أثمان التحوّل
عباس بيضون
ينتهي العام وتبقى كتب لم تكتمل، مسرحات ما زالت في العرض. معارض تعد. أفلام قيد التحضير. منحوتات قيد الشغل وفايسبوكات، فايسبوكات كثيرة لم تغلق صفحتها. العام مساحة زمنية لكنها ليست باباً وليست نهاية شوط وليست خاتمة لشيء. الثقافة تتململ، تتحرك، تصمت، تضطرب، بدون أن تعبأ بالمواقيت المضروبة، ليست على موعد مع نهاية العام. والعام قد ينتهي ولا نشعر. العام يتضمن حدثاً كبيراً. ما زال هو نفسه من عامين، وربما من ثلاثة، هو الانفجار الذي بدأ في تونس وانعطف إلى مصر وليبيا واليمن وما زال يراوح في سوريا.
هذا حدث زلزل الحياة بمختلف حقولها السياسة والدولة والجيش والمجتمع والاقتصاد. يلاحظ أن كلمة ثقافة لم تذكر هنا. ليس لأنها غير حاضرة إنما لأننا لا نملك قياسات لها. لأننا لا نعرف مدى تمطيها أو تمددها أو انعطافها أو تحولها. الثقافة ليست فقط واعية، ثمة ما ليس واعياً وما يتم بدون أن يواكب ذلك وعي من أي نوع. ثمة ما يملك فهماً ضامراً فيه، ما يؤشر إلى انعطاف أو تحول أو تململ بدون أن يقوله. الثورات أو ما سمي ثورات تزلزل المباني المناطقية والعائلية والدينية والإرث الثقافي والرواسب المنطوية فيه. لا تزلزل هذا فحسب بل تحمله إلى وجهة أخرى أو وجهات أخرى لتظافر هذه المباني والعناصر ولتشابكها وتواصلها.
إذا قررنا أن نخرج من الملاحظة المنهجية إلى معاينة مباشرة فإننا نفهم أن المباني القبلية والعائلية والعشائرية التي استقرت منذ وقت على صلات تبادلية بالسلطات، وهذه الصلات تخدم رسوخ السلطات ورسوخ المباني. لم تعد في الوضع ذاته الآن. لقد اهتزت هذه الصلات وانكفأت تدافع عن نفسها. ما إن تنحسر السلطة حتى تجد نفسها بدون قيّم على توزعها وتراتبها وعلاقاتها فيما بينها، هذا قد يؤدي إلى نزاعات على المكانة والمرتبة وعلى النظام. نزاعات قد تكون دامية وقد تهدد السلم الاجتماعي والتوازن الداخلي، لكنها تعني أيضاً أن النظام القبلي والعشائري والعائلي والاجتماعي بوجه عام يهتز ويترنح ويميل ذات الشمال وذات اليمين. يعني بأن تحولاً يحصل لا بد من دفع ثمن دامٍ له. أن نخراً للنظام الاجتماعي قد يتم ببطء أو بسرعة، بهدوء أو تفلت، ثمة ما يحدث ويحتاج إلى زمن ليتم. خلاله قد نعاني وقد نقاسي وقد تطول مقاساتنا أو تقصر، فللأشياء وقت ولا نستطيع أن نستعجلها أكثر مما يجب. كما لا نستطيع أن نتجنب هبوبها ودورانها وعواصفها وانخسافاتها.
السلطة نفسها التي لم تكن متجذرة لكنها محمية بشبكة أمنية، ليست غائرة في المجتمع لكنها ظاهرة بارزة كوحش مواجه. ظاهرة بارزة كقوة خرساء. هذه السلطة إذا انزاحت أو انفجرت قد تترك شظايا. هذه بحد ذاتها تصطدم ببعضها البعض وتنهش بعمى بالغ بعضها بعضاً وربما شربت من دماء بعضها وربما ساست نفسها وغيرها بعنف أعمى. غياب السلطة على هذا النحو قد يعني غياب أي مزان وأي حد، ولا نهاية عندئذ للعنف أو التفلت أو العسف.
الزلزال، لا بد يصدع الموروث الاجتماعي ورواسبه الغائرة، يصدع الراسب الديني والقرابي والمناطقي والدموي لكن هذا التصدع لا يخلق بسهولة العوض ولا يقترح البديل. وقد يكون الأمر غير ذلك تماماً، فالمبنى المتصدع لا يستسلم لتصدعه ولا يركن له، إنما يسهل التصدع التسيب والارتطام والخبط الأعمى والاختلاط الجنوني، فهذه المباني المتصدعة لا تركن لتصدعها وإنما تنفجر فيه وبه. قد يكون هذا الانفجار مزلزلاً وقد يكون عابراً، قد يعقب نتائج وخيمة وقد يعقب نهايات سريعة. لكن الأكيد أن بنياناً راسخاً منذ عشرات وربما مئات السنين لا يهتز ولا يتقلقل بدون أن يسحق في طريقه وبدون أن يفجر في طريقه، وبدون أن يحدث في كل لحظة كارثة، بل ومحنة جارفة. إذا سقط نظام فلا بد أن يهوي على مبانيه ولا بد أن يسحقها تحته، ولا بد أن يحدث فيها كسوراً وإعاقات وخسارات أكيدة، كل هذا لا بد منه لكننا برغمه قد انتقلنا شطر وقد تحركنا من مواضعنا إلى مواضع غيرها. لا بد منه لكننا برغمه قد دخلنا في محاكمة حقيقية للموروث الراسب ودخلنا في مساءلة فعلية له. قد يطول الزمن حتى تصل هذه المحاكمة إلى خواتيمها وقد يطول زمن المساءلة لكن الأمور بأوقاتها ولا نستطيع أن نهدم تراث عصور في ساعة، بل ولا نستطيع أن ننتزع أمورا غائرة بهذا العمق في ساعة. لكن التحول بدأ وأمامنا طريق حقيقية. أمامنا وجهة تلوح وربما تظهر. أمامنا عملية تغير بوشرت وستصل في يوم إلى نهاياتها. هذه الرواسب هي الآن في عراك لكنه عراك الزوال، هي الآن في صراع لكنه الصراع الأخير، وهو ومهما يطول فإن عصراً جديداً يبزغ. مهما طال ومهما يطول فإن قيماً أخرى، قيماً بديلة بدأت تأخذ أماكنها، ولا بد أن تستقر بعد وقت في تراثنا وفي ترابنا الاجتماعي. لا بد أن تتحول إلى ثقافة وإلى تربية وإلى سلوك وإلى دوافع.
أما إذا كنا نعني بالثقافة الإنتاج الثقافي، أدبيات التحول فإن لهذه طوراً آخر. لهذا مقدمات في اللغة وفي الإيقاع وفي الفكر وفي الموهبة. لهذا تاريخ ليس تماماً تاريخاً آخر. لكنه تاريخ خاص، والأرجح أنه ليس سابقاً. إن وقته يأتي في الغالب متأخراً. متأخراً قليلاً أو متأخراً جداً لكنه يأتي.
السفير