أجل.. يائسة من الكتابة/ هاجر الشريف
اليوم، خضت نقاشًا مطولًا وعنيفًا مع أحدهم عن جدوى الكتابة. أخبرته إنني متردّدة، وإنني أفكر في استبدال جميع أحلامي الكتابيّة بمشروع مغاير.. كافتتاح مقهى، أو زراعة حديقة البيت الخلفيّة، أي شيء يجعلني سعيدة ومسترخية.
إنه أحد الأسئلة التي تتسبب في ذعر أي كاتب في مقتبل مهنته، عن جدوى ما يفعل، عن قيمته الحقيقيّة مقابل عمره القصير: هناك آلاف الكتاب الآخرين، الأشجع، الأذكى، الأكثر ثقافة وإخلاصاً، ما الذي سأفعله لهم، وما الذي سيفعلونه لي؟ وإن كان هناك شيء قابل للتحقيق، لماذا لم يحققوه؟ هل الهدف هو الطريق نفسه؟ هل الكتابة كفعل نضالي هي كل ما هنالك؟ ماذا لو كانت كذلك؟ لماذا أصطف مع آلاف من الآخرين لفعل الشيء نفسه، فيما يمكنهم فعله بدوني؟ لا يبدو الأمر مجدياً. إنني – على الأقل – لو قمتُ بزراعة الطماطم في الحديقة، سأمنح الظلّ وفيتامين “ج” للطيور والحشرات والطبيعة، وربما الجيران أيضاً!
أما الكتابة، فإنها ملاحقة الهموم، وتبنّي القضايا الميؤوس منها غالبًا، والتنقل بخفة بين ألغام الأخبار المرعبة. حالة الكتابة – العربية منها على الأقل – ترتبط بالممنوع، بما لا يصحّ قوله، بالمسلوب، بالضائع، بالمحرّم، إنها حالة شدّ وتوتر عنيف مع الذات، والمجتمع، والسلطة؛ وأنت حين تكتب، لا بدّ أن تُغضِب على الأقل اثنين من هذه الثلاثة! الكتابة التزام عقليّ ومهنيّ ونفسيّ، الكتابة هي حالة زواج، ولكن هذا الزوج نكديّ ويحمل العديد من الأمراض العضوية والمشاكل النفسية، فلماذا يقبل أي عاقل هذا العرض؟
إنني بحمقي واندفاعي كنت أعتقد بأنني أكتب لأنني أحمل عبء العالم، وأنها الوظيفة الإنسانية الأسمى والأكثر نُبلاً، وأكثر الكتاب يبدؤون طريقهم مؤمنين بهذه “المهمة السامية” إلى أن ينتهي بهم الأمر محنّطين في أعمدة الصحف والمجلات بمرتب شهري أو كرسيّ مريح. وبهذا تصدق نبوءة موليير الذي وصف الكتابة بطريقة لاذعة: “كالدعارة، تبدأ في ممارستها بدافع الحبّ، ثم تفعلها لأصدقائك والمقربين منك، ولاحقاً تفعلها من أجل المال”.
حين كتبت، أدركت أن الكتابة فعل نخبويّ يتمّ تدويره بين القلّة من المهتمّين والأكاديميين، النخبة التي تعرف مسبقاً كلّ شيء ستقوله، وستأتي في الغد لتقوله بشكل آخر. قد تكون الكتابة حقّاً ممارسة إنسانيّة، لكن ليس بمعنى أنها تدقّ الباب وتوزع أقراص الخبز على الفقراء فجراً، بل ترسم قرص الخبز في لوحة جميلة، وتكتب تحته: فقير ينظر. إنها أيضاً فعل شعبيّ، ليس بمعنى أنه يناهض المستبدّ ويحاربه، بل أن يراوغه ويشاكسه بقدر ما تسمح به “القوانين”.
الكتابة في عصر الهوان العربي من شأنها أن تجعل أي كاتب يغصّ في يأسه؛ الشاعر اللبناني خليل حاوي ظلّ يكتب القصائد إلى أن دخلت قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى بيروت، فأطلق الرصاص على نفسه منتحراً، ولم يتوجه لكتابة قصيدة أخرى “تصف شناعة الموقف”، مطبقاً قاعدة الشاعر الألماني نوفاليس: “الفعل الفلسفي الحقيقي هو الانتحار” والكتابة ليست إلاّ حالة تأجيل وتسويف وإرجاء.
بينما يقول محمود درويش، “أكتب لأني بلا هوية ولا حب ولا وطن ولا حرية”، ولعلّ هذا التعريف يُرضي متورّطي الكتابة العرب، أي تناول الكتابة بوصفها حالة حرمان، فضاءً ضيّقاً للرقص والبكاء على إيقاع القضايا الخاسرة.
بالطبع هناك من ينظر إلى الكتابة ذاتها بوصفها الحدث النهائي الذي تتوقف الرغبة عنده، فالقاص أشرف البولاقي يقول إنه لا يكتب من أجل أي شيء إلا الكتابة نفسها بوصفها أعظم وأجمل الاكتشافات الإنسانية. وهناك من يجد الكتابة نمواً ذاتياً قبل أي شيء آخر، وهناك أيضاً من يُبقي أهدافه متواضعة، فيكفيه من الكتابة أن تكون بينه وبين مجتمعه تلك الصلة الفكريّة، بدون أن ينتظر من الناس أن يؤمنوا بدعوته، فالكاتب ليس نبيّاً، مهما أحبّ محاذاة هذا الدور والتشبّه به.
في التحقيق الذي أجراه سعد الياسري في مجلة رواق الكويتية (2007) عن جدوى الكتابة مع مجموعة من الكتاب، جاءت أغلب الإجابات مجازية ومليئة بالعاطفة والمنكّهات البلاغية، فكانت الإجابات من داخل الكتابة نفسها، وليس مراقبة خارجيّة لفعل الكتابة بوصفها ممارسة وجودية. أو قد تكون مراقبة فعل الكتابة مستحيلة التحقق، حيث إننا جميعًا مساجين داخل نصوصنا، فلا مجال للحياد والهرب، إذ “لا شيء خارج النصّ” كما يقول دريدا، فيكون التخلّي عن الكتابة مستحيلاً، وكأنه التخلّي عن الحياة نفسها.
ربّما لستُ نبيلة بما يكفي لأكتب، أو أنني حالمة أكثر مما ينبغي، أو متطلّبة أكثر مما يتطلّبه الموقف. ولست أعرف، ربما بعد عقود من الآن، سيكون لديّ عمود صحفي أمضغ فيه كلاماً مكرّراً، أو حديقة مليئة بأشتال الطماطم!
* كاتبة وأكاديمية من السعودية
العربي الجديد