أبو علي صالح.. اعتقال متكرّر/ محمد ديبو
مشهد (1): رجل يقدّم حليبا ومواد غذائية لعائلات نازحة. حين عرفت تلك العائلات النازحة بخلفيته الطائفية أقدمت على رمي الحليب والمواد، خوفا من أن تكون مسمّمة!
يقول رجل آخر للرجل الذي قدّم المعونة: أما زلت مصرّا على تقديم المساعدة؟ يجيب وبلا تردّد، وبما معناه: لا معنى لحياتي إن كان تصرّفا كهذا سيجعلني أتخلى عمّا أؤمن به.
مشهد (2): صيدلية في حمص، عائلة نازحة تحتاج دواء لا تملك ثمنه. يتقدّم رجل ويدفع الثمن، ثم يمضي لتأخذ العائلة الدواء. يتبعه رجل العائلة، ويخبره كلاما مفاده بأن أهل الطائفة لبعضهم بعضاً. يضحك الرجل، ويتابع سيره، بعد أن يقول له كلاما عابرا للطوائف.
**
لا أعرف لماذا يقفز الحدثان هذان إلى ذهني، كلما اعتقل محمد الصالح، المعروف باسم “أبو علي صالح” (اعتقل البارحة في حمص في رابع اعتقال له)، على الرغم من أنّ سيرة هذا الرجل وتاريخه وحاضره تضج بأحداث ومواقف كثيرة كان أبو علي في خضمها، منذ انطلاقة بواكير النضال ضد الاستبداد في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، إذ اعتقل ثلاثة عشر عاما على قيود حزب العمل الشيوعي، إلى ساحات التظاهر في حمص بعد انطلاق ثورة الكرامة (2011) إلى العمل المدني، لمنع الاحتراب الطائفي، وإبقاء خطوط التواصل حيّة بين المواطنين، لا الطوائف، لإدراكه المبكر أنّ الثورة تكمن هنا، في انتصار المواطن فينا على الطائفي الذي يمدّ في عمر النظام.
ربما هنا يكمن السبب الذي يجعلني أتذكر هذين الحدثين دوما، وذلك عبر محاولة الإجابة عن سؤال: ما السبب الذي يجعل نظاما مدجّجا بالسلاح والأجهزة الأمنية والقمع والدعم الروسي والإيراني، ومعهما الممانعة الكاذبة من اعتقال رجلٍ لم يحمل يوما إلا الكلمة، ولم يمتشق سلاحا إلا إيمانه بالإنسان؟
عمل النظام في سورية بشكل ممنهج وواعٍ على جرّ الجميع إلى مستنقعي الحرب والطائفية، إذ أدرك مبكرا أنه كلما أصبحنا نشبهه، ولو من موقعنا ضحايا، ستبدأ هزيمتنا، لذا لم يكن عدوه الأساس، من حمل سلاحا، ولا “داعش”، ولا من تطيّف وتأسلم.. لأن بعض هؤلاء كان جزءا من الثورة المضادة، ولو من موقع النيات النبيلة (حملة السلاح). ولهذا لم يتوقف النظام يوما عن اعتقال هؤلاء، حتى في أعز مآزقه العسكرية، إذ كان دوما يجد الوقت لاعتقالهم وتصفيتهم لإدراكه التام، أنّهم وحدهم، من يصنعون البديل الحقيقي عنه، وأنهم وحدهم من يقدّمون الإجابة عن سؤال: ما البديل؟ ومن يحكم إذا رحلت الطغمة الحاكمة؟
بعد المشهدين السابقين، كان ثمّة سؤالٌ يقفز إلى ذهني دائما، سؤال تعزّزه الروح الوثابة والضحكة الهازئة من مصاعب السجن، وما مرّ به، تلك الضحكة التي يطلقها أبو علي بعد كل اعتقال وكأن شيئا لم يكن. والأهم القدرة على متابعة العمل، وبالروحية نفسها، وبالأمل نفسه، حين اعتقل أول مرة قبل ثلاثين عاما ونيف، ما يدفعني إلى التساؤل: من أين يستمد هذا الرجل العزيمة للنهوض بعد كل اعتقال؟ كيف يرمّم روحه، ليقدر على تقديم كل هذا الأمل لنا، نحن الجائعون للأمل، في أزمنة اليأس من الثورات كلها اليوم؟
نعم، لهذا أيضا، يعتقل النظام رجلا كأبو علي صالح، لإدراكه التام أنه يزرع الأمل أينما حل، ولإدراكه التام أن رجلا بسيطا وهادئا وطيبا، ويعمل على الأرض بهدوء النمل وتفانيه، وبكل سلمية، بكل ما يحمل الأمر من إدراك واسع لأهمية التراكم، هو أكثر خطرا من “داعش” التي يفتح لها الباصات الخضر هنا وهناك في لعبة مقايضة فجة.
إن رجلا له عمق الرؤية التي تجعله يميز لحظة الزيف الثوري عن لحظة الثورة الحقيقية في أشد لحظات الظلام والضجيج الثوري، ويمتلك شجاعة “الموت وقوفا كالأشجار” على أن يتبع شعبوية الثورة المضادة، هو رجل مخيف حقا، لا لشيء سوى لأنه يفتح الدرب حين يغلق، ويبقى يتكلم عن الظلم، حين يتعب الناس، ويبقى ذلك الطفل الذي يشير نحو الملك العاري، والأهم أنّه الإنسان العابر للطوائف والأقوام والأديان والإيديولوجيات، من دون أن يتخلى عن أيٍّ من انتماءاته.
هؤلاء من يسعى النظام إلى تجفيف سورية منهم، من دون أن يدرك أن سورية عصية على الجفاف، وأنّ ما زرعه أمثال محمد الصالح أينعت زهوره في جغرافيا سورية الممزّقة، وستنبت يوما ما: أملا وحرية.
العربي الجديد