صفحات سوريةمحمد سيد رصاص

أداء المعارضة السورية في الأزمة


    محمد سيد رصاص

    في مجرى سنة ونصف من عمر أزمة سورية،بدأت بدرعا في يوم18آذار2011،مرت المعارضة السورية بثلاثة مراحل:1- مراهنة على الحراك الشعبي السلمي لتحقيق الأجندات السياسية،وإن اختلف المعارضون آنذاك بين ضفتي التغيير واسقاط النظام،وخاصة بعد حزيران2011،2- بعد أن اكتشف معارضون أن الحراك لايملك الآلية الذاتية الكافية لتحقيق ماجرى في تونس ومصر،تشجع الكثيرون منهم،وبالذات منذ أيلول وبعد أيام قليلة من سقوط القذافي من باب العزيزية في 23أوغسطس،على المراهنة على التدخل العسكري الخارجي لتحقيق الأجندات التي عجز الحراك بالوسائل المحلية عن تحقيقها،3- منذ حزيران2012،وهذا كان واضحاً عند الكثير من المعارضين في مؤتمر القاهرة(2-3يوليو)لمارفضوا تضمين البيان الختامي تأييداً لمؤتمر جنيف(30يونيو)الذي توافقت فيه الدول الكبرى على تسوية للأزمة السورية،بدأ اتجاه جديد عند الكثير من المعارضين السوريين،إثر اليأس من جلب التدخل العسكري الخارجي،يقول بأننا”سنأخذ الأمر بيدنا عبر السلاح”،وقد كان ماجرى في دمشق وحلب نتيجة عملية لهذا التفكير المستجد عند الكثير من المعارضين السوريين.

    خلال ثمانية عشر شهراً،من الواضح احتراق هذه الأفلام الثلاثة:في البلدان التي جرى بها ثورات وانتفاضات ،خلال عام2011 مثل تونس ومصر وليبيا واليمن،كان أداء المعارضات في تلك البلدان أفضل وأكثر حصيلة مماجرى في سوريا،وهذا يخلق مفارقة لمابانت المعارضة السورية في عامي2011و2012،وفي أثناء أخطر أزمة مرت بها البلاد منذ يوم جلاء الفرنسيين في17نيسان1946،في هذا المستوى الضعيف والفاشل من الأداء والحصيلة ،بينما كانت الحياة السياسية السورية خلال مجرى القرن العشرين هي الأكثر انتاجاً للأفكار السياسية العربية الكبرى(ساطع الحصري- ميشال عفلق- مصطفى السباعي- ناصر الدين الألباني- ياسين الحافظ)والأكثر توليداً للقامات السياسية التي يتجاوز تأثيرها الحدود القطرية العربية(خالد بكداش،مثلاً).

