صفحات الثقافة

أجمل الدمشقيات

 

    فاروق يوسف

هو بعضها. هو الخمسة في المئة المتبقية منه في لوعتها. الحافية بقدمين من عاج. لقد رأيتك من قبل. قالت. ربما في مقهى بساروجة في أحد أحياء دمشق. ولكنك عراقي، هل أقمت هناك؟ تساءلت برقة مثلما تفعل السوريات. قلت لا. لكن أصدقائي السوريين ربطوا ساعة شامية بأسفل فمي. روت لي أنها حطمت باب البيت لتنقذ طفلتها. كان الحريق هائلا وكنت عائدة من المخبز. قالت. لم أسألها ما حكاية المخابز؟. يحق لها أن تمزح مع الله. الذاهبة إلى رغيفها مثل طفل يخرج من محبرة. لقد وجدتها نائمة. أقصد طفلتها. كانت الطائرة بجناحين من سندس. كان طائرنا معنا. عسل يتثاءب في الشفتين. كان الغزل كله أمويا. أنظر إلى طفلتها. لا تزال نائمة. لم تر شيئا من تلك النار وكان الوقت شتاء. قالت: أجّلت البكاء إلى ما بعد الفزع الأكبر. بعدها لم تبك. كان الوقت قد تأخر. لقد نسيت أنا الآخر كتبي. لم يعد في إمكاني أن أعثر على الكتاب الذي أريده مغمض العينين، كما كنت أفعل في السابق. صرت أمدّ يدي فلا تلمس إلا جدارا أصمّ. ما من كتاب. تضحك. كأنك مجنون أو أعمى أضاع الطريق إلى بيته ووجد نفسه في بيت هو ليس بيته. أخبرتها بالحقيقة. كان الطباخ البوسني أصلع وكان مساعده لبنانيا. همس اللبناني في أذني: لا تثق به. إنه عدواني، حين يغضب ربما يقتل أباه. صرت أشرب الحساء الذي لم يكن له لون. لم يكن له طعم. لم تكن له رائحة. غير أن جسدي صار يشفّ عن ذلك الحساء. لا يزال الحساء يتحرك هناك. صاعدا نازلا. حية ودرج. مرة فوق وأخرى تحت. فوق الشجرة مثل أبي عبد الحليم حافظ، وتحت الشجرة مثل تفاحة فهد بلان. أبي كان هناك ينظر إليَّ بعينين مفجوعتين. أهذا ما بقي لك من الكتابة. ألم تكن دراسة الاقتصاد أفضل؟ مر بخفة ولم يلتفت. أنا وضعت السؤال على شفتيه كما يفعل رسّامو المجلات الشعبية المصورة. أنت تمزح بالتأكيد. هل مرّ أبوك من هنا حقا؟ لمَ لا؟ لقد مرّ قبله كسرى. نام سرجون تحت معطف تلك السيدة الأشورية. لعب مصطفى جواد الشطرنج مع الملا عبود الكرخي في الزاوية الميتة للهدف. قال الواحد منهما للآخر وفي الوقت نفسه: لقد هزمتني. مرّت سعاد حسني ولم يتعرف إليها أحد. كانت قطة جارتي الاوكرانية واسمها زوزو تموء صباحا. لقد مات صلاح جاهين، سمينا وقصيرا ومعذبا بحسرته. تسألني مَن أنت؟ لقد انتهيت أخيرا إلى أن أكون فاصلة بين جملتين لم تكتبا بعد. خُيِّل إليَّ أنهما قد كُتبتا فيما كنت نائما في محطة انتظار الحافلات. كلما قال أحدهم “وصلت الحافلة”، ركض مليون قنفذ. “آلو” اسمعها وقد وضعت الهاتف النقال على أذنها. اللاجئة تتصل بالعالم الآخر. تأتيني خائبة وتهزّ يديها: “هناك من يتصل بي من غير أن ينجح”. نحن ناجحون. تلك أوزة عراقي، اوستراليا هي موطنها الأصلي. وأنت أين يقع موطنك الأصلي؟ تشبه فتيات بيكاسو. السوريات يجدن صناعة القناع. العينان. الشفتان. الأنف. الجبهة. الخدان. الحنك. المسافة التي تأسر والتي تقع بين الأنف والشفة العليا. ينفتح الفم عن لسان وردي. ترتجف الأهداب فأسمع حفيف أوراق شجرة خيالية. يتمكن الياسمين مني. قناع لكل آلهة. قناع لكل روح. ينفع في هذه الحال أن يكون المرء تكعيبيا. سنعيد قندهار إلى حلب فيما ترفل حماه بذكري روما. بالحرير طوّق خصري لأرقص. في سوق الحميدية طلب مني عادل السيوي أن أصوّره مع محل متخصص ببيع الالبسة الداخلية النسائية من النوع الايروتيكي (لانجيري). قال البائع: هذا يطلق نغمات. وذاك يضحك. اما