اتصل بي صديق مقيم في أمريكا، على خاص الفيسبوك. وأنا انتظر القطار، وعند الحديث الأزرق في الهاتف الخلوي، أتجنب الكتابة لصعوبتها عليّ، فأعمد إلى رموز الفيسبوك، وفيها بركتان: السهولة، والاستفياء بظلال التأويل. دار بيننا الحوار التالي، الذي قمتُ بترجمته من اللهجة السورية إلى العربية الفصيحة، بتصرف:
سلام يا غالي.
أرسلت له يداً تلوح.
طارت كركوك يا حبيب، على أساس هي قدس الأكراد، طيب.. نحن في قدسنا قدس، وكنيسة قيامة، وفيها حائط البراق، فماذا في قدسكم من مقدسات؟
أرسلت له صورة فنجان عندما أعياني رسم الدار لم يتكلم، حتى تكلم كالأصم الأعجم.
والآن قارن لي من فضلك بين حمّى كوباني، التي خدعكم بها العالم، وهي مدينة مثل أخواتها السوريات، ليس أكثر، وربما أقل، وبين قدس الأكراد، التي طارت في ساعة من نهار، من غير خبر ولا كفية، ولا حامض حلو، ولا شربة.
أرسلت له وجهاً يفكر، له هيئة المثقف المتأمل.
والنخبة الكردية، تحولت إلى علماء خطوة وأبدال، الجميع أفتوا قائلين في خطوة الاستفتاء: الخطوة صحيحة. أظنها بالاتجاه الخاطئ يا غالي.
أرسلت له ابتسامة مكشّرة عن أنياب.
أتعرف الأبدال في الصوفية يا غالي؟ هم رتبة من الأولياء والصالحين، الأقطاب، ولهم كرامات خاصة، يكون الصوفي في طورا بورا، فيصير في فيينا، تفرحون بتحاميل جهاد الخازن، وصاحبه “مونتيسكو”، وبرنار ليفي، يأكلون بعقولكم حلاوة يا حبيب. أخبرني، ما سبب عناد البرزاني وإصراره على الاستفتاء؟ ولا يوجد أي نافذة أمل، الترك ضده وحذروه، والفرس توعدوه، والعراقيون ضده، أي فياغرا سياسية تناولها السيد البارزاني؟ حوصر الإقليم الوليد، حتى صديقته أمريكا نصحته بالتريث، لا يوجد سوى إسرائيل نصيرة الشعوب المضطهدة، وماسحة آهات المعذبين، ناصرتكم، ما سبب كل هذا العناد؟ فهمني يا غالي.
أرسلت له وجها مقلوباً.
جرت عشر محاولات لإنشاء دولة كردية، وهذه أغباها، مدد يا برزاني مدد.
أرسلت له وجها يخرج لسانه ساخراً منه.
نسيت الإمارات، محبة الديمقراطية، موّلتْ لكم الاستفتاء، أو بعضه.
أرسلت إشارة موافقة. أبهام جريحة.
انظر إلى حصاد الاستفتاء: نزوح عشرات الآلاف من أهل كركوك، ومقتل ستين من البشمركة، هذا يعني عوائل من الثكالى والأيتام، يقال: إن السبب هو هروب البرزاني من استحقاقات داخلية، الآن البرزاني يحارب الحشد الشعبي، خسر كركوك ويخسر المعابر، وقد جمد الاستفتاء. عين العقل، ولكن بعد أيش؟
أرسلت له وجها متجهماً، فلا يجوز انتقاد البرزاني، البرزاني فوق النقد، لقد جاوز الحدّ.
البرزاني نفسه راح يبحث عن أعذار للغزو الحشدي، قال: هي جهات فردية، ويعلم أن القرار متخذ في طهران وبغداد.
أرسلت له موافقة.
والزعيم الثاني، السيد طالباني دُفن ملفوفاً بالعلم الكردي، تصور يا صديقي، أوباما يُدفن في أمريكا بالعلم الكيني، أو كارلوس منعم بالعلم السوري، وتتحدثون عن الحجل. قال حجل قال. بدها شوية خجل!
أرسلت له وجهاً غاضباً.
هل تابعت أمس الاتجاه المعاكس، الضيف العراقي الكردي الأربيلي، ذو العينين الكريمتين، أبو آري، وهو من الوجوه السياسية الكردية، كان ينتقد القيادات الكردية المتصارعة على السلطة والمال، ويدعو إلى بناء الشعب، ويدين الفساد، وانتشار الفقر، والعشوائيات في دولة على بحر من الذهب الأسود، أما الضيف الثاني، السوري، فكان خطابه نسخة من خطاب شريف شحادة، قال الفساد موجود في كل الدول، “بحضي” هذا موهوب، خوش نخبة كردية.
كشرت في وجهه.
هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور.
أرسلت له إشارة نفي.
حلم الدولة تحول إلى كابوس بسبب هذه الخطوة المباركة، البرزاني الآن محصور، أوراقه قليلة، فقد اتخذ القرار في فصل الخريف، انتهى حلم الدولة الكردية إلى قرن على الأقل، انتهى الربيع الكردي، ربما إلى الأبد، كما كتب صحافيون، تحولت صفحات الناشطين الكرد إلى مضخات للأمل الكاذب: كركوك ستعود، طيب فسّر كيف؟ ستعود، هذا كلام مرسل، قل شيئاً، أتلُ آية، بيتاً من الشعر، حتى يصير للبوست قيمة ثقافية وتعبيرية واعدة، على الله تعود بهجتنا والأفراح..
أرسلت له وجهاً مكتئباً.
يذكّر الناشطون الكرد ببوست كتبه صديق منذ أيام، عن صفقة كتب بين مثقفَين كرديين في مقهى الروضة، اتفقا على مبادلة كتاب لرولان بارت بمجموعة قصصية نادرة لهاني الراهب، فجرى التبادل، ونال المثقف الأول كتاب رولان بارت، والثاني المجموعة القصصية حسب الاتفاق، لكن الثاني غضب، وبدأ حملة حجل وتخوين ضد أخيه الكردي، ولما سئل عن السبب في الحملة، قال: وعدني بمجموعة قصصية، وليس بكتاب قصصي واحد!
أرسلت له وجهاً تطفر الدموع ضحكاً من عينيه.
ورسام كردي رسم كردياً يحثُّ على الاستفتاء، ويخرج قلبه ويضعه في صندوق الاستفتاء، وتعليق عراقي يقول له: أخي الكردي أحب أكلك (أقول لك) القلب في الجهة اليسرى! كان الكردي في الرسم ينتزع قلبه من الجهة اليمنى!
أرسلت له عدة وجوه ضاحكة مقلوبة على قفاها من الضحك.
ورئيس حزب الحمير الكردي، صوّت على الاستفتاء، وقال: حتى الحمير مع الاستفتاء. صدق الرجل.
أرسلت له وجها واجما
والخطاب الكردي الثقافي انتكس، عاد إلى التغنّي بالجبال، هي صديقة الأكراد الوحيدة، في الجبال ليس سوى الوعول والذئاب والوحوش يا صديقي، في الجبال لا تبنى دول ولا حضارات، تعلموا كيف تُصنع السَلَطَة أولاً.. السلطة، سلطة المائدة يا غالي.
..
وعاد الحديث الكردي عن الحجل الخائن، مسكين هذا الطائر الجميل، الذي يعيش في أقفاص رؤوسكم اليابسة، هذا طائر صديق للبيئة يا حبيب، قصرتم صفاته على الخيانة، الحق إنه ليس خائناً، إنه طائر تضحية، فالطائر الأسير، يحذّر أترابه الحجل من الفخاخ والأشراك، لكن الحجل الحرّ يأبى إلا أن يموت مع أخيه. تباً لكم وما تفقهون. القلب في الجهة اليمنى، والعقل في الشروال.
أرسلتُ له صورة وجه يفكر في فكرته الجديدة.
هل رأيت فيديو الصبية الأشورية، التي تتحدث عن الأكراد، وتشكو من عنصرية “البيض” الكرد؟
أرسلت له إشارة نفي.
ستجده على اليوتيوب.. مفيد يا غالي، لكن لا تحبون الناصحين.
الأرض ما بتتكلم عربي، ولا بتتكلم كردي، هل ستكتفون بالرقة، أم تنوون احتلال دمشق يا حبيب؟
أرسلت له ضحكة.
ماذا ستطلقون عليها؟ نازكي، دلالي؟ الشبيحة يعفشون، يسرقون، أما جماعة البكبكة، فيأخذون أقصر الطرق، فيغيرون اسم المدينة، قال “كري سبي” قال.
أردت تصحيح اسم الجماعة، فهي البككة، وليس البكبكة، لكني واصلت الحديث بالصور والرموز.
هل سيصل طلال سلو والبكبكة إلى جبال البيرينه؟
أرسلت له إبهاماً قوياً، الأكراد أبطال.
تسمع نصيحة من ها الدقن؟
أرسلت له وجهاً يخرج لسانه.
لا تتعظون أبداً، حلمكم قاتل، انظر إلى دولنا العربية، نحن أسرى، ستكون دولة قمعية مثل دولنا القومية الموقرة، التي كفرنا بها، تنتشر فيها صور السيد الرئيس إلى الأبد، وتوتة توتة وتستمر الحدوتة القاسية الظالمة إلى الأبد.
…
نصيحة من ها الدقن: إقليم فيدرالي في اليد، أحسن من عشر دول على الشجرة.
كان قطاري قد وصل. ولم أعرف من كان يقصد بمونتسيكو، وقلبّت في رأسي أسماءً في صحيفة الحياة، تنفخ في الرماد والجمر، فلم أصل إلى اسم، وأجمعت أمري على أن أبني بيني وبين هذا الأفًاك الأشر سداً، حال وصولي إلى البيت سأعمل له بلوك. قاتله الله، ما رأيت كاليوم قط، حتى أنني فقدت رحلتي، وعندما أخذت القطار التالي، وجدت نفسي في محطة كلستر باخ الفوقا، وهي المحطة التالية بعد محطتي: معرة روسلس هايم التحتا.
المدن
