أبو بكر البغدادي واختفاء المسرح/ عمر الجباعي
– شاب يعزف Fur Elise لبتهوفن بإيقاعات وقوالب موسيقية مختلفة، تتشابه في كثير من اللحظات مع تكنيك عازفي الأورغ في ما يسمى “الأغنية الشعبية”، أكثر من أربعة ملايين مشاهدة، قبل 5 أيام.
– فتاة سكرانة تتجول في الضاحية الجنوبية، 125703 مشاهدات، قبل أسبوعين.
– مسلسل قلم حمرة الحلقة 1، 145629 مشاهدة قبل شهر واحد.
– المسرحية التونسية بورقيبة السجن الأخير، 327 مشاهدة، قبل ستة أشهر.
– مسرح تاداوش كانتور، 13895 مشاهدة، قبل سنة واحدة.
– . . . إلخ.
الأربعاء 13 آب 2014، الساعة الرابعة صباحاً، تلك هي العناوين التي يقترحها عليّ يوتيوب لأشاهدها. في بحثي المسرحي على موقع الفيديو هذا، وجدت الكثير من العروض المسرحية، عربية وغير عربية، والكثير من الأفلام الوثائقية عن مسرحيين يُعتبرون من موجِّهي المسرح الحديث، بدءاً من حديث لستيلا أدلر عن ستانيسلافسكي وانتهاءً بفيلم عن السينوغراف والمخرج البولوني تادوش كانتور، مروراً بأنتونين آرتو وفيسفولد ميرخولد وييجي غروتوفسكي (كما يلفظ بالبولونية) وبيتر بروك ويوجينيو باربا وأغستو بوال.. إلخ.
هؤلاء الذين كنت أتمنى عندما كنت طالباً في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق أن أشم رائحة كتبهم ولو باللغة الصينية لندرتها مترجمة إلى العربية (فما بالك أن أرى عروضهم؟)، وها أنا ذا أكتشف، بعد كل هذا التوق، أن فتاة سكرانة في الضاحية الجنوبية تجمع عدداً من المتربصين في أسبوعين يفوق ما جمعه هؤلاء في سنة كاملة.
تبدأ مشكلتي مع نفسي من المقطع السابق، حيث لا ذكر لسعد الله ونوس أو عز الدين المدني أو روجيه عساف أو نجيب سرور أوغيرهم من المسرحيين العرب. أجل أنا (لاشعورياً صدقوني) أعتد بمعرفتي لأسماء غربية في المسرح أكثر من اعتدادي بمن أعرفهم من الأسماء والتجارب المسرحية العربية، وهذا اعتراف صعب.
تلك المشكلة وهذا الاعتراف أفقداني توازني، فمن مؤمن بالمسرح كوسيلة للتغيير ثم كوسيلة للتعبير ثم كوسيلة للحوار، وفي كل الحالات كوسيلة لتحقيق الذات، وجدتني فجأة لا أؤمن بشيء من ذلك بما فيه ذاتي المسرحية، إذ كيف أطالب الناس بقراءة مسرحياتي وأنا لا أقرأ النصوص العربية وبموقف مسبق يعلن رداءتها إن فعلت؟
ولكن القناعات تتغير، وها أنا أعود للإيمان بدور ما للفن عموماً، وللمسرح خصوصاً، المسرح فن عابر للوطنيات والقوميات، وكوني لا أعرف ما يجري على مسارح العالم العربي لا يعني أن المسرح في العناية المشددة، بل يعني أن علي أن أتابع ما يجري.
كنت أظن أنني أدافع عن وجود المسرح لأنني أعمل فيه، وكنت أسأل نفسي دوماً: هل نحن بحاجة للمسرح حقاً؟ أم أن دفاعي عنه هو مجرد دفاع عن لقمة العيش؟ عن الشيء الوحيد الذي درسته؟ هل يؤثر اختفاء المسرح على أحد إلا على المسرحيين؟ هل سيقلق اختفاؤه بان كي مون أو يثير نزعة الشجب لديه؟ هل يمكن أن يخصه أوباما بمقطع تأبيني في خطابه السنوي للأمة الأمريكية؟ ما موقف فداحة السيد أبو بكر البغدادي من اختفاء المسرح؟
تجيب دمعة طفلة أثناء أحد التمارين في ورشة عمل مسرحية بأن هناك من يهتم، وبأن المسرح ليس ترفاً بل ضرورة، ولكن بشروط جديدة لستُ متملكاً لها جميعاً بعد، ولكني متأكد من شرط واحد على الأقل: أن يخرج المسرح من المسارح جميعاً، أن يخرج من المدن. يقال: هناك أزمة جمهور، الناس لا تأتي إلى المسارح. إذن فليأت المسرح إلى الناس، فليتواضع المسرحيون وليعيشوا بين الناس، ليعيشوا بينهم بكل معنى الكلمة، وأول من أُسمِعه ذلك نفسي.
لم تكد قناعتي هذه تستقر حتى هزها يوتيوب، فإذا كان بيتر بروك وهو من هو، لا يجد من يتابعه لا في أوروبا ولا في عوروبا إلا قلة قليلة، فماذا أقول أنا الذي لا كعباً بلغتُ ولا كلابا؟ أم أنه المسرح، يسير إلى مدفنه مشيعاً من بعض أحبائه القلائل؟
* كاتب مسرحي من سوريا
العربي الجديد