أحرار الشام: نهاية السلفية المعتدلة/ فـداء عيتانـي
قضت عبوة ناسفة واحدة على أكثر من 47 من قياديي الصف الاول والثاني من تنظيم أحرار الشام، في فوضى السلاح السورية، وتعارضِ مصالح كل الفصائل مع بعضها، ووجودِ تنظيم الدولة الاسلامية وطموحاته، إضافة الى العدو الاول للمنتفضين السوريين، فإن الاتهام يصبح مضللاً، إلا بحال تبني طرف للعملية، عدا عن أن الكل يستفيد من تحييد حركة أحرار الشام.
هذه المجزرة وقعت بشكل غامض، ولا يزال التكهن سيدَ الموقف، إنما أغلب المعلومات تتحدث عن عبوة متصلة بحشوة كيميائية أدّت الى اختناق واحتراق العديد من الرجال المحاصرين في مقر اجتماعهم في قبو تحت الارض في إحدى قرى إدلب، المنطقة التي تشكل النقطة الأقوى ومركز ثقل أحرار الشام.
وبغضّ النظر عن التفاصيل الميدانية التي لا يمكن التدقيق فيها عبر البيانات والتوقعات، فإن المجزرة هذه أطاحت عملياً بكل القيادة الحالية للتنظيم الذي يحاول السير بين النقاط في الحرب السورية، فهو لم يقاتل تنظيم الدولة الاسلامية، بل إن العديد من ألويته وقفت على الحياد، واتهمت فصائلُ أخرى بعض ألوية أحرار الشام بمساعدة الدولة الاسلامية وتسهيل انسحابها من العديد من المناطق، أو حماية من تحوّل من رفع راية الدولة الاسلامية الى رفع راية جبهة النصرة من المقاتلين الاجانب في سوريا.
من السجن الى السلطة
كانت مواقف الاحرار هذه ملتبسة في نظر أغلب القوى المحلية المقاتلة، إلا أنها تُعدُّ من ضمن القوى التي تعمل لإنشاء دولة إسلامية مكان الدولة السورية الحالية، وهي تعتمد منهجاً سلفياً واضحاً، وبعض أهم قادتها من خريجي سجن صيدنايا الذين أفرج عنهم النظام في شهر أيار من العام 2011، أي بعد أشهر قليلة من بدء الثورة السورية؛ هؤلاء القادة كمثل حسان عبود القائد العام والمؤسس الذي قتل، والقائد البديل هاشم الشيخ، خرجوا من السجن برفقة قادة آخرين مثل أبو محمد الجولاني مؤسس جبهة النصرة لبلاد الشام، وعيسى الشيخ قائد لواء صقور الاسلام، وطبعاً زهران علوش قائد جيش الاسلام.
تحولت حركة أحرار الشام الى التنظيم الاقوى في إدلب، وانتشرت في العديد من المناطق السورية؛ وكما شأن الكثير من القوى غيرها، عمدت الى فرض نفسها كسلطة أمر واقع بديلاً عن الجيش الحر وقوى الثورة، وفرضت الرسوم على معبر باب الهوى، وإن كانت الرسوم لا تطال المواطنين بل السلع الداخلة والخارجة من سوريا، ووضعت يدها على موارد القطاع العام في البلاد، وتشاركت مع عدد من الألوية في التحكم بمصادر الثروة المحلية.
ثم بدأت الحركة تنحدر مع صعود قوة وسلطة تنظيم الدولة الاسلامية في صيف العام 2013، حتى تحولت من قوة مركزية في مناطق انتشارها الى إحدى القوى المكوِّنة للجبهة الاسلامية، ووقفت كما الجبهة موقفاً متردداً في الصراع مع داعش، ودخلته متأخرة في منتصفه بعد ضغوط من مموّليها السعوديين.
خلاف لا اختراق
مع مقتل أبو خالد السوري، الرجل الذي كان الى جانب أسامة بن لادن قبل أن يشارك بالقتال في سوريا الى جانب أحرار الشام، كان على هذا التنظيم أن يقرر الى أي جانب سيقف في المرحلة المقبلة، التي ندخلها اليوم في سوريا، إلا أن تردد الحركة، والذي يعود في أغلبه الى تعاظم حجمها، أدى الى تدهور أوضاعها، وصولا الى مقتل قيادتها في ضربة واحدة.
كانت عملية اغتيال ابو خالد التي نفذتها قوى مرتبطة بالدولة الاسلامية حاسمة في رسالتها الى الاحرار: إمساك العصا من المنتصف ممنوع، فإما البيعة للدولة الاسلامية، وإما قتل الرموز الاساسية للقيادة القاعدية، وبالتالي إزاحة أحرار الشام من صف المنافسين لها.