    هذا الانخفاض في مستوى الأداء السياسي كانت نذره ملموسة منذ بداية مرحلة مابعد وفاة الرئيس حافظ الأسد في يوم10حزيران2000،لما تم الانتقال في رسم البرامج والسياسات من منطق التوازنات”وإدارة الممكنات لتحقيق الأجندات السياسية” إلى منطق “بناء السياسات بدلالة الآخر”،الذي أصبح يظنوه في وضعية مشابهة لقول ماركس عن بسمارك بعد تحقيق الوحدة الألمانية في عام1871:”إنه يقوم بجزء من عملنا”.بين عامي2000و2002كانت المراهنة عند غالبية كاسحة من المعارضين السوريين على “اصلاحية القصر”،في وجه ماأسموه ب”الحرس القديم”،لتحقيق أجندات التحول الديمقراطي . لماخابوا من ذلك،قام الكثيرون منهم بالمراهنة على”آخر”تمثل في الأميركي الغازي والمحتل لبلاد الرافدين منذ يوم9نيسان2003،وقد اتجه الكثير من المعارضين السوريين،أقلية بنصوص والأكثر شفاهة،نحو التفوه بمقولات مثل”نظرية الصفر الاستعماري”و”الاستعمار أفضل من الاستبداد”،وبدأ البعض،وخاصة من الماركسيين المتحولون نحو الليبرالية،بالتذكير بمقولة ماركس”حول تقدمية الاستعمار البريطاني للهند”.كان الانتقال نحو المراهنة على”الآخر”الأميركي لمانتقل الأخير إلى الصدام مع النظام السوري منذ زيارة وزير الخارجية الأميركي لدمشق بعد ثلاثة أسابيع من احتلال العراق،وقد كان ملفتاً أن الكثير من المراهنين في المرحلة الأولى على”اصلاحية القصر”كانوا هم أنفسهم من راهن “على هبوب رياح غربية على دمشق”مثلما حصل لبغداد ولوعبر سيناريوهات مختلفة . هذا الشيء الأخير كان تجسيده في صيف وخريف2005مع بناء السياسات،من خلال انشاء”اعلان دمشق”(16تشرين أول2005)،على ايقاع الرياح اللبنانية والتي ظنَ غالبية ساحقة من المعارضين السوريين(بمافيهم الناصريون والاسلاميون)بأنها كماأدت إلى تغيير في المشهد اللبناني ستقود إلى مثيل دمشقي له،من دون أن يستوعبوا بأن الولايات المتحدة الأميركية لم تستخدم الحلبة اللبنانية “لتغيير النظام السوري،وإنما لتغيير السلوك”وفي مجالات ليست سورية،وإنما تتعلق بحزب الله وحركتي حماس والجهاد وبدعم دمشق لفصائل المقاومة العراقية.خلال عامي2006و2007كان واضحاً احتراق فيلم”اعلان دمشق”،وقد اتجه الكثير من رموزه،في عامي2008و2009،نحو المراهنة في بناء السياسات على “آخر”جديد،هو الانفتاح الغربي على دمشق كمافي بيان ،صدر في5أيلول2008وبأسبوع زيارة ساركوزي لدمشق، قالت فيه الأمانة العامة ل”اعلان دمشق”،وبعد أن ظلت لثلاث سنوات تقول ب”انتهاء صلاحية النظام السوري”،بأن”اعلان دمشق…لم يكن في نهجه وليس من أهدافه تعزيز عزلة النظام ومحاصرته،بل إن مشروعه الديمقراطي يركز أساساً على الدفع نحو انفتاح النظام على الشعب السوري قبل أوبالتزامن مع انفتاحه المطلوب على العرب والعالم”(نشر البيان بتحديث يوم6أيلول 2008على موقع”كلنا شركاء”).أيضاً كانت هذا الخط الجديد خارج المرمى كسوابقه.

    خلال عشر سنوات،بين عامي2000و2010،يمكن رؤية نفس المعارضين السوريين في الأطوار الأربعة المتناقضة المذكورة آنفاً،وهم أنفسهم،ولومع بعض القادمين الجدد للمعارضة في ربع الساعة الأخيرة،أبطال الأطوار الثلاثة لمرحلة مابعد18آذار2011:هذا الانخفاض في مستوى الأداء السياسي لم يكن موجوداً عند المعارضة السورية،بمختلف تياراتها وفصائلها ،في زمن حكم الرئيس حافظ الأسد البادىء بيوم16تشرين ثاني1970،حيث أنتجت أفكار سياسية كبرى متجاوزة للنطاق السوري نحو العربي،كمافي مرحلة أزمة وانشقاق الحزب الشيوعي السوري في أعوام1969-1972 بين “جناح بكداش” و”جناح المكتب السياسي”لماطرحت أفكار تبيئة الماركسية عربياً من خلال مزجها بقضايا محلية مثل(الوحدة العربية)و(فلسطين)و(الأوضاع الملموسة لكل بلد عربي)،أولماطرح الحزب الشيوعي- المكتب السياسي في عام1978ضرورة تطليق مقولات(الديموقراطية الثورية)و(الديموقراطية الشعبية)لصالح مقولة(الديمقراطية)بمعناها البورجوازي.

    من الضروري البحث عن الأسباب في هذا الانخفاض لمستوى المعارضة السورية،الذي اقترب من مستوى الفضيحة في عامي2011و2012:معارضون،بمختلف اتجاهاتهم الاسلامية والعروبية والماركسية،ألحق بهم النظام هزيمة أمنية-تنظيمية استطاعت تجريد هذه الأحزاب والتنظيمات منذ شهر شباط1982،وإثر هزيمة المعارضة المسلحة بمدينة حماة،من البحر الاجتماعي الذي كانت تسبح به بقوة جميعها بالسبعينيات وذلك بعد دخول المجتمع السوري في مرحلة مابعد حماة في صيام عن السياسة لم يكسر إلافي درعا بيوم الجمعة18آذار2011. بحث الدكتور جمال الأتاسي،في رسالة بشهر كانون الأول1989صاغتها معه قيادة(التجمع الوطني الديمقراطي)،عن حلول لذلك تمثلت في تنزيل سقف الأجندات السياسية من (التغيير)‘لى(الاصلاح)،فيمابحثت قيادة (الاخوان المسلمون)عن حلول عبر المصالحة مع النظام استغرقت جولاتها المتعددة ووسطائها العرب الكثر أعوام1987-1997 . لم يؤد الضعف السياسي آنذاك إلى “بناء السياسات بدلالة الآخر”،وإنما لتخفيض السقوف حسب التوازنات،إوإلى طرق التفافية على الضعف التنظيمي كماحاول(الاخوان)في الثمانينيات والتسعينيات ثم عادوا من جديد لمحاولات المصالحة مع النظام،بعد خيباتهم مع”اعلان دمشق”و”جبهة الخلاص”،في كانون ثاني2009أثناء حرب غزة لتأمين “بحر اجتماعي ” لسمك تنظيمي- سياسي هو خارج الماء منذ شباط1982.

    عندما وجد هذا الماء الاجتماعي مع درعا18آذار2011لم تتقن تلك السمكات القديمة الغوص والعوم : دخلت ملايين من السوريين إلى السياسة،معارضون وموالون ومترددون وهم في الحقيقة مازالوا بعد سنة ونصف ثلاثة أثلاث،لم تستطع تلك التنظيمات السياسية جميعها لما قفزت في ذلك الماء أن تؤطرها أوتنظمها أوتقودها،وهذا ينطبق على كل الاتجاهات،ولومع نجاح نسبي للاسلاميين . في الواقع حصل العكس،انقادت المعارضة الحزبية السورية القديمة وراء التيار ولم تكن في قيادته أوأمامه،وقد نشأت نزعة شعبوية تقول بأن البرنامج السياسي يبنى على ايقاع”الشعب يريد” عند تنظيمات اسلامية وعروبية وماركسية كانت كلها تقول ب”تصدير الوعي السياسي عبر طليعة”إلى أفراد المجتمع التي كانت كل تلك التنظيمات تقول بأنه لايتجاوز وعيه المستوى العفوي،وعندما سقط الاتحاد السوفياتي اتجه الكثير من الماركسيين السابقين في مرحلتهم الليبرالية الجديدة من (نظرية الطليعة)إلى (نظرية التنوير)التي كانت تفترض رسالة تنويرية عند المثقف والسياسي يشي اضمارها بأن”الظلامية”و”الجهل”هي في مكان العفوية في نظريتهم الطليعية السابقة.في تلك الأيام كان الكثير من المثقفين والساسة السوريين يقابلون بالسخرية والإستهزاء كلمات (الشعب)و(الثورة).الآن هم أنفسهم يبنون سياساتهم بدلالة”الآخر”الذي يفترضون أنه “الشعب”في”الثورة”،من دون أن يدركوا،أولايريدون وعي ذلك،بأن الشعب منقسم بعمق وبأن الحراك الاجتماعي السوري المعارض لم يصل إلى مستوى تحقيق شروط (الثورة) وإنما أنشأ أزمة عامة سورية،وأيضاُ أزمة دولية- اقليمية،يمكن أن يبنى عليها لتحقيق أجندات التغيير السوري.هؤلاء وصل الشطط(وربما شيء آخر)بهم إلى الظن بأن البرنامج السياسي هو في حالة تماهي مع الشعارات التي تطلق في مظاهرات سياسية،والبعض الآخر أبعد من ذلك عندما قال بأنه “في الثورات لاتوجد سياسة،وإنما شعارات وتظاهرات وحراكات وإغاثة “،وكأن ميرابو وروبسبيير ولينين كان محلهم من الإعراب هكذا في الثورتين الفرنسية والروسية.

    في عامي2011و2012لم تكتف المعارضة السورية المنظمة القديمة ب”بناء السياسة بدلالة الآخر”الذي كان هو الحراك وإنما انقادت وراءه بدلاً من أن تقوده،كماأن دخول موجات وأجيال جديدة إلى السياسة من دون خبرة سابقة ووصول بعضهم للقيادة السياسية،قد جعل هذا الانقياد،وتلك النزعة الشعبوية،يجتمعان في مزيج آل بالمعارضة السورية إلى حصيلة لاترتقي إلى مستوى الفعل الاجتماعي المعارض البادىء منذ يوم18آذار2011.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى