صفحات سوريةكمال اللبواني

أخلاق الثورة


د. محمد كمال اللبواني

كما كانت الظروف التي أحدثت الثورة هي حصيلة تراكم سبعة قرون من التخلف والانحطاط، مع خمسة عقود من التحديث المشوه والاستبداد والفساد والشمولية، فإن أخلاق هذه الثورة قد جمعت أيضا بين منظومتين مختلفتين من القيم:

قيم التمرد على الاستبداد، والتحرر من الخوف والطاعة، والانتقام للكرامة والاضطهاد والإذلال والاستغلال، قيم الحرية والعدالة والمساواة أمام القانون وفي الكرامة، والتمسك بالحقوق المدنية والسياسية ونظم الحكم الديمقراطية وحرية الرأي وحق الاختلاف وتكوين الذات الحرة المستقلة، أي قيم الليبرالية الديمقراطية المدنية بآخر وأفضل وأحدث صورها، وسادت فيها روح الانضباط والتنظيم والعمل الجماعي والتكامل رغم التباين، والذي خالف تاريخا طويلا من الفشل والتناحر كان يسود أي جهد مشترك في المجتمعات العربية.

وتجلى ذلك بشكل واضح وجلي بل مذهل بين الشباب والأطفال والمرأة.. فأجمل وأرقى صور الثورة التي يجب أن لا تفوت أحد هي صورة الأطفال.. إنها فعلا ثورة الأطفال، ببراءتهم وذكائهم وحيويتهم، لكن بصفات رجال لديهم الوعي والعلم والتكنولوجيا، بل آخر صرعات التواصل والتجهيزات.. ولديهم كل الجرأة ليناقشوا وينتقدوا كل كلمة وعبارة وموقف، بل كانوا يكتبون لي ما يجب أن أقول ويتوافقوا عليه، بحيث أنني لا أجد بدا من قبول أفكارهم هم، مدشنا عصرا جديدا من العمل السياسي يحدد فيه الشارع للسياسي شكل وهدف العمل، وليس العكس.

تجمع حولي فريق عمل متكامل من شباب يافعين وأطفال كانوا يؤمنون كل ما يلزم بملح العين. يدعمهم فريق من الأمهات المذهولات بما يفعله هؤلاء.. نعم إنها ثورة المجتمع ثورة المستقبل وقد تجسد في أجساد غضة وقع عليها واجب مجابهة التخلف والقهر فنجحت وتغلبت عليه، ثم صار عليها أيضا مواجهة القمع الوحشي والإجرام الذي تمارسه السلطة، والتي تميزت بجرأتها على سحق هؤلاء الأطفال والتنكيل بهم جسديا ومعنويا…

أضيف إلى هذه القيم قيمَ الفداء والجهاد والتضحية والعزة والصبر والجهاد والشهادة، التي جرى استعادتها وإعادة إنتاجها من جذوة الإسلام الأولى وزمن الصحابة التي عاصرت ظهور الإسلام وانتصاره.. والتي ترافقت مع استخدام المساجد كمراكز تجمع وانطلاق التظاهرات، ثم استعارة الهتافات الدينية التي تتحدى الظلم والطغيان، وصولاً للتبني الكامل والمذهل أيضا لقيم البسالة والشهادة التي يعجز الوصف عن تصوريها.. والتي انتشرت كما النار في الهشيم، مع كل سقوط لشهيد..

مما أعطى للثورة زخما كبيرا ومميزا كانت بأمس الحاجة إليه، لمواجهة أعتى أنظمة القمع الهمجي، المدعم بكوادر تخطيط وتحكم وتكنولوجيا متطورة وأسلحة ومرتزقة قدموا إليه من الخارج لتدعيمه. وكلما أمعن النظام بالقمع وكلما طالت الثورة كلما تجذرت وتعمقت وانتشرت هذه القيم وترسخت.. حتى بدا لي أن ذلك تعويضا عما يتسببه تخاذل المجتمع الدولي عن نصرة الشعب السوري، وتلكؤه في الضغط الجدي على النظام أو في قطع مصادر دعمه من الخارج.

إن تداعي هيبة النظام القمعي، لم يفكك فقط القيم السياسية السائدة بل فكك كل منظومات العقل والسلوك المتخاذل والمتبلد الموروث منها والمستورد، والكثير من النظم والعلاقات الاجتماعية، بما فيها، وبشكل خاص دور الفتاة والمرأة ودخولها معترك الحياة والسياسة، أيضا بشكل مذهل ومفاجئ فاق كل تصور.. وشمل أكثر المجتمعات تقليدية وتعصباً.

أي أنها ثورة حقيقية بكل أبعادها السياسية والاجتماعية والأخلاقية والفلسفية.. تعيد إنتاج التراث دون عقد، تأخذ منه ما تريد وتترك منه ما تريد.. يأخذون من الدين أنبل قيمه، ولا يتوقفون كثيرا عند تفاصيل العبادات والشريعة والفقه، ومجمل الالتزامات التقليدية الأخرى التي تعود الإسلاميون التركيز عليها، فقد أضافت مشاركة الحركات الإسلامية طابعا تنظيميا رائعا لثورة، ولعب العقل التنظيمي والانضباطي والسري للحركات الإسلامية، دورا مميزاً في نجاح الثورة، لكن هذه الحركات تأثرت جدا بالثورة وانتقلت إليها روحها، وتحولت من التمسك بالقشور للتمسك بالجوهر، وبدأت فيها تغييرات داخلية ثورية أيضا..

وهي أيضا ثورة تحرر اجتماعي وثورة علاقات جنسية.. إنها تهيئ لفرض قيم جنسية مختلفة، بعد أن شاعت وكانت تمارس سرا، وأصبحت تبحث عن شرعيتها ضمن منظومة القيم ( الجينات الثقافية) التي تتشكل منها ثقافة المجتمع.. المجتمع اليوم لا يعيد إنتاج نفسه، بل يجددها بكل جرأة، معيدا تفكيك التراث والحداثة، ومصمما توليفة جديدة من الفلسفات والقيم، و من نماذج السلوك والعلاقات بين الأفراد وبين المؤسسات.. في كل سويات و كل أنواع هذه العلاقة.. إنها ثورة تختزل الزمن تختزل القرون في سنة، وهي ستحدث تغييرا ثوريا هائلا، وتجعل مما كان يبدو مستحيلا أمرا يحدث ويمارس تلقائيا..

لقد كنت أفكر مثلا بمواءمة بين الدين وقيم الليبرالية، وكان البعض يضحك “معقول؟” نعم معقول، أنا أشاهده على الأرض يمارس لكن من دون تأصيل فكري وفلسفي، يوحد ويجمّع عقل الإنسان الذي لم يجعل الله له قلبين في جوفه.. فهو مضطر للوحدة، ولإيجاد النظام الفلسفي العقلي القيمي الموحد، الذي يوحد شخصيته ويعطيه هويته وتفرده.. وهو المعنى الأخير لنجاح عملية بناء الذات وإعلانها، والتي هي النتيجة المرجوة من الثورة، التي هي ثورة الفرد وحقوق الفرد ووجوده الحر، كذات مفكرة واعية، تختار بعقل وإرادة، وتلتزم ليس بسبب القمع بل بسبب القناعة واحترام الذات ورقابة الضمير أولاً وأساساً. إنها ثورة ولادة الإنسان العربي المسلم الحديث المتمدن المتحضر الحر…. والله الموفق..

 ( يتبع)

الزبداني – سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى