أخذتَ معك المصباح، لكنّ الضوء معي…/ دولسي ماريا لويناز
ترجمة الخضر شودار
لم تعرف الشاعرة الكوبية دولسي ماريا ليوناز (1902 – 1997) شهرتها إلا بعد تكريمها بجائزة «سرفنتاس» الإسبانية للآداب عام 1992 وهي في التسعين من العمر. الجائزة التي كانت قد منحت قبلها للكاتب الكوبي أليخو كاربانتيي، فالتفّ حولها الفضوليون من صحافيين وكتّاب وسنيمائيين ومترجمين بعد أكثر من ثلاثين عاماً في العزلة، منذ قيام الثورة في 1959. كانت قد قررت البقاء في كوبا، ولم تغادر بيتها في هافانا. أما زوجها، فقد ترك كوبا عام 1961 وعاد إليها بعد أحد عشر عاماً. ولدت دولسي لأب عسكري برتبة جنرال حارب لأجل استقلال كوبا عن إسبانيا. كانت أمّها ماريا عازفة بيانو. ستكتب دولسي روايتها الوحيدة «حديقة» عن حياتها في بيت العائلة الذي سيزوره عام 1930 ضيوف من أمثال لوركا، وخمينيث، وغابرييلا ميسترال.
تلقت معظم تعليمها في البيت ولم تدخل المدارس الحكومية حتى عام 1927 لدراسة الحقوق في جامعة هافانا. وكانت قد قامت برحلات مع العائلة في أميركا الجنوبية والولايات المتحدة الأميركية والشرق الأوسط، بخاصة رحلتها إلى تركيا وسوريا وفلسطين وليبيا ومصر التي تركت فيها وفي شعرها أثراً عميقاً. دعيت لتحاضر في جامعة هارفرد عام 1952. تضمّ أعمالها على مدار حياتها رواية واحدة ومقالات ومحاضرات متفرقة وبعض الكتب الشعرية: «أبيات» (1920 – 1938)، «قصائد بلا عناوين» (1953)، ومجموعة من 124 قصيدة نثر. وكانت قد سئلت بماذا تنصحين الشعراء الشباب فقالت: «إقرأ أكثر واكتب أقل».
لك أجنحة، وليس لي. ترفرف في الهواء كفراشة، فيما أرحل لأتعلم من كل مسالك الأرض معنى أن أكون حزينة.
■ ■ ■
مرات، شيء ما رهيف وعميق يحدث حين تلتفتين وتنظرين خلفك إلى طريق الرحلة الذي قطعت.
الطريق الذي لم تتركي عليه أثراً لخطواتك، حيث الحياة كلها وراءك.
■ ■ ■
أنت إذن لا تريد أن ترى الوردات التي تكبر لأنك تنظر إليها، أنثر على نفسي الرماد. فأنا من بعيد، رمادية وباردة. كلّي رماد. لكنّك حين تمر بقربي أرتبك خوفاً من أن تخونني الحديقة، في العطر الفاغم…
■ ■ ■
لا أنادي على اسمك أبداً، لكنك في داخلي كأغنية في حنجرة سنونوة حتىّ وهي صامتة لا تغني.
■ ■ ■
أنا منحنية على صورتك كتلك المرأة التي رأيتها بعد الظهيرة تغسل ثيابها في النهر…
■ ■ ■
حتى في طريقة نسيانك، هناك شيء جميل. ظننت أن كل نسيان مظلم، لكن نسيانك أنت مضيء، كوهج عظيم. كفجر يكنس النجوم كلها.
■ ■ ■
لا جدوى من أن أملي تعاليم على قلبي. فهو كالنهر الذي يفيض من على جانبيه، ويطفو على كل شيء. مياهه الصاخبة تسرع تجاه البحر، وتبقى المياه الشحيحة وراءه حيث لا أدري.
■ ■ ■
كان لهبي أزرق لوقت طويل، فكثير ما كنت أخشى من نسائم الليل التي تأتي من الغابة وتطفئه.
ثم في ما بعد، اللّهب نفسه أضرم حريقاً في الغابة.
■ ■ ■
حتى السوسن ينحني إلى الأرض، لكنك سوسنة تشرئب عالياً بلا جذور، تعبق في الهواء، ولا تموت.
أخذت معك المصباح، لكن الضوء بقي معي…
■ ■ ■
كان ذلك بعد منتصف الليل حين تركتك. كنت أشعر بالبرد لأني كنت لا أزال أحتفظ بدفء حياتك في جسدي.
تركتك. كانت سماء الليل من الشساعة بحيث أني أغمضت عيني. حينها شعرت بألم في منابت جناحي.
■ ■ ■
لا أريد أن أقايض عزلتي بقليل من الحب. بكثير من الحب، نعم.
لكن الحب الكثير هو نفسه عزلة.
فقط، اسأل أشجار الزيتون بجثسيماني* !
■ ■ ■
بدأت تبدو أحلامي كطيور في أقفاص.
إن تركتها تذهب، ستعود، أو تموت…
■ ■ ■
يعاني شعري كلما كتبته، كلما منحته شكلاً، كلما حاولت أن أجعله في خدمتي.
علي أن أتعارك معه طوال الوقت، مثل يعقوب مع ملاكه.
أغالبه مرّات، لكنه يصرعني في مرّات أخرى بخفقة واحدة من جناحيه.
■ ■ ■
ظللت أختزل شعري بشدة إلى أن وصلت إلى النواة ولم أذق الثمرة.
■ ■ ■
عدتَ إليَّ بعد صمت طويل. بين شفتيك الكلمة الوحيدة التي تحتفظ بنفسها، الكلمة التي تغزو الموت.
لكن تلك الكلمة الوحيدة، ستكون كافية لتملأ العالم مسرّة، ونسيجاً حول الوقت، وتنقذ، مثل قفير من النحل لم يبتعد كثيراً، كل تلك الساعات الضائعة.
■ ■ ■
كان في داخلك حزن محتشم، لا أحد انتبه إليه، مثل بركة ماء ظلّت تعكس السّماء طوال النّهار.
■ ■ ■
طالما أنّي أعرف بأنك ستغادر الليلة، فقد أطفأت الأنوار كي لا أراك وأنت تخرج.
بالرغم من هدوئي، أنا خائفة وسأبكي حين ترحل.
من يدري إن كنتَ ستتريّث عند الباب حين تسمع بكائي.
من يدري إن كان نحيبي سيجعلك تتردد، إن كان سيجعلك تتقهقر بخطوة متلكئة إلى الأمام.
وسيكون محزناً بلا شك، لو كان آخر شيء تمنحني إياه، سيكون لحظة تعيد فيها التفكير ثانية
إذهب، إذهب. ودعني أبكي كما كنت دائماً أبكي: وحيدة.
■ ■ ■
العشاق يعيشون قريباً من الموت.
■ ■ ■
أنا سعيدة، فقد نزل المطر للتو، فالأرض المبتلّة تعبُق لي وحدي.
■ ■ ■
غرس عابر وردة على جانب الطريق وذهب في حال سبيله. ثم بعد وقت طويل، راحت تبحث عنه رائحة الورد.
■ ■ ■
بالإخلاص وحده للعتمة، وامتصاص مياهها العميقة قطرة قطرة، يستطيع الواحد أن ينجز عملاً مرموقاً وأخيراً للفن.
رائق هو الهواء، رائق هو الضوء، لكن ليس في وسع كل شيء أن يزهر، وأيّما أحد لم يسلم روحه للعتمة سيصيبه الذبول.
■ ■ ■
لقد عاشت – وكانت قادرة على العيش – بكلمة مزمومة بين شفتيها. ثم بكلمة مزمومة بين شفتيها ماتت.
ألقوا التراب على الكلمة.
وذابت شفتاها تحت الأرض.
ومع ذلك ظلّت الكلمة مزمومة حيث لا أدري.
■ ■ ■
منحني العالم أشياء كثيرة، لكن الشيء الوحيد الذي لم أحافظ عليه أبداً هو عزلتي المطلقة.
■ ■ ■
دائما، أراقب هبوط الشمس في الغروب، لأنها تأخذ شيئاً، لا أعرف ما هو، بعيداً عني.
■ ■ ■
أسرعي! ربّما لم يفت الوقت بعد.
تعالي هنا! الآن! من يدري؟ ربما لم تخسري كل شيء، وما زال معك وقت؟ ماذا لو أرادت الحياة أن تنتظر أطول ولو لدقيقة؟
رجاءً، تعالي هنا! لا تسمعي هؤلاء الذين يتحدثون عن الموت. لا تحطمي الإبريق الفارغ. لا تنظري إلى الظلام الذي احتشد. أغمضي عينيك واركضي. فربما قد تصلين قبل وصول الليل.
■ ■ ■
لا يزال هناك فارق وحيد بيننا. لطفك بدأ يأخذه الضجر، وبدأ ضجري يصير ألطف.
■ ■ ■
كيف لعزلتي أن تصبح أنت!
حتى أن لها رائحتك، كما لو أنك نمت في داخلها، كما لو كانت عزلتي وسادة نام عليها رأسك، والملاءات البيضاء التي تمنحك الدفء طوال الليل.
كيف لعزلتي أن تكون أنت! كيف سأعثر عليك! كيف سأحبك! كيف سأموت في داخلك! يا عزلتي!
■ ■ ■
حبيبي، أعطني وردة أمس، أو غد. أما ما بقي لنا من الربيع، فلنحتفظ به إلى ما بعد!
جثسيماني: بستان في جبل الزيتون في مدينة القدس
ملحق كلمات