداً إلى قريته في صفد. ولأن بيته في مخيم اليرموك ليس جنة عدن. أما سمير عيسى، الخمسيني، فيعدد أسماء الصحافيين الفلسطينيين في بيروت، ويدرك مساوئ نظامه ويعددها ثم يصلي لصموده بأي ثمن: حتى لو كان تغييراً جذرياً عميقاً ولكن ليبقى هناك من صمود، ليكن تغييراً على يد هذا الرئيس، فانا لا أملك من اثق به أكثر بين الحكام العرب.
المثقف العلماني:
الكاتب والجرّاح
من يطلق على نفسه تسمية «شغّيل ثقافة» يجلس في قمقم إبداعه ويمتنع. نجيب نصير لا يعجبه شيء. لا شكل الثورة ولا شكل الحكم يعبر عنه. «فصام» هي الحال: في حزبه وفي وطنه كما في شخصيته المجنونة الخمسينية وبرّاده الذي يحوي شايا وفودكا في مكتب صارخ باللوحات وصور أعمال مسرحية ومسلسلات درامية وكتب ومكتبات صغيرة مفتعلة من أرجائه. لكاتب السيناريو ومدير تحرير فكر، انفصامه المعبّر:
«كنت في العمل السري منذ العام 1977، عشت معارضاً، كنت بين الموقعين على «بيان 99» الذي رفعناه من مقاهي دمشق حين تسلم الرئيس الحكم وطالبنا برفع الطوارئ وتعديل الدستور. كنا اثنين فقط من القوميين السوريين: ادونيس وانا، حينها وصفنا عبد الحليم خدام بعملاء السفارات الخونة. اليوم ظهر الخائن، واين عبد الحليم خدام اليوم، واين مطالبنا؟
يصيبنا الفصام، فصام أن ترى الاستفاقة الاقتصادية مصحوبة بتخلّف وفساد وتراجع زراعي. لا تقنعني ان ادونيس وبائع المازوت في نفس المكان. لا تقنعني انني مثل أي واحد في جامع النور ولا تقنعني انني لست معارضاً.
كلمة «معارضة» تثير السخرية فالمعارضة أثبتــت لا جــدواها. واثبتت أن لا شخصية لها. الدليل هو ولادة ما سمي «قوائم العار والــشرف» لتصنيف المثقفين بين خونة وعمــلاء وشرفاء. قوائم للمحتجين وقوائم لمؤيدين، فترى اسماء الكثيرين من المفكرين والفنانين والممثلين في قوائم المجموعتين!! كيف هذا؟ المعارضة كفكرة ثقافية هي «النكش في المستقبل، الاستشراف».
الأمر لا يعالج بروحية «ريال مدريد ـ برشلونة» يا شباب. المثقف دوره ان يكون جرس مستقبل، وإلا فما قيمة ثقافته؟
لا تكاد تهادن ثورته حتى تعود من جديد: كيف لشيخ الموالين «البوطي» قناة دينية وانا محروم من قناة بموجب هذا النظام. ومحروم من إنشاء جمعية أو ناد. أما الحل، بحسب قاموس الشخصية الغريبة الملوّنة: الدولة أيضاً تكنولوجيا، فلنستورد دولة.
بكلمات اخرى وفي دائرة الفكر ذاتها، يفسّر حسان سلوم: الدولة المدنية الحقيقية. الدستور يحوي مواد دينية، قانون الاحوال الشخصية، انبعاث السلطات، الحل هو بالدولة المدنية العلمانية. التغيير يستدعي العقل وليس وقت ثورة عاطفية، بل انها اكثر فترة تتطلب تفكيرا وعقلا، والمطلب اليوم هو الدفع باتجاه دولة مدنية بوحدة الحقوق لا تميز على اساس الجنس والعرق والطائفة. لا مانع لي ان أدفع الثمن باتجاه هذا التغيير. لكن الاسئلة تراود عقلي:
ما الصيغة المطروحة؟ لم وصلنا لمرحلة الدم بسرعة؟ قطعاً ليست الدولة وحدها من يحمل السلاح، هل هناك قوى تدفع باتجاه السلاح وإلا من اين ياتي؟ في تاريخ سوريا، في العام 1978 استعمل السلاح بوجه السلفيين ودخلت البلاد في حمام دماء، وانتهى بحسم عسكري.
رغم الاسئلة الكثيرة والأفكار الكثيرة والقلق الوفير في كل المكاتب وعيون الطلاب والعمال، تنام دمشق بفصامها على بصيص امل وحيد هو التغيير الذي تنتظره بقلق العذراء، او بقلق الارملة منذ 50 سنة. كاتب السيناريو يختصره بضحكة شقية: أعطيناكم طنجرة العام 1963 وحتى اليوم لم تنته الطبخة، ردّ لي طنجرتي لأصنع انا الطبخة.
السفير