أحلام رقّاوية في سنّ اليأس/ ابرهيم الزيدي
أكتب، وأعرف أن ما أكتبه لا يشبه ما حدث في فيلم Message in a Bottle فهو قد يصل إلى سوريا التي بلغت سن الرشد في غيابنا، إلا أنها لم تعد تكترث بالرسائل العاطفية؛ وقد يتحول إلى خبر يستوقف القراء، ويلفت عنايتهم إلى ذلك الشعب الذي يدفع فاتورة انتقال العالم إلى القرن الحادي والعشرين، بآليات التدمير المابعد حداثوية حيث لم يعد في سوريا وقت للأموات كي يذهبوا إلى المقابر!
لطالما هناك مَن استعاد حقه في السلاح، أريد أن أستعيد حقي في الكتابة، في الأسئلة المبصرة، قبل أن تصبح الأجوبة عمياء، ونشيّع الأحلام إلى مثواها الأخير.
أريد أن أكتب تلك المدينة التي فقدتُ احتمالات الإياب منها، تلك المدينة التي ما فتئت تجتاحني كالرعشة التي تسبق سقوط الدمعة الأولى من العين، تلك المدينة التي تتناهبها الخرائط، والتصريحات. لم أعد أحتمل برد الذكريات، وأرق الحنين، وهذا العمر الذي ضاع بين عقارب ساعة لم يحملها معصمي، وقلبي أصبح كقميص مشرعة أكمامه الفارغة على حبل غسيل.
حين سجّل ليونيل ميسّي 4 أهداف في مرمى “أرسنال”، قال أرسين فينغر المدير التنفيذي للنادي المهزوم: إن الطريقة الوحيدة لإيقاف ميسي هي إطلاق النار عليه. كذلك كانت حالي حين تملكتني الرغبة بزيارة الرقة. تبعتُ العابرين على هواجسهم إلى الكاراج، بعدما فقدت الأمل باقتفاء أثر السعادة بعيدا منها. لم أكن وحدي آنذاك. كنت أنا وخوفي، ذلك الرفيق الذي لازمني، ولم يره أحد. لبثتُ مليّاً أمام باب البولمان المشرع للمسافرين، أعبُّ دخان سيجارتي بنهم الحرمان، لم يكن ثمة حقيبة تتسع للشوق والخوف معاً، فأنا أكثر من مشتاق، لأكثر من إنسان، في أكثر من مكان، وأكثر من خائف، على أكثر من إنسان، في أكثر من مكان.
قبل أن تدق ساعة الانطلاق، رأيتُ امرأة قد تجاوزت العقد الخامس من عمرها، تطالع وجوه الركاب، وحين تحرك البولمان، كان معاون السائق يرجوها أن تبتعد عن الباب، وهي تمدّ إليه يدها بالنقود، وترجوه أن يقلّها معه، ويقول لها: يا خالة، إذا لم يكن لديك بطاقة شخصية، لا نستطيع أن نسمح لك بالسفر معنا. جلست مهدودة على الأرض، قبالة باب البولمان، الذي تحرك قبل أن يُغلق. مرّ ذلك المشهد أمامي، كما يمرّ أمام مصوّر محترف، يحاول ضبط عدسته على الزاوية المُثلى للمشهد، قبل أن تملأ الدموع عينيه. قرفصتُ بجوارها، ورحت أراقب عينيها وهي تشيّع البولمان الذي غادرها. أخرجتُ علبة سجائري التي لم يبق فيها سوى عدد قليل من اللفافات، وقدمت لها واحدة، إذ إن غالبية النساء في الرقة، وخصوصاً المتقدمات في السن، هن مدخنات، فتقبلتها مني بصمت، مما شجعني على متابعة التقرب من قصتها التي هي قصة كل الأمهات الرقاويات، اللواتي فقدن علاقة الأمومة بالمكان، وبأشيائهن أيضاً. فهؤلاء تمتدّ أمومتهن إلى ما حولهن، لذا فإن اللواتي غادرن الرقة، صارت أمومتهن تؤلمهن.
مرّ بالقرب منّا بائع القهوة المتجول، فابتعت فنجانين، وافترشت الأرض بجانبها، ورحت أخفف عنها بكلمات ليس لها رصيد في الاستثمارات العاطفية؛ لأعرف أنها من أحد أحياء الرقة، “حي المشلب”، هو الامتداد الشرقي لمدينة الرقة، وقد تعرض للكثير من الغارات الجوية.
لديها أربع بنات متزوجات، وثلاثة أولاد، كبيرهم مهندس زراعي غادر الرقة إلى دمشق، وأقام مع عائلته هناك. الثاني معلّم مدرسة، غادر الرقة إلى تركيا، على أمل أن ينفتح له باب الهجرة إلى أوروبا، وهو لا يزال عازباً. ثالثهم كان متفرغاً للعمل في الأرض، ومتابعة شؤونها، إضافة إلى الماشية التي لم يكن لديهم الكثير منها، وتسمى “المنيحة”، وتعني مجموعة قليلة من الأغنام، تربّى في البيت لتغطية حاجته من اللبن، ومشتقاته، إذ إن الناس في محافظة الرقة يستهلكون الكثير من اللبن والحليب والسمن العربي والجبنة البلدية. لهذا ترى أن غالبية عائلات الريف الميسورة لديهم “منيحة”.
المولود الأخير بلهجة أهل الرقة يسمى “القعدة” أي المولود التي تقعد بعده النساء عن الولادة، وغالباً ما تقيم الأمهات حين يتقدمن في العمر عند “القعدة” وتلفظ القاف جيماً مصرية، و”قعدتها” اسمه صالح، وقد أخفى بطاقتها الشخصية مذ عرف رغبتها بالسفر إلى الرقة، إذ لا سبيل إلى منعها إلاّ بهذه الطريقة. وهي كلما سنحت لها الفرصة، تقوم بتلك المحاولة اليائسة، حتى أصبح مكتب السفريات يعرفها، وسائقو البولمانات ومعاونوهم أيضاً. قلت لها من حقه أن يخاف عليها، فالرقة لم تعد كما كانت، ثمة قصف تتعرض له يومياً، فأجابتني بلهجتها الرقاوية المحببة إلى نفسي: محد يموت إلا بيومو، أي أن الموت مقدّر، ولا سبيل إلى تأخيره أو تقديمه. صارت تهذي ببيتها هناك، وتلوم نفسها على مغادرته، وهذا ليس غريباً عليّ، فالبيت في ريف الرقة تصنعه المرأة، لذلك ترى الرجل يقول عن زوجته “راعية البيت” وليست فلانة أو أم فلان، فالبيت الريفي ليس غرفة نوم، وغرفة ضيوف يبتاعهما رب الأسرة من السوق، بل مجموعة ضخمة من الفرش واللحف، وكلها من الصوف، إضافة إلى المخدات الكبيرة، وتوضع في صدر الغرفة وتسمّى “النضد”، إضافة إلى البسط المصنوعة من الصوف أيضا، ومجموع عفش البيت يسمى “الوهد”، وهذا لا يكتمل بيوم وليلة، فهو نتيجة إدارة المرأة لبيتها. لذلك كانت المرأة الريفية شديدة التعلق ببيتها، لأنه من تعبها كما يقولون. في هذه الأثناء حضر “قعدتها” صالح، كان شاباً لطيفاً، رأيت في عينيه انكساراً، واعتذاراً، كأنهما تقولان لمن ينظر إليه، إنها والدتي. جلس قبالتها، وأمسك يديها بيديه الاثنتين، وصار يقبلهما، وهو يتحدث إليها بصوت خفيض، وهي تقول له، والله ما أسامحك، فيبتسم إليها بتلك العينين المنكسرتين، ويعدها بأنه سيرافقها في رحلة إلى الرقة قريباً، “بس هالكم يوم اصبري عليّ” وتردّ عليه: “صارلي خمس تشهر استناك”، أي أنها منذ 5 أشهر تنتظره. ما كان منّي إلا أن تدخلتُ بينهما، مؤازراً له، فلما سمع لهجتي، استراحت قسمات وجهه فوجدتني أقترب من الحكاية أكثر. كان صالح أباً لطفل وحيد، قدم إلى اللاذقية برفقة أسرته الصغيرة، ووالدته، لم يستطع أن يحمل معه متاع بيته بالرقة، فاستأجر شقة مفروشة. في البداية لم يكن يبحث عن عمل، كان يعتقد أنه سيعود إلى الرقة قريباً، إلا أن الحوادث المتلاحقة خذلت أحلامه بالعودة. سألته لماذا لا يريد لوالدته أن تعود، طالما هناك الكثير من الناس لا يزالون يقيمون هناك، وأن لديه أخوات وأقارب فيها، فأخبرني أن والدته تشكو من “نقص تروية في القلب”، وإن إحدى أخواته قضت بغارة جوية، هي وابنها الذي لم يتجاوز العقد الأول من عمره، وأمه لا تعلم بذلك، ويعتقد أن صحتها لا تحتمل سماع ذلك الخبر، والبيت الذي ما انفكت تهذي به، لم يبق منه شيء، بعدما انهارت بعض جدرانه بفعل القصف، وأصبح عرضة للسرقة، كحال كل البيوت المهجورة. استأذنني وغادر هو ووالدته، وتركني “مجعلكاً” كالورق المقوى، لا أعرف ما الذي عليَّ أن أقوله، أو أفعله.
النهار