الرسالة وحدها لم تكن كافية كما يبدو، والدور المستقبلي الذي شرعت الجبهة الاسلامية تخطّه لنفسها بعد طرد داعش من الشمال السوري، وبعد بداية تجميع “الاسلام المعتدل” وقوات الجيش الحر، كانت كافية لوضع أحرار الشام على خريطة التصفية؛ فالقوى الرئيسية في سوريا، التي يمكنها أن تلعب أدواراً عدة ، مرشحة للاغتيال السريع، وهذا هو الدرس الذي يمكن استقاؤه من اغتيال حجي مارع أو عبد القادر صالح، قائد لواء التوحيد وركن اساسي في الجبهة الاسلامية سابقاً.
من يحاول لعب دور ما بين الاسلام الجهادي، وينافس داعش وجبهة النصرة من جهة، ويعمل على الاطاحة بالنظام السوري من جهة أخرى، ويمكنه الحفاظ على رضى المموّل الخارجي السعودي، والتوافق الى حد ما أو على الاقل إيجاد نقاط تقاطع مع السياسة الاميركية في سوريا، هو أول المرشحين للتصفية، بغض النظرّ عن الجهة التي تقوم بالتصفية، أهي الطائرات الحربية السورية التي تقصف حجي مارع بمعاونة من جواسيس محليين، أم (افتراضاً) الدولة الاسلامية بالتعاون مع بعض أجنحة داخلية في أحرار الشام.
ولكن ما مارسته حركة أحرار الشام هو ما أدى في النهاية الى المصير السيّئ لقيادتها، فهي كانت تحاول التعايش مع انقسام داخلي جدي، ما بين مرتاعين ومعادين لقتال الدولة الاسلامية، وبين مؤيدين لقتال الدولة والنظام في آن معاً، وهو ما أدى في النهاية الى حصول خرق هائل في جسم الحركة، على الرغم من وثائقها السياسية والعقائدية المنشورة على موقعها وبين الناس والتي تظهر اعتدال الحركة في خطابها السياسي وفي مسايستها للجمهور.
من السلطة الى القبر
لم تأتِ القيادة المعينة بجديد، هي فقط أكدت أمرين: قتالها للنظام السوري، وقتالها للدولة الاسلامية، ولكن في الواقع فإن بيان الائتلاف السوري أشد وقعاً من بيان الحركة التي تعرضت لضربة على الرأس، ومع دفن القادة ضحايا عملية الاغتيال فإن ما سيتبقى من عمر أحرار الشام لن يكون بأفضل ممّا تبقى للواء التوحيد بعد مقتل الحجي مارع، إذ طالب اللواء بعض الفصائل بمدّه بمقاتلين لحراسة مواقعه، وسقطت المدينة الصناعية في حلب من بين يديه، وكان بإمكان الجيش السوري التقدم الى مدرسة المشاة بيسر لو أراد، بينما لم يبقَ للواء الذي كان ذات يوم القوة الاولى في حلب أكثر من اسم إعلامي يستخدمه للحصول على الدعم وللحفاظ على ممثليه في الجبهة الاسلامية، بينما ذخائره توزعت بالأمانة لدى مستودعات فصائل أقوى وأقدر على حماية نفسها ومناطقها.
حركة أحرار الشام لن تكون أفضل حالاً بعد بضعة أشهر. هي اليوم تملك رصيداً بشرياً ومالياً وعسكرياً يمكن أن يحسب له حساب، إلا أنها ستنزف مواردها البشرية والمادية واللوجستية قريباً وتوزعها ما بين قوات جبهة ثوار سوريا بقيادة جمال معروف، وبعض الفصائل التابعة للجيش الحر، كما سيكون لجبهة النصرة والدولة الاسلامية نصيب كبير من ورثة أحرار الشام.
أسطورة أخرى في النزاع السوري ستعود من حيث أتت. ومن اللحظة الى يوم تحول احرار الشام الى الحالة التي وصل إليها لواء التوحيد، سيكون متاحاً استخدامها بمواجهة الدولة الاسلامية عسكرياً، ومن بعدها يمكن إسدال الستارة على الحركة، كما على الجبهة الاسلامية، بانتظار أن تنتهي الفصائل الاسلامية الأخرى الى مصير مشابه.
لم يعد مهماً معرفة القاتل، ولا الجهة المستفيدة، لكن صفحة جديدة من النزاع ستُفتح قريباً، وستكون هي الأخرى دموية وقاسية.
موقع لبنان ناو