أحلام الأسد الأب وكوابيس الابن
سوريا المنكوبة بحكم العائلة والبعث في قراءة لفؤاد مطر
غلاف الكتاب فؤاد مطرالدار العربية للعلوم ـ بيروت 2013
بيروت: سمير شمس
يقرأ فؤاد مطر في هذا الكتاب، أحلام حافظ الأسد الأب «السوري – اللبناني – العراقي – الأميركوسوفياتي»، وكوابيس الابن بشار الأسد «اللبناني – الروسي – الصيني – الفلسطوإيراني» من خلال مقالاته المنشورة في جريدة «الشرق الأوسط» وجريدة «اللواء» و«مجلة التضامن الأسبوعية» خلال الفترة الممتدة من يوليو (تموز) 1996 إلى أكتوبر (تشرين الأول) 2012.
قدم المؤلف لكتابه بتمهيد تاريخي تحليلي ليصل إلى نتائج وخلاصات مؤلمة، لكن سياق ومسار الأمور يؤدي حتما إليها. فما حدث ولا ينتهي في سوريا نتيجة العناد والتشوف بدل الحنكة والحكمة من جانب النظام البعثي لمعالجة الأزمة التي بدأت شرارة مطلبية في درعا لم تبادر القيادة بإطفائها بالتفهم وعلاجها بالحسنى، لتمتد سلسلة من الحرائق المتنقلة من أقصى البلاد إلى أقصاها مخلفة الموت والدمار والنزوح القسري، والخراب الاقتصادي والحضاري.
لقد أثبت البعث في حالة سوريا والعراق إخفاقه حكما ونظاما.. فالبعث في السلطة انقلب على شعاراته ومبادئه التي استقطبت جماهير عريضة له بعقيدة مثلثة الأهداف، ذلك أن المواطن العربي في الخمسينات وبضع سنين تلتها، تواق إلى الحرية، والاشتراكية، والوحدة. لكن البعث بعد حصوله على السلطة من خلال الانقلاب العسكري، انقلب أيضا على عقيدته.
صادر البعث الحاكم حرية الآخرين، وتعامل مع حرية الرأي الآخر بالبطش والتعذيب والسجن دون محاكمات ولسنوات لا سقف لها، والقمع ورُهاب المؤامرات والانقلابات.أما الاشتراكية، فأصبحت اشتراك أصحاب النفوذ في المغانم والأسلاب، وتوزيع المصالح العامة المنتجة على المحاسيب والأزلام، ونهب لبنان وبيعه، وتحويله إلى سجن كبير يديره حاكم بعثي يرفع من يشاء ويسقط من يشاء.
وأما الوحدة، فقد ساهم في تدميرها، وأبعد «خطرها» بدخوله سياسة المحاور المتناقضة في العالم العربي؛ بل إن النظام البعثي في سوريا لا يتطابق، ولا، بالتالي، يتوحد مع مثيله وتوأمه في العراق، وما حفلت به سنوات الصراع على من هو زعيم البعث حاكما في العالم العربي حافظ الأسد أم صدام حسين، من منازلات وتحديات واستقطابات وحشد جيوش، ومشاركة قوات في الجيش السوري في المواجهة الدولية – العربية ضد العراق الصدامي لتحرير الكويت من الغزوة الصدامية.
يقول الكاتب: «إن البعث نجح كعقيدة وأخفق كحكم. وها هي التجربة العراقية المريرة قبل التجربة السورية الأكثر مرارة تؤكد ذلك».
ويرى: «أن المحنة السورية أوجبت عليه الإضاءة على فواجعها الفكرية والسياسية والميدانية، ذلك أنه لم يحدث أن عشنا من قبل حربا تدور رحاها بين النظام مستخدما سلاحه الخفيف والثقيل بما في ذلك السلاح الجوي، وبين المحتجين الغاضبين المطالبين بحقوق صادرها الحزب الذي جاء أصلا من أجل منحها للشعب، فإذا به لا يتصرف بما هو واجب عليه، ويعتبر الاحتجاج مجرد حالة عصيان تقوم بها من وجهة نظره عصابات تنفذ المؤامرات الخارجية لإسقاط موقع سوريا». وحيث إن المحنة السورية لم تنته فصولا، وهنالك بفعل المداخلات الدولية مفاجآت تتوالى وتشكل في تداعياتها المزيد من التفتيت للدولة التي لم تعد ذلك الرقم الصعب في معادلة الصراع العربي – الإسرائيلي، رأى الكاتب أن يعيد للذاكرة المقدمات والأسباب التي دفعت بالشعب السوري للمطالبة بإسقاط النظام، ومواكبة الأحداث والتطورات الميدانية، ورؤيته للمستقبل، مؤكدا أن كتاباته وتحليلاته من موقع الناقد المتجرد، لا الكاتب الحاقد. ففي هذا الكتاب وجهات نظر هادئة في ظل وضع متفجر، متمنيا أن يضع العناد لدى الحاكم أوزاره.
يروي المؤلف كيفية وصول بشار إلى الحكم بعد مصرع شقيقه باسل بحادث سيارة في بداية عام 1994، الذي كان مؤهلا لوراثة الأب في الرئاسة.
استدعى الرئيس حافظ الأسد بشار من لندن قاطعا فترة تدريبه في أحد مستشفيات طب العيون، وبدأت عملية تأهيل رئاسية مكثفة للطبيب بشار الذي لن يمارس المهنة التي أحبها. شملت عملية التأهيل من جانب والده الأمور السياسية والعسكرية؛ وأبرزها الملف اللبناني، والعلاقة مع المملكة العربية السعودية، وأسلوب التعامل مع القضية الفلسطينية. وخلال عملية التأهيل قام الدكتور بشار الأسد، ومن دون أن تكون له أي صفة رسمية بمهمات عربية ودولية، وبدا واضحا أن لديه قدرة على الاستيعاب ظهرت جلية بعد رحيل والده، الذي كان وضعه الصحي في فترة تأهيل بشار يزداد حرجا.
تسلم بشار الحكم وفق سياسة الأمر الواقع الذي لا أمر غيره، وضمن الأصول الدستورية، والطقوس الحزبية. وبدأ إطلاق إشارات يوحي بها ما يجوز اعتبارها عملية تنقيح في التصحيح.
خلال السنة الأولى حقق خطوات ملموسة على طريق الانفراج والانفتاح، كما أن زواجه من أسماء الأخرس ابنة الطبيب الحمصي شكلت لحظة تأمل في حياة الرأي العام السوري الذي ارتاح إلى نظرة رئيسه الشاب إلى أمور الدنيا والدين، بمعنى أن ابن الطائفة العلوية يحقق عبر الزواج وفاقا سنيا – علويا بأمل تخفيف حدة القلق الصامت حول أن الأكثرية السنية – 80% – محكومة من الأقلية العلوية التي هي 10%. كما رمم العلاقة مع العراق، وعزز العلاقة مع فرنسا، وواصل التنسيق الدوري مع مصر، وسجل إشارة نوعية بالنسبة إلى لبنان الذي زاره قبل انعقاد القمة العربية الدورية في بيروت لكي يؤكد سيادة هذا البلد، وحضر قمتي عمان وبيروت وأحيط باهتمام ملحوظ من المملكة العربية السعودية التي كانت زياراته لها قبل ذلك أساسية.
ثم جاءت زيارته لبريطانيا لتشكل نقلة نوعية في الحضور الدولي له وفي العلاقة السورية – البريطانية؛ ذلك أن الزيارة التي قام بها كانت الأولى التي يقوم بها رئيس سوري إلى بريطانيا. فأملت بريطانيا معه أنه نواة زعامة عربية متجددة سيكون لها دورها المتميز وشأنها الملحوظ في السنوات العشر المقبلة.
يقول المؤلف: «إن ما أظهره بشار الأسد خلال فترة قصيرة نسبيا تلت تسلمه الحكم مضطرا وليس مختارا، ترك انطباعا لدى أطراف داخل لبنان بأن المكان لدور قيادي على المستوى العربي يمكن أن يملأه بشار، فاتسعت مساحة الولاءات اللبنانية للنظام البشاري، فبدأ يتملكه (فيروس) الزعامة الذي أصاب من قبل ياسر عرفات وصدام حسين، والذي حلم بتحقيقه والده حافظ الأسد لولا أن المرض كان أقوى». وما إن انقضت السنة الثانية على رئاسته حتى بدأت ترتسم في المشهد السوري ملامح توحي بأن هذا الرئيس الشاب يريد بالفعل تسوية سياسية للصراع مع إسرائيل.. فبدأ يصغي إلى وسطاء غير منظورين دون أن يتخذ خطوات معلنة، وفي الوقت نفسه بدأ يكثر من إطلالاته على الناس العاديين، موحيا أنه مواطن مثل سائر المواطنين، لا يمنعه موقعه القيادي من تناول العشاء، مثلا، مع زوجته وأصدقاء في مطعم من المطاعم.
وكرد فعل على جنوحه للتسوية السياسية، بدأ مسؤولون أميركان وأوروبيون يكثرون من الزيارات إلى سوريا، وتطورت المساعي الهادفة إلى تحقيق التسوية التي أخذها على عاتقه هذه المرة الزعيم التركي رجب طيب أردوغان الذي ارتبط بعلاقة مميزة مع بشار تعززت أكثر بعد الزيارة الرسمية التي قام بها إلى تركيا، طاويا نهائيا صفحة اللواء السليب «الإسكندرون». لكن المسعى التركي وسائر مساعي الوسطاء باءت بالفشل؛ الأمر الذي جعل بشار يتجه أكثر إلى إيران.
فقد بشار نصف الورقة اللبنانية بانسحابه الاضطراري من لبنان نتيجة «ثورة الأرز». وبدل أن يكون انسحابه من لبنان دافعا لكي ينصرف إلى الداخل، ويعمل على بناء دولة جاذبة للاستثمارات ومستقرة، ويحقق بذلك التفافا من جانب كل أطياف الشعب السوري حوله.. إنه بدل الأخذ بهذه الحقائق، بدأ يكثف العلاقة مع النصف اللبناني السوري الهوى المتمثل في حزب الله المتحالف مع ثلث موارنة لبنان الجنرال ميشال عون، وبحركة «أمل»، وبالصديق الدائم للعائلة الأسدية سليمان فرنجية الحفيد، هذا إلى رموز سياسية من الصف الثاني من الطائفة السنية والدرزية والمسيحية اليسارية والمتوددة.
ينتقل الكاتب إلى الوضع الحالي في سوريا، فيرى أنه في ضوء الانتفاضة التي بدأت في 15 مارس (آذار) 2011، كحالة احتجاج متواضعة تمثلت في مظاهرة قرب الجامع الأموي في دمشق، أطلق المتظاهرون شعارات أقلقت أهل الأمن والحزب ومنها: «الله وسوريا وبس»، ثم تحولت في 18 من الشهر نفسه إلى شرارة في «درعا» ما لبثت أن أصبحت لهيبا وثورة غير مسبوقة في مسلسل الثورات العربية والإقليمية شاملة معظم البلدات وقرى الريف السوري. اعتمد النظام القبضة الحديدية للعلاج نتيجة اتساع مساحة المظاهرات.. ثم بداية انشقاقات في صفوف الجيش، وفي بعض مفاصل الدولة.
ازدادت وتيرة العنف، وعجز المجتمع الدولي عن وضع حد للمأساة السورية؛ بل إن الرقم المليوني للاجئين السوريين الذين توزعوا على دول الجوار، والتدمير اليومي من جانب النظام لبعض المناطق والمدن، والانتقام البشع المتمثل في تصفيات وإعدامات واكتشاف عشرات الجثث، وغير ذلك من الارتكابات التي تحدث، واستخدام المدفعية الثقيلة والطائرات في قصف المواطنين.. لم تغير شيئا من إصرار الدولتين الكبيرتين روسيا والصين على استعمال حق الفيتو عند التصويت في مجلس الأمن على قرار من شأنه وضع حد للمأساة. كما أن إيران لم تبدل من موقفها المؤازر إلى حد التبني للأسلوب الذي يعتمده النظام لمواجهة الانتفاضات، وليس من المستبعد أن يكون بعض عناصر الحرس الثوري الإيراني وخبرائه مشاركين في المواجهة ميدانيا، أو في الحد الأدنى الافتراضي في غرفة العمليات وراء الكواليس.
ومن اللافت أن الذراع الأقوى للنظام البشاري في لبنان عند الحديث خطابةً أو تصريحا عن الأزمة السورية لم تنطق بأي عبارة تعاطف مع الفواجع الإنسانية التي تحدث، مكتفية بالعبارات المؤيدة للرئيس بشار وما يفعله نظامه. وفي المقابل، نجد الطيف الآخر اللبناني لا يكتفي بمناصرة المعارضة السورية، وإنما يطالب أيضا بإلغاء معاهدة أمنية – سياسية بين لبنان وسورية (نص المعاهدة مثبت في الكتاب كوثيقة) سبق أن تم التوقيع عليها في دمشق في 22 – 5 – 1991، ولبنان لم يكن قد لملم جراحه بعد.
إن لبنان المنقسم في الموضوع السوري ازداد انقساما، ووصل إلى مشارف العداوة من جانب البعض.
هكذا تبدلت الحال إلى أسوأ مع الرئيس بشار.. فقد ارتبط الانسحاب القسري من لبنان به، وارتبط التدهور في العلاقات مع الخليجيين وبالذات المملكة العربية السعودية به، وارتبط انصراف المجتمع الدولي عنه به، وارتبط الشح المالي في الخزينة السورية به، وارتبط التدمير والقتل للذين انتفضوا مطالبين بحق التعامل الكريم معهم وبغير القبضة الأمنية به، وارتبطت مسؤوليته عن المخاطرة بمصير سوريا كبلد موحد به. لقد أصبح النظام الذي لم ينتصر ولم يستطع حسم الوضع أسير مسؤولياته، وبدل أن يعالج الأمور بالروية، فإنه اختار الأسلوب الذي لا يضع الحاكم على الصراط المستقيم. وبعد حين لا يعود الحاكم ليس فقط قادرا على أداء مسؤولية المنصب الذي يتولاه، وإنما لا يعود قادرا على النوم لأن مشهد المقتولين والهائمين واللاجئين، وكذلك مشهد الدمار في كل مكان خرجت منه صرخة اعتراض، لن يفارقا مقلتيه. وفي هذه الحال، لا يعود علاج النصح الذي لم يؤخذ به سابقا، يشفي لاحقا.
إن النظام السوري يقف على عكازات مستعارة نتيجة الخطأ المقصود الذي هو خطيئة عندما يرتكبه المسؤول عن حياة الناس وأمنهم وممتلكاتهم وحريتهم، فكيف إذا كانت أخطاء؟ لا شك أنها تصبح جريمة تفقد مرتكبها شرعيته.
الشرق الأوسط