آية الله شافيز
حازم نهار
محور “الممانعة” في حالة حزن شديدة على فراق تشافيز. فقد أعلن الرفيق أحمدي نجاد يومًا من الحداد على تشافيز موجّهًا رسالة تعزية إلى الحكومة الفنزويلية يقول فيها “إن تشافيز سيُبعث مع المسيح والإمام المهدي المنتظر لإنقاذ البشرية وإشاعة العدل في العالم”، على الرغم من أن آية الله تشافيز هو رئيس لحزب اشتراكي كان يطمح إلى إنجاز مشروع “اشتراكية القرن الحادي والعشرين”. فيما إعلام النظام السوري يذكِّر العالم بوقوف تشافيز خلال حكمه إلى جانب الحقوق العربية المشروعة، ومنها “موقفه المشرف من المؤامرة على سورية، إذ أعلن مراراً تضامنه معها قيادة وشعباً في وجه الهجمة الإمبريالية الشرسة التي تتعرض لها معربًا عن إدانته الضغوط الأمريكية ضدها”. وتشارك قناة المنار في حداد الممانعة، وتذكِّر العرب والمسلمين بوقوف تشافيز إلى جانب “المقاومة اللبنانية” في حرب عام 2006، وأيضاً دعمه للقضية الفلسطينية، خاصة عندما قام بطرد السفير الإسرائيلي إبان العدوان على غزة في أوائل عام 2009، ومطالبته بجر الرئيس الإسرائيلي إلى محكمة دولية ومعه الرئيس الأميركي. وتكتمل حلقة الممانعة مع بيانات التيار القومي التقليدي والتعبيرات اليسارية المتفرقة وبقايا الشيوعية في المنطقة العربية.
نلاحظ أننا حيال خلطة “ممانعة” تتمايز أطرافها في مرتكزاتها الأيديولوجية وحسب، فيما تشترك في المنهج والتفكير والأداء السياسي والشعارات، بل وفي اللوثات والأمراض والأوهام، بما يجعل التباينات بين هذه الأطراف محدودةً أو شكلانية وقليلة الأهمية. إنها خلطة من إسلام مذهبي متطرف واتجاهات قومية استبدادية وتعبيرات يسارية اشتراكية محنّطة. هذه التركيبة “الممانعة” بنت في مجتمعاتنا اتجاهاً عاماً طارداً لمبادئ حقوق الإنسان والثقافة الديمقراطية وبذور العقلانية والحداثة والخيارات السلمية والتنويرية، بحكم الاستبداد الذي يعشش في تفكير وممارسة جميع أطرافها، والذي يجري تغطيته بخطاب معاداة الإمبريالية والصهيونية والدفاع عن خصوصيات مغلقة والانتصار للمستضعفين والفقراء.
كما يشترك أطرافها في الممارسة السياسية باتباع سياسات غير عقلانية، أو بالأحرى حمقاء، تقدٍّم للإمبريالية فوائد جمّة ولا تعيقها إلا في مواقف ضيقة ومؤقتة، إذ تنبني “ممانعتها” كليةً على أساليب خطابية حربجية في الغالب الأعم، متزامنة مع حالة من “التوتر الدائم” والأداء “الموتور” والقرارات غير الرزينة التي لا تبعث على الثقة والاطمئنان في أي مستوى، إن في الداخل أو الخارج. وتعتمد في العموم على تصدير شخصيات كاريزمية استعراضية، مثيرة للدهشة والتساؤل والنكتة، تتقن أسلوب التحدث لساعات طويلة دون توقف مع “الرعية” التي يقع عليها وظيفة استلهام الحكم والعبر، والتعبير اللفظي عن القوة والتحدي باستخدام لغة غير دبلوماسية وسياسية في العلاقات الدولية، خصوصًا مع الولايات المتحدة، وتربط دولها ومصائر أوطانها ومواطنيها بشخص “القائد” الفرد.
يسود لدى هذه التركيبة وهم الاعتقاد بإمكانية الوقوف في وجه السياسات الإمبريالية من خلال بناء محور ممانع من خارج الظاهرة الرأسمالية، على شاكلة تجربة الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية في السابق، أي بالوقوف ضد أمريكا والغرب بشكل مطلق، ليظهر في المآل أن “الممانعة” تختزل في رفض الحداثة والقيم الديمقراطية كونها منتجات “إمبريالية”.
ربما استطاع الرفيق تشافيز تطبيق عدد من المهام أو البرامج الاجتماعية، من بينها التعليم والخدمات الصحية للجميع، لكن الفقر والبطالة ما يزالان من القضايا الواسعة الانتشار على الرغم من كون فنزويلا رابع منتج للنفط في العالم. وربما استطاع محور “الممانعة” إعاقة الولايات المتحدة والسياسات الغربية عموماً في بعض المحطات، لكن في المجمل بنت أطراف هذا المحور دولاً مشوهة وأوطاناً هشة ومجتمعات خارج دائرة الإنتاج المادي والروحي في العالم.
فاز الرفيق تشافيز في الانتخابات الرئاسية التي جرت في أكتوبر 2012 لفترة رئاسية رابعة، ونجح باستفتاءات من بينها تلك التي أحدثت تغييراً في الدستور على نحو يسمح بتولي فترات رئاسية غير محدّدة، وأمسك بمقاليد الحكم لمدة 14 عاماً حتى وفاته، وفي لحظاته الأخيرة قبل الموت لم يكن قادراً على الكلام تماماً، لكنه أجهد نفسه بصوت خافت قائلاً “أرجوكم، لا أريد أن أموت. أرجوكم دعوني أعيش”، طبقاً لما نقل عن قائد حرسه الرئاسي، الجنرال خوسيه أورنيّا. ربما خاف الرفيق تشافيز على فنزويلا أن تتيتّم من بعده أو تتعطّل المسيرة المناهضة للإمبريالية.
أمضى النظام الليبي نصف قرن يجابه الإمبريالية على الميكروفونات، ومثله فعل كاسترو الذي مكث في حكم كوبا فترة تجاوزت فترات حكم تسعة رؤساء أمريكيين، وفي الطريق نفسه سار نظام البعث “القومي” في سورية والعراق، وفي موازاتهم حملت أيضاً النسخ الشيوعية المشوهة في المنطقة العربية راية “الممانعة” الحمراء، ليتصدَّر الرفيق أحمدي نجاد اليوم الصف الأول في “الممانعة”. وبغض النظر عن مصداقية خطاب “الممانعة” فالواضح أن جميع هؤلاء لم ينتجوا إلا الكوارث في بلدانهم، ولم يمانعوا في الواقع إلا شعوبهم التي حُرمت من كل ما يجعلها تنتمي إلى دائرة البشر والحياة الطبيعية.
كلمة السر في محور “الممانعة” هي الاستبداد، والباقي “فراطة” لا قيمة له. فأي عمل سياسي أو تاريخي لا يكون محوره الإنسان، منطلقاً وغاية، مصيره الفشل. الموقف الجذري من الإنسان والحرية هو المدخل الجدي لبناء سياسات وطنية حقيقية تقف ضد آليات الهيمنة. يمكن القول أنه حتى يومنا هذا لم تحدث مجابهة عقلانية، حقيقية وجدية، ومن نظم سياسية ديمقراطية، للسياسات الإمبريالية في الهيمنة. هل هو قدرٌ محتّم أن يكون معظم الواقفين ضد آليات الإمبريالية في الهيمنة هم من البارعين في إنتاج الكوارث في بلدانهم، وخدمة الإمبريالية فعلياً من حيث يدرون أو لا يدرون؟!
المدن