صفحات الثقافة

أحمد بيضون جمع فأوعى/ عباس بيضون

 

 

 

المؤرخ، اللغوي، الشاعر بكل فنون الشعر الفصيح والمحكي، العمودي والتفعيلي والنثر، السيناريست، الباحث الرحّالة، المفكر السياسي. لا أعرف إذا كان يمكن جمع هذه كلها في «المفكّر» ولا أظن أن هذا يكفي لوصف أحمد بيضون. قامته المديدة لا تعفيه من شيء من المهل في كل شيء. ثمة عناية قصوى لتكون الفكرة وضيئة ولتكون الكلمة في موضعها تماماً. أحمد ليس خاطفاً ولا متعجلاً، انه يعطي للأشياء وقتها فتخرج غالباً من يديه أوفر نضجاً. ابن بيت وابن بيئة وابن مجتمع لكن هذه ليست حدوده، لم يستنكر جذوره لكنه استطاع بسلاسة أن ينفك عنها، وكما هو في شعره الذي جمع بين الفصيح والمحكي والذي عارض فيه طرفة وابن زريق من دون أن يثنيه ذلك عن أن يجرب بحرفة قصيدة النثر. هو القادر على أن يكون في معلقه طرفة وقصيدة النثر في آن معاً. نموذج المثقف ما بعد الحداثي الذي يجاور ما بين الجاهلية والقرن الواحد والعشرين، بين الفايسبوك الذي هو أحد كبار لاعبيه وبين منابع اللغة، انه في اللغات أيضاً تحفة فهو يملك ناصية العربية امتلاكه لناصية الفرنسية معيداً في ذلك تقليداً عريقاً في ثقافة لبنان، وهنا يمكن الكلام عن الاسلوبي الدرب، الدقة والاشراق يتزاوجان في كتابة متأنية، رشيقة وإن اتسمت بصفة فهي الذكاء والتحنك والتفكه. فأحمد بيضون يلتقط النكتة المتخمرة الحاسمة والتعليق النادر بل واللمعة المفردة. وإذا كان لنا أن نجمع مهاراته في شيء قلنا إنه مثقف كبير، ثم إن الثقافة عند أحمد بيضون أخلاق، هو رهن مبادئ ليست متعددة ولازميّته ولكنها مبادئ. يتنقل بينها بحرية وسلاسة وإن راعاها بالحرف مع ذلك، الثقافة عنده تقترن بالشهامة ولا أعرف إذا صحت كلمة كهذه قد تعود إلى العصر الفروسي، لكن أحمد بيضون في ذلك نموذج. انه المثقف الذي لا يستعرض ولا يتظاهر ولا يتعبد لنفسه ولا يتحاذق ولا يدعي ملك الحق، لكنه أيضاً لا يرهن نفسه لكره وحب. مثله لا يكره من غير علم ولا يحب من غير علم، وفي حبه وكرهه يحاذر أن يبدو في ذلك شخصياً. لكن دماثة أحمد بيضون وسلاسته لا يتيحان له أن يحل الكره في محل كبير من حياته، ولا تسمح له حكمته بأن يستكبر، الحياة بالتأكيد أقل من ذلك وعيارها أهون.

لكن الحياة أيضاً فن وأحمد بيضون قادر على أن يتفنن فيها، بكل ما في الفن من لعب وتسلية وفهم، وتعليقاته على الفايسبوك هي جماع ذلك كله، كثير من اللعب مع كثير من الفهم وهنا لا يكون الفهم أقل فناً ولا تسلية من اللعب، هنا يكون الفهم ضاحكاً وحاذقاً في نفس الوقت، ويكون مشرقاً ومسلياً كاللعب. يمكننا أمام ذلك أن نتذكر فولتير كما نتذكر في الوقت نفسه كبار الناشرين العرب الذين كان للكتابة عندهم متعة الحديث والمناظرة والمحاورات الكبرى. نفكر بأحمد بيضون كركن في ثقافتنا، بل كنموذج لصيرورة الثقافة شخصاً وإنساناً ونمط حياة، كنموذج لاقتران الثقافة بالمثقف واتصالهما من غير فصل، وكنموذج لالتزام حر لا تفوته مع ذلك المزحة والنادرة، كنموذج لحياة قد تكون بالدرجة الأولى فصلاً دائماً من الصداقة.

 

(]) أقيمت أمس في معرض الكتاب، ندوة حول كتاب أحمد بيضون «الفسبكات – الدفتر الثاني»، شارك فيها (بالإضافة إليه) كل من جورج دورليان ويوسف بزي وأدارها حازم صاغية.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى