أجساد بألبسة الآخرين/ عزيز تبسي *
يكاد يكنّ متخفيات وهن يمضين الهوينى، في «عز الظهر»، لينقبن في أكوام محلات الثياب المستعملة، الموزعة في أسواق متاخمة للمدينة القديمة، ليشترين لأولادهن كسوة من الألبسة المبهجة، يقفلن بها على أجسادهم، التي باتت تزداد طولاً وعرضاً.يعدن متوجات بعرق يسيل من أعالي رؤوسهن، وينضح من جباههن، ليدخلن الحمامات، كناية عن ذاك الحيز الضيق الذي تتوضع في زاويته التواليت وفي زاوية مقابلة غسالة «فريسكو» محاذية لجرن الحمام القريب من اسطوانة معدنية، تتهيأ في جوفه المياه الساخنة بعد إيقاد موقد النار الرابض تحته.محملات بأكياس سوداء تكتم ما بداخلها، يفرغنها على البلاط، قبل أن يوقدن تحت آنية الغسيل، ويملأنها بالماء ومساحيق المنظفات والمبيضات.. يرمينها قطعة قطعة، ويضغطنها بعصا قصيرة لإتمام انغماسها الكلي في السائل القلوي.
لا يفْرجن عن أنفاسهن، إلا بعد أن يطمئنَّ لغليان الماء، وانبجاس فقاعات الصابون من سطحه، يخرجن إلى أولادهن الموزعين في غرف البيت الكبير، فيجدن كلٌ في مكانه، يوهمنهن أنهم لم يلاحظوا غيبتهن في هذه القيلولة الطويلة.لم يستطع أبناؤهن تفسير هذا المزيج من الخشية والخجل الذي يتلبس أمهاتهن، وهن يفعلن ما يفعلنه في هذا التسوق الاضطراري. ترى ألا يليق بالأمهات أن يُلبسن أولادهن ألبسة مستعملة كانت في وقت ما على أجساد سواهم من الأولاد؟ أم أنه استمرار لذاك الخوف الميتافيزيقي المتأتي من انتقالات المصائر في ألبسة الآخرين، التي تحمل روائحهم وشعرهم المتساقط، وأنفاسهم.قبل ذلك، كنّ يحمْن كطيور جارحة في «سوق الصوف»، لينتخبن من أرفف حوانيته الغزول بألوانها الزاهية، ويعبرن بعدها على صديقاتهن أو قريباتهن، ليتمعنَّ بمجلات الأزياء عن تناسق الألوان، ويفتشن عن رسوم لأيائل وطيور ملائكية، وأرانب تفوز بسباقاتها على السلاحف.. وأوراق زهور من أقاصي الأرض.. ليحكن بها كنزاتهم ويزينَّها بهذه التمائم علها تبعد عنهم سياط النوائب.
****
كانت ورشات المدينة، لا تزال صغيرة ومرتبكة، ومصانع الدولة تنتج أقمشة تظهر الناس بعد خياطتها وارتدائها كأتباع فرقة كشافة وهم يسيرون في الشوارع بألبسة تكاد تكون واحدة، بعد أن عجز الخياطون بخيالهم المحدود عن الاحتيال على ألوانها المتقاربة وسماكة ملمسها، وأضحى بالإمكان تمييز الناس وفق ألبستهم وألوانها: الكحلي لعمال الشركات الحكومية وعمال التنظيفات وميكانيكي السيارات والشاحنات، والخاكي لموظفي النقل الداخلي والعساكر والطلاب…
والريفيون الوافدون لبيع منتجاتهم وشراء سواها، يختالون في الشوارع المتاخمة لأسواقها التاريخية، بجلابيب من اللون الخاكي، ويغطون رؤوسهم بكوفيات بيضاء، تسورها أعقلة سوداء مبرومة على هيئة سوارين متراكبين.ولم يبق سوى بعض المدارس الخاصة، تتأنق بألبسة هي مزيج من جماليات التقشف، حيث كانت تكفيهم لمسة مشفوعة بلون مختلف على ياقة القمصان أو أساور أكمامه، حتى يتحرروا من عبودية اللون الثقيل.
كان الناس قصار القامة أكثر مما يجب، بأثر ناتج عن شدة الأحمال وسوء التغذية المزمن وثقافة الخنوع، مما سهَّل تحولهم لمطية للواثبين على أكتاف بعضهم من العسكريين، الذين ما انفكوا يخاطبونهم باسم صغير الحمار، وإمطارهم حين يهيجون بسيول ألقاب لا تدل على هوية محددة من مثل حيوان أو بهيم. والناس يتجاهلون ما يحصل حولهم، يصطفون في أول الصباح قرب بعضهم كبلاط بازلتي صقيل، ويمتحنون الرغبة في الحياة، كما امتحن أجدادهم الماء من أعماق الآبار الجوفية، فيبتهجون لقدوم مواسم الورد الجوري ليصنعوا من خمائرها عطوراً ومن أوراقها مربيات وأشربة، ويتعقبون تحلل روائح العسلية بنسائم الهواء الحار ليملأوا صدورهم بعبقها المسكر، ويركضون لاستقبال سلال الكرز من آخر بوابات المدينة ليمزجوا عصائرها المركزة بكرات اللحم المطبوخ… ويترقبوا مباغتات المشمش ليحطموا نواته الصلبة بمطارق من خشب البلوط، ويقتلعون حراشف ثمرة الأرضي شوكي ليقضموا زاويتها البيضاء ويرمون الزائدة على الرصيف، كما ترمي العاشقات وريقات زهرة «لا تنسني» على جانبي مقاعد الحدائق في بلاد الإفرنج.
يتنعمون بعدها بتدخين «التتن» بمشارب من أغصان المحلب، صادحين بأغاني تفر من وثباتها المفاجئة طيور السمان وعصافير الدوري إلى أعالي أسلاك الكهرباء.ولم يتحرروا بعد من آفة الخجل، واعتبروا إطفاء لفافات التبغ في الوجوه والأعناق ووضع الأحذية الرجالية من نمرة 44 في الأفواه، من حقوق الدولة، وسمة من سمات تمجدها، لكن بعضهم قال أخيراً وشفتاه ترتجفان: إنكم تؤلموننا، هذه الأحذية للأقدام الحافية، لا للأفواه الجائعة. قالها بعد أن غادرت كلمة الجوع أرضها، وأضحت تعبِّر عن عموم الحاجات المفقودة، كالجوع إلى الحرية، والجوع إلى الكرامة الآدمية، وحتى لتلك الأنماط المتقشفة من العدالة.
****
ويتذكرون في هذه الأيام أمهاتهم، حين كنّ يحملن أكياس الألبسة المستعملة من الأسواق، محتاطات بخوف ووجل من انفجار فضيحة أخلاقية، بعد أن أضحت سرقة المنازل وأثاثها وألبسة أهلها، أنماطاً سلوكية رائجة.
ازدادت السرقات، وباتت تتم في رابعة النهار، والأبرز أنها وجدت لنفسها تسويغاً أخلاقياً وشرعياً، وبات العامة يتداولون فهرست قاموسها، «تشبيح» «تشويل» «تكبير»، وإن كانت الأولى تعبر عن السرقة المحمية بقوة السلاح، فالثانية تدل على «الشوال»، الكيس المصنوع من خيوط الخيش التي توضع فيه المسروقات، والثالثة على انتقال الملكية شرعاً من الكافر إلى المؤمن بعد وضع اليد فوقها رمزياً والهتاف «الله أكبر». وأضحى اللصوص يحملون مسروقاتهم بفرح، كما يحمل الطلاب حقائبهم المدرسية، ويطلبون كذلك من شركائهم تثبيت هذه اللحظات التاريخية بصور للذكرى.يكاد الناس الموزعون على الأرصفة وفي أطراف الحدائق وفي مراكز إيواء النازحين، يصرخون بصوت واحد: أنت تلبس ثيابي، كما أن زوجتك ترتدي ثياب زوجتي.. وذاك يسكن بيتي وينام في سريري.. لكنهم سيعجزون عن القول: إنك تسرق مقتنياتي، كما سرقت قبلها حياتي. وأخيراً تهيأ للركض خلفهم: هيه أنت، أيها الرجل الذي لا يبالي بمن حوله، إنك ترتدي الطقم الذي لبسته في عرسـي. ولكن هل كان يعنــي العرس، أم ذاك اليوم الذي صعدت فيه الأناشيد في الشوارع إلى العلياء.
* كاتب من سوريا