الوردي فإنه يتأوه. سكت البائع لأننا تركناه ومشينا. لم يسأله أحد. باعة الحميدية مسالمون. اللانجيري هو الآخر طريقة تكعيبية للتفكير في الجسد. من خلاله. لديك حصاة وعصا. نصف الحصاة الأزرق في الماء فلا تراه، ونصف العصا الأصفر في الماء فتراه مضاعفا. العصا ترغب في أن تضرب الحصاة فلا تتمكن من الاهتداء إلى الطريق التي تقود إليها. الحصاة ترغب في أن تنقسم نصفين لكي تلمسها العصا مرتين. مرة من أجل آهة هي مجرد فكرة مبهمة، ومرة أخرى من أجل آهة ستنعم بشمس ربيع يفكّ الاشتباك بين فصول السنة. أضحك من بلاهتي. لو كان بيكاسو حاضرا لأسرع إلى ضرب الحصاة بتلك العصا وفلقها ولكنا اليوم نزاوج الشياه ببنات آوى. “الفكرة ليست هنا”، قالت لي السورية التي حطمت باب بيتها وأنقذت طفلتها من الحريق وأضافت: ربما كنت قد فهمت خطأً. أنت تقول إن ما من حصاة وما من عصا. أو على الأقل هناك حصاة غير أن العصا متخيلة. ستكون رمية نرد. النظرية تخطئ. هذه امرأة تجلب الواقع إلى الحقيقة. “أسرتني”، قلت لها. هناك بجعة تذكّرني رقبتها بامرأة سبق لي أن أحببتها. حدث ذلك في بغداد. كانت تلك المرأة تحبّ دميتها. وكنت أغار من تلك الدمية. كانت تُجلس الدمية بيني وبينها. “لا تلمسها”، تقول لي، “إنها حساسة. الغرباء يخيفونها”. حينها كنتُ أضرب الرياضيات المعاصرة بالقبة الفلكية لأتمكن من لمس سقف القيامة بأصابعي المتشنجة. كنت غريبا وصارت الدمية عدوّي وحلمت في أن أحرقها. نابالم فيتنام. قنبلة هيروشيما. غبار الفلوجة الأبيض. الأميركيون أحبّتي. أنا مع السلم الأهلي. في متاهة دمشق القديمة هناك ما يصطاد أفكاري بمصيدة فئران صغيرة. كنا نشرب الجعة في مطعم عشتار، فادي وناصر ومنير وياسر وأنا، فيما كان هناك مسجد على بعد مترين. صرت أضحك. تذكرت أن أحدنا قد تمنى أن لا يسقط النظام السوري خلال نصف الساعة المقبلة. لا لشيء إلا لأنه كان قد استلقى داخل جهاز فحص الأشعة المغناطيسي. لقد خيِّل إليه أن الأطباء سيهربون لو سقط النظام. ستهرب الممرضة المسؤولة عن ذلك الجهاز. سيبقى هناك إلى الأبد. يمكن النظر إلى الفكرة من جهة تكعيبية أيضا. يتمدد الزمن. تكون النصف ساعة الأرضية نصف ساعة سماوية. سيكون علينا أن نلتقي بصديقنا في النزوح الأخير. ألم أقل لك إن أصدقائي كانوا قد ربطوا في أسفل ساقي ساعة شامية. أنظر إلى قدميها. ستكونين بخير. ولكن أين طفلتك؟ تسألني: ولكن هل خرج صديقك من جهاز الأشعة سالما؟ أجيبها: لم يسقط النظام. تلك المرأة كانت نوعا من الحلوى. لن أسألها من أنت؟ كان عليَّ أن أناور من أجل أن أرى طفلتها. هي بعضها. هي الخمسة في المئة من لوعتها. الوقت صار بطيئا. السوريات لا تعجبهن فكرة الوقت. هنّ خالدات. أجلس على النهر وألقي بصنارتي. أعرف أنها تجلس ورائي. تجلس على المصطبة في انتظار طفلتها. كان الأولاد يلعبون في الحقل. التفت إليهم. كنت واحدا منهم. رأيتها. كان وجهها يتدفق. لقد وعدتها بسمكة. يا آلهي هبني واحدة من أسماكك. أجعلني صفيّك للحظة واحدة من أجل هذين الخدين المرسومين بالزعفران. من أجل هاتين العينين اللتين لا أشرعة لسفنهما. هبني سمكة واحدة لأهبك سنواتي المتبقية كلها. ضحكتها تضرب ظهري. إليك ابنتي. تبكي. كانت هناك دمية ملقاة على الأرض. هي دمية ابنتها التي احترقت. كانت السمكة مشوية. لم تكن هناك سمكة. كانت الصنارة صامتة. هل كان عليَّ أن التفت إلى الفاتنة السورية لكي أتأكد من فشلي؟

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى