صفحات العالم

أحلام لافروف السورية


سامي مشاقة

لا شك بأن هناك إجماعاً عاماً بأن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف رجل هادئ ورصين، وفي هذا السياق تأتي تصريحاته ومواقفه السياسية انعكاساً لهذه الشخصية، أي الهدوء والرصانة. إلا أن مشكلته أنه ينسى أو يتناسى، وقد يجهل وربما يتجاهل الوقائع الميدانية، ومن هنا تأتي مواقفه لتصب خارج هذه الوقائع. فعلى صعيد الوضع السوري المأساوي، عيون العالم أجمع ترى ما يجري في سوريا إلا عيني لافروف، فهو لا يرى، أو لعله يرى ولكنه لا يصدق عينيه، أو بتعبير أدق لا يريد أن يصدق، وهذا ما يدفعنا إلى الاعتقاد ـ دونما خطأ ـ بأن السيد الوزير يعيش في كوكب آخر.

فمنذ اندلاع الانتفاضة السورية، عبر التظاهرات السلمية الجماهيرية محافظة على سلميتها طوال ما يقارب الأشهر السبعة، كان موقف السيد الوزير الروسي صحيحاً، إذ انه دعا إلى الحل السياسي عبر الحوار بين النظام والمعارضة. ولا شك بأن هذا الموقف كان صائباً، إذ ان الانتفاضة كانت خلال هذه المدة تكتفي بطرح شعارات تطالب بالإصلاح السياسي الحقيقي كإلغاء حالة الطوارئ التي استمرت ما يزيد عن 40 عاماً، وإلغاء المادة الثانية من الدستور التي تنهي حكم الحزب الواحد ـ حزب البعث ـ كقائد للدولة والمجتمع، وإطلاق الحريات الديموقراطية، ولم تتطرق الانتفاضة خلال تلك المرحلة إلى مسألة تغيير النظام فضلاً عن طلب إسقاطه، وتنحي السيد الرئيس الأسد.

إلا أن المفاجأة ان النظام سارع، منذ اللحظة الأولى، إلى الرد على الحركة السلمية بالقوة العسكرية متجاهلاً مطلب الانتفاضة الإصلاحي لأنه أصلاً رفض الاعتراف بوجود حركة شعبية تطالب بالحرية والديموقراطية والكرامة. وطرح النظام، إزاء ذلك، مقولته الشهيرة التي ما زال يصر عليها حتى الآن ويحاول تسويقها على كل صعيد بغير نجاح، والتي تدعي أن ما يسمى بالانتفاضة أو الثورة ما هي إلا عبارة عن مجموعات إرهابية مسلحة تعمل لحساب القوى الخارجية لتشكل مؤامرة ضد النظام السوري الممانع والمقاوم. دون أن يبلغنا النظام ممانعة ماذا، ومقاومة من! ودون تقديم أي تفسير هذه الظاهرة العجيبة: كيف نشأت هذه الجماعات الارهابية المسلحة هكذا فجأة في ظل نظام مخابراتي ممسوك بقوة الحديد والنار، وفي ظل نظام حالة الطوارئ. وفي تقديرنا أن طرح هذه المقولة كان يستهدف تسويقها دولياً لاستدرار عطف المجتمع الدولي الذي يسعى لمحاربة الإرهاب الدولي.

وعلى الرغم من التطورات المتسارعة وجنوح النظام إلى تكثيف الرد العسكري مستخدماً المدفعية والصواريخ وسلاح الجو، وبدء عسكرة المعارضة للرد على عنف النظام بعنف مقاوم. ما زال السيد وزير الخارجية الروسي حريصاً على المحافظة على أطروحته: الحل السياسي عبر الحوار بين السلطة والمعارضة. ولم يرفض النظام دعوة السيد الوزير، إلا انه احتفظ بحقه في تعيين المعارضة أي انه ـ وبعبارة أخرى ـ اقترح النظام ان يفاوض ويحاور نفسه.

وبعد مقتل أكثر من خمسة وعشرين ألف شهيد وتهديم مئات المنازل ولجوء عشرات آلاف السوريين إلى العراق وتركيا ولبنان، وإلى عشرات آلاف المعتقلين والمفقودين والجرحى، ما زال النظام يصر على أنه يحارب المجموعات الارهابية المسلحة، التي ـ بالمناسبة ـ تزداد قوة ومتانة وانتشاراً وفاعلية مما يتنافى تماماً مع زعم النظام. وما زال السيد وزير الخارجية الروسي يطرح مبادرته عبر الحوار بين النظام والمعارضة. هذه المرة جاءه رد النظام صاعقاً، عبر المؤتمر الصحافي الشهير الذي عقده وزير الخارجية السوري د. وليد المعلم إذ عبر عن توجه النظام بوضوح كامل لا يحتمل أي التباس، إذ أعلن أن الحل الأمني هو مطلب جماهيري. ولقد استخدم الوزير لفظ الحل الأمني تلطيفاً للفظ القوة العسكرية.

وحتى يثبت السيد الوزير انه واقعي ويعيش بيننا، فقد دعا باسم حكومته إلى مؤتمر لمعارضة الداخل، وعقد هذا المؤتمر فعلاً بدمشق وجاء البيان الصادر عنه متناقضاً في متنه وفي مقدماته ونتائجه. وجاء هذا المؤتمر في تقديرنا ليحقق هدفاً واحداً، هو تلميع وجه النظام وصورته أمام الرأي العام الدولي عبر الإيحاء باعتراف النظام بالمعارضة وإتاحة الحرية للتعبير عن وجهة النظر الأخرى. إلا أن هذا المؤتمر فشل في مهمته، لأن القتل ما زال مستمراً وما زال الحل الأمني ساري المفعول! بل لقد صار الوضع أكثر مأساوية، إذ أنه لم يعد أمام النظام سوى اللجوء إلى سياسة الأرض المحروقة.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى