صبحي حديديصفحات سورية

أبطأ من غراب نوح/ صبحي حديدي

ثمة ثقافة كونية عريقة تمتدح التأنّي وتذمّ الاستعجال، وقد يصحّ القول إنّ للعرب باعاً أطول في تنمية هذه الثقافة، لأسباب ليس هنا المقام المناسب لاستعراضها. المرء، في هذا الصدد، يتذكّر الأمثال الشهيرة: “مَنْ تأنّى أدرك ما تمنّى”، أو: “في التأنّي السلامة وفي العجلة الندامة”، أو “العجلة فرصة العَجَزة”…

والحال أنه تتوفّر اليوم حركة، وليس مجرّد عادات أو مأثورات ثقافية، تناهض العجلة والاستعجال والسرعة، وتدعو إلى التأنّي والتمهّل والتباطؤ؛ أخذت تنتشر في الغرب والدول المصنّعة المتقدّمة إجمالاً، حيث تكون سمة العصر هي السرعة. هذا، بالطبع، لا يعني أنّ للحركة مقرّاتها وفروعها وقياداتها، على غرار الحركات العالمية البيئية، أو المناهضة للعولمة، أو الداعية إلى تقسيم أكثر عدلاً للثروات، وما إليها. غير أنّ اتساع نطاق موضوعاتها، وتكاثر المراكز المعبّرة عن أفكارها الأساسية، والتسهيلات الواسعة التي توفّرها شبكة الإنترنيت في الاتصال والتواصل، تبرّر إطلاق صفة “الحركة” على مختلف هذه التيّارات المناهضة للسرعة.

هنالك “نادي الكسل” في اليابان، و”الجمعية الأوروبية لإبطاء الزمن”، وتحالف “إستردَّ وقتك” في أمريكا، و”نادي الجنس البطيء” في بريطانيا، وحتى “كرنفال البطء” في أستراليا. وهنالك ما يشبه التخصّص أيضاً، مثل جمعية “الطعام البطيء” الإيطالية، التي تدعوا إلى “إحياء فكرة متمدّنة تقول إنّ ما نأكله ينبغي أن يكون جيّد الإعداد، يُطبخ بعناية فائقة، ويؤكل بأناة وتمهّل وتلذّ”». ذلك لأنّ عصرنا، طبقاً لبيان تأسيس الجمعية، “بدأ وتطوّر تحت شارة الحضارة الصناعية، فاخترع الآلة أوّلاً ثمّ اعتبرها بعدئذ نموذج حياة. نحن عبيد السرعة، وقد سقطنا صرعى الفيروس الخبيث ذاته: الحياة السريعة، التي تقوّض عاداتنا، وتخترق خصوصيّات بيوتنا، وتجبرنا على التهام الطعام السريع”.

على صعيد المؤلفات، ثمة كتاب طريف للغاية، لكنه جادّ ولافت تماماً في الآن ذاته، للبريطاني كارل أونوريه، بعنوان “في مديح التباطؤ: كيف تقوم حركة عالمية بتحدّي عبادة السرعة”، سرعان ما تُرجم إلى الفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية والهولندية واليابانية والصربو ـ كرواتية والكورية والصينية والعبرية، وصدرت طبعاته الإنكليزية في بريطانيا والولايات المتحدة وكندا وأستراليا. وهو يقع في 310 صفحات، حافلة بمعلومات وآراء وحكايات واقتباسات، فكرية وفلسفية وأدبية وتاريخية وعلمية، تبرّر مبدأ الكتاب: مديح التأنّي والتمهّل، والبطء والتباطؤ!

وفصول الكتاب العشر تضع محاسن التباطؤ في حال من الموازنة مع مساوىء السرعة، في البيت والشارع والعمل والإجازة والفراش، وتخلص إلى نصح القارىء باعتماد القاعدة البسيطة التالية: “كُنْ سريعاً حين يكون للسرعة معنى، وبطيئاً حين تقتضي الحال أن تتمهّل. إبحثْ عن العيش على غرار ما يسمّيه الموسيقيون السرعة المناسبة”. لكن المؤلف يحذّرنا من مغبّة عبادة السرعة بذريعة أنّ مَنْ يحيا بإيقاع حياة سريع، هو وحده العصري المتمدّن المدرك لقيمة الوقت. إننا نخلط بين الأجندة الحافلة والحياة الحافلة، يقول أونوريه، ومن السهل أن نقنع أنفسنا بأنّ رجلاً كثير الأشغال لا بدّ أن يكون شخصاً هاماً للغاية.

قبل هذا الكتاب كان جون دي غراف، المنسّق الأمريكي لتحالف “إستردّ وقتك”، قد حرّر كتاباً ضخماً حمل اسم التحالف ذاته، وكتب مقالة مثيرة بعنوان “وقت للخبز ووقت للورد”، ناقش فيها رمزَيْ/ قطبَيْ الحياة اليومية: الخبز، دلالة الرزق والعمل؛ والورد، دلالة الاستمتاع بمباهج الحياة. وأبدى دي غراف أسفه لأنّ تفسير البعض الرديء لمعنى الوقت والسرعة جعل التركيز أشدّ على طراز من الرفاهية تختصره إضافة الزبدة إلى الخبز، فكان أن تُركت الزهور تذبل تماماً!

على الصعيد السياسي، يُنسب إلى بشار الأسد أنه، في خطبة مطوّلة اختتمت المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث الحاكم، خريف 2007، قال في تبرير تأخر الإصلاحات: “خيرٌ لنا أن نسير كالسلحفاة في الطريق الصحيح، من أن نقفز كالأرنب في الطريق الخاطىء”. وقد يصعب فهم السبب في المفاضلة بين هاتين السرعتين تحديداً، إذْ ما الذي يمنع من العثور على سرعة ثالثة، في الطريق الصحيح؟ الإجابة بسيطة، كما برهنت الوقائع اللاحقة: المانع هو أنّ الإصلاح الذي أراده الأسد كان من نوع يأتي ولا يأتي، أبطأ من غراب نوح، كما تقول العرب!

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى