أبرز مهام الحكومة السورية المؤقتة: معالجة الوضع الميداني في سوريا/ د. نقولا زيدان
تجتاز سوريا في اللحظة التاريخية الراهنة منعطفاً ومرحلة عصيبة، في الوقت الذي تجري الاستعدادات من كل من النظام والمعارضة للحضور الى جنيف2 بأقصى ما يمكن حمله من أسباب القوة وأوراق الضغط على طاولة المفاوضات، هذه المفاوضات التي يفترض بها الوصول الى تسوية أو حل سياسي للأزمة السورية التي تحولت الى حرب طاحنة يتداخل فيها ما هو سوري محلي، بما هو عربي، وما هو اقليمي وصولاً الى ما هو دولي وعالمي.
يجب الاقرار بمرارة لكن بواقعية في آن معاً ان المعارضة الثورية السورية تحصد الآن محصلة ما جرى مراكمته من أخطاء سبق توضيحها والاشارة اليها في السابق. فمنها ما له علاقة عضوية مباشرة بتركيبة الشعب السوري لجهة تعدد وتنوع أطيافه الدينية والمذهبية والاثنية بل الجهوية والمناطقية، فالثورة السورية هي تلقائياً أداة ثورية أفرزها هذا الشعب الشديد التنوع بل التركيب والتعقيد ولا يمكن فصلها عن البيئة التي استرمزت منها عناصرها أي مقاتليها بل قياداتها أيضاً. فلم يكن جسمها هذا محصناً كفاية لمقاومة التخلف والجهل والتعصب المذهبي والطروح الدينية المتشددة والنوازع الجهوية والقبلية والعشائرية الى آخر سبحة. ذلك ان مرحلة التحضير والتهيئة والانشاء جرى القفز فوقها والتغاضي عنها قبل اندلاع الثورة، وكأن الثورة قد غلب على مكوناتها الطابع العفوي فجرى انخراط العناصر فيها كيفما اتفق أي بما هو متوفر بعيداً عن الإعداد الفكري والعقائدي والتثقيف السياسي أي كل ما هو ضروري ليتراص الجسم الثائر المقاتل ليظل قادراً على لفظ ما هو ضعيف أو مربك أو فاسد جانباً. فالمرحلة الأسدية السوداء قد حالت وعطلت عملياً مرحلة التحضير والاستعداد هذه، ولم تتح لقيادة تاريخية ثورية أن تقود هذا النضال “التاريخي” لتصل بعدها لقيادة الثورة. بل ساهمت الأنظمة العربية وفي جملتها الدول المساندة والمانحة في إضعاف الثورة عندما غلبت مصالحها السياسية الاقليمية والدولية على مصالح الثورة وأهدافها، ولم يعد سراً التجاذب الحاد الذي جرى بين هذه الأنظمة العربية والدول في تشكيل الهيئات القيادية السياسية والعسكرية باللجوء لممارسة ضغوط شديدة لفرضها، لا بل،عندما تشكلت الهيئات القيادية المعنية بتلقي المساعدات المالية الملحة والسلاح والذخيرة، وكل أشكال الدعم اللوجستي، كان يجري تجاوزها والاستخفاف بها لتصل المساعدات مباشرة الى الكتائب المقاتلة على الأرض، أرض المعركة. فلطالما اعترضت رئاسة أركان الجيش السوري الحر على ذلك ولطالما حذر الائتلاف الوطني السوري من ممارسات كهذه.
ان مركزية القرار العسكري وادارة العمليات القتالية كما مركزية القرار السياسي ومركزية التمويل والمساعدات والهبات والنجدات والاغاثة والتدخل السريع لهي مسائل في غاية الأهمية لوصول الثورة الى أهدافها. كما ان التحصين الأمني وجهاز المراقبة وجمع المعلومات وتحليلها يدخل أيضاً في هذا الاطار ويخضع للمعايير والقوانين ذاتها.
في الجهة المقابلة رغماً عن الضربات العسكرية والميدانية التي تلقاها النظام الأسد على امتداد نحو ثلاث سنوات من القتال الضاري، والعمليات النوعية التي أصابته فقد استطاع الاحتفاظ بقيادة مركزية تتخذ القرارات الكبرى وتدير العمليات بتوزيع منظم للمهمات القتالية. فالتفوق الجوي ظل ورقة رابحة في يده، وكذلك سلاح الدبابات والمدفعية الثقيلة والصواريخ. كما أن أجهزة الأمن والتقصي والاستطلاع وإن تعرضت للتساقط والانشقاق والانحياز للثورة فقد ظلت تعمل بشكل منتظم لصالح النظام. فالجهاز اللوجستي ظل قادراً على ايصال التموين والذخائر وقطع الغيار الى الوحدات العسكرية الموالية له. وعندما بدأ النظام الأسدي يحس بالخطر الشديد، وبدأت تتقطع الطرق الرئيسية التي تصل المناطق بعضها ببعض الآخر استنجد دون تردد بحلفائه في دول الجوار كحزب الله اللبناني ولواء الفضل بن عباس العراقي بل الحرس الثوري الايراني لينخرطوا جميعاً في المعركة ضمن توزيع منظم للعمليات ومركزية وغرفة عمليات واحدة مستعيناً بمستشارين ايرانيين وروس كما نعلم. لا بل استعان بالنظام العراقي ليؤمن له جسراً برياً وجوياً يتدفق من خلالها الدعم الايراني الواسع، وذلك بصورة متوازية مع الجسر الجوي الروسي المتواصل وتدفق السلاح النوعي عبر مرافئ طرطوس وبانياس واللاذقية.
ونبقى هنا في الجهة المقابلة عندما لم يوفر النظام الأسدي أية خطة ولا أية ثغرة أو صدع بإمكانه النفاذ منه ليزعزع صفوف مقاتلي المعارضة والجيش الحر أولئك الذين هم غير موحدين وغير محصنين حيال المتاعب الكثيرة التي كان النظام وحلفاؤه يوقعونهم بها. فالاستنجاد بحزب العمال الكردستاني لمناوئة الجيش السوري الحر في الشمال، وتسهيل قدوم وتدخل جماعة النصرة الأصوليين الدمويين، واستدراج “داعش” القادم من العراق ليعيث هؤلاء فساداً في شرق وشمالي سوريا والقامشلي وليطعنوا الجيش الحر من الخلف. فهؤلاء الذين أساؤوا لأهالي معلولا المسيحيين السوريين ودخلوا الكنائس ليخربوها كانوا الخدام الأمينين للنظام الأسدي. إن هم النظام الأسدي الذي يملك المعلومات والقدرة على التحرك خلق حالة هائلة من الفوضى والتشتت والخلافات في الجهة المقابلة، ولم يتورع هذا النظام عن استخدام متمادٍ للسلاح الكيماوي لخلق حالة من الذعر والهلع في الجبهة المقابلة. وكان آخرها فاجعة الغوطة، الشرقية تلك الورطة التي استطاع الخروج منها بفضل اتفاق لافروف كيري في جنيف.
والآن في الوقت الذي، بعد سقوط السفيرة حيث عقدة المواصلات الاستراتيجية، يحشد النظام الأسدي بعد استعدادات تطلبت شهراً ونصف من الزمن، قواتاً ضخمة تسانده قوات حزب الله والفضل العباس، أصبحت مدينة حلب بالذات هي الهدف الرئيسي. ذلك ان المطلوب اسقاط هذه المدينة الحيوية الضخمة قبل الدخول الى جنيف2 بيد النظام ليفرض شروطه على طاولة المفاوضات. إن معركة حلب في غاية الأهمية والخطورة وتتجه نحوها كل الأنظار.
بعد سنة كاملة من المراوحة انبثقت عن الائتلاف الوطني السوري أخيراً الحكومة المؤلفة من 11 وزيراً. وقد ضمت الحكومة وزيرة درزية ووزيرين كردي ومسيحي. إلا أن أعباء جسيمة تقع على كاهلها. فهي بحاجة الى اعتراف دولي بشرعيتها، والى تمويل ما دامت ستعنى بالدفاع والصحة والتعليم والأمن وبالنفط والزراعة والصناعة والصناعة الحرفية وبالنازحين في الداخل ودول الجوار… فكيف السبيل لتنفيذ هذه المهام. بل ثمة سؤال ملحّ يطرح نفسه الآن: أين سيكون مقر هذه الحكومة؟.
إن المشهد الذي نراه منذ اللحظة ليس مشجعاً على الاطلاق: على هذه الحكومة المؤقتة التنفيذية ان تواجه “داعش” في الشرق والشمال وتواجه الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي فاقم الوضع المأزوم بإعلان حكم ذاتي في المنطقة الكردية، وعليها أيضاً ايصال المساعدات للمناطق المنكوبة (الدماء، الغذاء، الاسعافات الطبية..) وقبل كل هذا التنسيق الكامل والمنظم والواضح مع الائتلاف الوطني السوري ورئاسة أركان الجيش السوري الحر. فهؤلاء جميعاً بحاجة الى تمويل. وإن بادرت المملكة السعودية لمنحها فوراً 300 مليون دولار، وأفرجت ألمانيا عن 60 مليون يورو كانت مجمدة في بنوكها، كما حصلت على 50 مليون دولار من طرف غير معلن، فإن معركة حلب بالاضافة الى المهام المطروحة لا تتطلب اعادة ترتيب المعارضة الثورية وعلى رأسها الجيش السوري الحر صفوفهم وأوضاعهم بل تمويلاً ومساندة ودعماً لوجستياً أضعاف أضعاف.
إن معركة جنيف2 ستدور حتماً على الأرض السورية، ونتائج معركتها هي التي ستقرر من سيفرض شروطه داخل أروقتها هناك.
المستقبل