أخي اللبناني: طمّنا عن النأي بالنفس!
عمر قدور
لم يأت خطاب حسن نصر الله في “عيد التحرير” بجديد إلا لأولئك الذين صدّقوا الادعاءات السابقة عن عدم تورط الحزب في سوريا. وليس جديداً، على أي حال أن سياسة النأي بالنفس التي اتبعتها الحكومة اللبنانية المستقيلة لم تكن سوى أكذوبة. فتدخلات حزب الله في الشأن السوري ترجع إلى نحو سنتين من الآن. وعلى الأرجح، لم يكن اعتماد شعار “النأي بالنفس” إلا استبعاداً للبنانيين الآخرين عن الاهتمام بما يحدث في سوريا، وإخلاء الساحة لتدخلات الحزب وحدها، أي أن المطلوب فعلياً من اللبنانيين هو أن ينأوا بأنفسهم عن اعتداءات الحزب على السوريين، وألا يقفوا في مواجهته وهو يستدرجهم إلى مغامرة قد تكون نتائجها أخطر وأعقد من مغامرته عام 2006. على الأقل حينها، في عام 2006، كان ثمة حكومة لبنانية استطاعت بتعاون دولي تطويق الآثار المدمرة للحرب، وسعت إلى إعادة قرار الحرب والسلم إلى الدولة اللبنانية، بوصفه قراراً سيادياً. أما الآن، فالحزب ذاته ينخرط في حرب خارجية من دون رادع داخلي، ومن دون حكومة تقول إن قرار الحرب ينبغي أن يكون من اختصاصها وحدها، هذا إذا اعتبرنا الحرب على شعب شقيق خياراً يمكن النظر فيه.
سيبذل المحللون جهدهم في تفنيد التحالفات الإقليمية والدولية المحيطة باعتداء الحزب على سوريا؛ هي بالأحرى تحليلات باردة لحدث ملتهب، وهي أيضاً غير حيادية البتة، إذ تصوّر اعتداء الحزب على أنه نوع من استراتيجيا إقليمية ودولية متكاملة. مثل هذه التحليلات يُعفي اللبنانيين من دورهم إزاء ما يحدث، ويعيد لبنان إلى كونه مجرد ساحة يجول ويصول فيها الأقوياء، الأقوياء بإرهاب السلاح وحسب. بعض تلك التحليلات لن يؤدي إلا إلى استقالة اللبناني من بلده، بما أن الحزب أتمّ مشروعه بالهيمنة التامة على لبنان، بل فاض عن البلد كله وصار بوسعه أن يكون قوة احتلال لبلد آخر، وأن يباهي علناً بإمبراطورية الحزب وبحدودها التي وصلت إلى مقام السيدة زينب في دمشق.
مع ذلك، لم تكن كذبة حماية المقامات الشيعية كافية ليتوقف عندها الإمبراطور، فالحديث اليوم بات عن خطوط إمداد الحزب التي تصل إلى الساحل السوري، والتي من أجلها ينبغي تسوية “القصير” بالأرض. هكذا ببساطة، على اللبناني الاقتناع بأن سوريا ليست سوى ممر إمدادات للحزب، ومن حقه فعل ما يشاء لتأمين خطوط إمداده، ومن حق أحد إعلاميي الحزب وصف القصير على مدونته بأنها من “خراج الهرمل”. على اللبناني الاقتناع بأن الدفاع عن نظام الوصاية، الذي أذل الشعبين، تجاوز كونه مصلحة حتى ليصبح واجباً وجهاداً، وأن عليه حماية خطوط إمداد الحزب أينما كانت؛ الحزب نفسه الذي لم يتورع عن استخدام سلاحه في شوارع بيروت لترهيب خصومه السياسيين والانقلاب على الدولة!
السلاح الذي يُستخدم في القصير هو ذاته الذي استُخدم قبل خمس سنوات في بيروت، لم يضيع بوصلته أبداً فهو من القصير لا يزال يهدد بيروت أيضاً. سيحاول البعض طمأنتك، أخي اللبناني، ولو بالقول إن تورط الحزب في سوريا سينهكه قتالياً ويقضي عليه معنوياً، وإن أسطورة الحزب المقاوم ستنهار هناك لتؤذن بانهياره السياسي. ذلك كلام يُقال، مع الأسف، من باب العزاء ليس إلا، فأنت خير من يدرك أكاذيب الحزب عن المقاومة، ولم تكن بحاجة لرؤية التوابيت العائدة من سوريا بدلاً من الجنوب. إنهم، مع الأسف ثانية، يهينون العقول إذ يأتون بعربة سجن إسرائيلية من معتقل الخيام لتصويرها في القصير؛ المحطة اللبنانية التي بثت الصورة لن تكلف خاطرها أن تعتذر منك، لأن سادتها لا يبتغون التصديق أصلاً، فكل ما يريدونه هو الصمت.
أما آخر بدعة، أي القول من يريد قتالنا فليذهب ليقاتلنا في سوريا، فهي ليست سوى دعوة مسمومة للحفاظ على الاستقرار اللبناني، دعوة إلى خصوم الحزب كي يرضخوا في لبنان لدولة الحزب، وتلميح واضح إلى أن الأخير لا يريد سوى لغة السلاح فيما بين اللبنانيين أنفسهم. بصرف النظر عن عدم أخلاقية تصفية الحسابات اللبنانية على حساب الدم السوري، المسألة هنا هي أن الحزب لا يريد نزع فتيل الانفجار من بين اللبنانيين، ولا يريد الطلب من شبيحته المدعمين بالأسلحة الكفّ عن استفزاز لبنانيين آخرين. هكذا يتعين على اللبناني المقهور من سلاح الحزب أن يصمت في لبنان، أو أن يذهب لمقاتلته في سوريا، ويتعين عليه الرضوخ لإملاءات السلاح في لبنان من دون تفكير بأي حل سياسي لبناني. بصراحة ووضوح، ترقى هذه الدعوة لأن تكون أولاً إعلان احتلال للبنان، لأنهم تحرم أبناء البلد من حقهم في التعبير عن أنفسهم في الداخل تحت خدعة الاقتتال خارجاً؛ ذلك بعد تكريس أحقية الحزب باحتلال أراضٍ لدولة مجاورة!
ثم ماذا يكون تصوير الحزب كقوة أمر واقع لا رادّ لها؟! يريدون إقناعك بعجزك عن التغيير الحقيقي، بل وإن ما تنعم به من حريات حتى الآن هو تحت التهديد، إن لم يكن منّة من أصحاب السلاح. نعم، يريدون منك طوال الوقت أن تتذكر السابع من أيار عام 2008، وألا تنسى تلك العبرة أبداً. هو ذلك السلاح الموضوع منذ سنوات على طاولة الحوار، والذي ينبغي أن يبقى أمره معلقاً على الطاولة بينما يُشهر في الشمال والجنوب مروراً ببيروت، وعندما يُستخدم صراحة يبقى القتلة فوق المحاكم الدولية والوطنية، يحظون بحماية علنية لمزيد من قهر أصحاب الدم، أو يُكرّم بعضهم بالذهاب إلى القصير لإتمام مهمته.
هذه الكلمات ليست تحريضاً على اقتتال لبناني جديد، فوحدهم أصحاب محور الممانعة من يلوّحون به ويخوّفون منه. لنتذكّر، أخي اللبناني، عندما انطلقت انتفاضة الاستقلال في شباط 2005 لم يحمل شباب الاستقلال سلاحاً، ولم يطلقوا رصاصة واحدة. كانت إرادتهم كفيلة بهزيمة النظام الأمني ونظام الوصاية معاً. قد يأتي من يقول بأن الظروف الدولية آنذاك كانت داعمة لانتفاضة الاستقلال؛ هذا تحليل يجرّد اللبناني مرة أخرى من قدرته على التغيير، لا لأن القوى الدولية غير مؤثرة بل لأنها تتبع أيضاً القوى الموجودة على الأرض، وهي لم تكن لتتحرك يومها إلا بفعل الشباب الذين نزلوا إلى الساحات، ولم تتحرك الآن إلا لأن شباباً سوريين انتفضوا على أعتى ديكتاتوريات المنطقة.
هم يريدونه انتصاراً نهائياً أو هزيمة ساحقة في البلدين، لذا قد تكون لحظتنا معاً، وكلّ من موقعه. قد تكون فرصة لا تعوّض ليسترد اللبناني ما سُلب منه تقسيطاً بعد انتفاضة الاستقلال، بخاصة لأن فزاعة المقاومة كشفت بنفسها عن زيفها. لا ينتظر السوريون نصرة لثورتهم عبر مقاتلين يأتون من لبنان، فانتصار اللبناني يكون أولاً انتصاراً له وللبنان وانطلاقاً من لبنان نفسه، وانتزاع المزاعم الطائفية من أصحابها يأتي باستعادة الطيف اللبناني الواسع في الساحات اللبنانية. أخي اللبناني: هل ستتحمل الثمن الذي ستدفعه لأولئك العائدين، إن عادوا بنصر إلهي جديد من الشمال، بعد الأثمان الباهظة لانتصاراتهم الإلهية السابقة؟
السوريون قرروا أنهم لن يتحملوا هذه الخسارة، وهم يبذلون الآن أقصى طاقتهم لمنعها.
دمشق ـ
المستقبل