أدبيات الحروب الأهلية/ بدر الإبراهيم
يُسهم الخطاب الإعلامي الذي تتبناه وسائل إعلام عربية، وخطاب مجموعة من المثقفين العرب، في رفد الجماعات الأهلية المتحاربة على الساحات العربية بما تحتاجه من مصطلحات وتعبيرات، تُبرز روايتها الخاصة للأحداث، وتبرّر سلوكها وممارساتها، وتقوّي قدرتها على الحشد والتعبئة لصالح منطقها في الصراع. يلعب المثقفون، والمؤسسات الإعلامية التي تتيح لخطابهم فرصة التمدد، دوراً مهماً في توكيد هوية الجماعة الأهلية الواجب تأييدها، في وجه الجماعات الأهلية المقابلة، أو بمعنى آخر: هوية الـ”نحن”، مقابل الـ”هم”، ويشاركون في رسم خطوط التماس الثقافية والسياسية بين الأطراف المتصارعة، في خدمة فكرة الإقصاء على أساس اختلاف الهوية التي تطبع، عادةً، الحروب الأهلية بطابعها، إذ تدور هذه الحروب حول فكرة إقصاء جزء من المجتمع جزءاً آخر منه، جغرافياً وجسدياً، في صراع يتمحور حول السيطرة على الأرض، والنفوذ عليها.
أول ما تبدأ به المساهمة الثقافية والإعلامية، في الصراع الأهلي السياسي والعسكري، هو فكرة التمايز، إذ يتم تمييز جماعةٍ بعينها عن الجماعات الأخرى، وتقسيم المجتمع على أساس الهوية المذهبية أو العشائرية، وهذه نواة تُبنى عليها انقساماتٌ لاحقة، تتعلق بالاصطفاف مع المحاور الإقليمية والدولية. تمييز الجماعة الأهلية يتم، أولاً، بتأكيد هوية الآخر، والممايزة بين الهويتين، بالفصل بينهما، ونسف المشترك لمصلحة الاختلاف، والتأكيد على أن العودة إلى الهويات الفرعية، مع تآكل الدولة أو سقوطها، أمر طبيعي ومبرر، وأن هذه هي الحالة “الطبيعية” التي تمثل رداً على هوية وطنية مصطنعة، وكأن هذه الهويات الفرعية لا تخضع لتصنيع، وضخٍّ للرموز، وصناعة ذاكرةٍ وتقاليد، يُسهم فيها هؤلاء المثقفون والإعلاميون أنفسهم.
تأكيد التمايز في الهوية لا يتم من دون تأكيد الفرادة، أو التفرد. وبمعنى آخر، تأكيد خصوصية هذه الجماعة الأهلية التي تتجلى في خصوصية مظلوميتها، وتفرّدها بوقوع ظلمٍ عليها، لم يحصل مثله في التاريخ، وتضخيم الشعور بالغبن، رغبةً في استنهاض همم أهل هذه الجماعة، لمواجهة الظلم الواقع عليها، والظَّلَمَة الذين يسلبونها حقها. وهنا، تظهر أيضاً الفرادة في الحقوق، فلهذه الجماعة المظلومة ظلماً ليس له نظير الحق في الهيمنة وامتلاك النفوذ، أو على الأقل، الحصول على النصيب الأكبر في الحصص داخل الدولة. تعمل الخصوصية، في المظلومية، وفي الحقوق، محركاً “لنضال” الجماعة الأهلية، والحشد والتعبئة لصالحها، وتالياً، لاستمرار الحرب الأهلية.
“يروج مثقفون أدبيات الاحتراب الأهلي، ويرفدون الآلة الإعلامية بمجموعة من التعبيرات الغارقة في التقسيم الهوياتي للمجتمعات”
يترافق التأكيد على الخصوصية والفرادة للجماعة الأهلية مع التأكيد على فرادة كل الصفات السيئة في الخصوم، وشيطنتهم بشكل كامل، والتخويف منهم، وتصويرهم وحوشاً كاسرة، تستعد للانقضاض على الناس في كل لحظة. ربما تكون أهم مصطلحات الشيطنة، ذات المدلولات الثقافية والسياسية الكبيرة والمهمة، توصيف الخصوم بأنهم مُحتَلُّون، والحديث الذي نراه يتكرّر كثيراً، في وسائل إعلام مختلفة، وفي كتابات ومقابلات عدد من المثقفين، عن الاستعمار والاحتلال الداخليين، والاستيطان، وما شابه ذلك من مصطلحات، يُراد ربطها، في ذهنية المتلقي العربي، بالاحتلال الصهيوني لفلسطين، وتشبيه مجموعات أهلية عربية بالغزاة الصهاينة، والبناء على ذلك، باعتبار قتالهم نوعاً من المقاومة المشروعة، ونضالاً وطنياً ضد الغزو والاحتلال، في أكبر عملية ابتذال لمصطلحات الاحتلال والمقاومة، يمكن أن نشهدها في الوطن العربي.
ينطوي توصيف مجموعات محليةٍ بأنها مُحتلة، وربطها بجهات خارجية، لشرعنة هذا التوصيف، على أمرين خطيرين: الأول، نفي الهوية والانتماء الوطني عن هذه المجموعات المحلية، واعتبارها مجموعات دخيلة، وغازية، وتحويل الصراع معها إلى صراع وجودي، وإقصاؤها من المشهد، وتجريم الحديث والتفاوض معها، والحرص على استمرار الحرب والفوضى وسيل الدماء، فهذه المجموعات هي محتلة، ويمكن الاستعانة بأي قوة، أو معونة، لضربها وإقصائها، بما في ذلك التعامل مع أعداء الدولة والأمة، وتبرير ذلك بفكرة الاحتلال الداخلي.
الأمر الآخر الذي ينطوي عليه هذا التوصيف، واستخدام مصطلحات مثل “الاحتلال الاستيطاني”، فهو استخدام القضية الفلسطينية بشكل مبتذل، بغرض تجاوزها، إذ تشير فكرة الاحتلال الداخلي والاستيطان إلى تحول استراتيجي في منطق الصداقة والعداء الذي تُبنى عليه العلاقات السياسية، وتُبرَز أولوية العداء مع الآخر داخل المجتمع، ويؤكد استخدام مصطلح الاستيطان والاستعمار، في شرح طبيعة الصراعات الأهلية العربية، إلى أولوية هذه الصراعات، على الصراع مع الكيان الصهيوني، والقول إن هناك ما هو أخطر وأكبر وأوْلى بالمواجهة من هذا الكيان، نظراً لوجود استيطان أكبر وأخطر في عدة ساحات عربية.
المفارقة أن بعض هؤلاء المثقفين الذين يروجون أدبيات الاحتراب الأهلي، ويرفدون الآلة الإعلامية بمجموعة من التعبيرات الغارقة في التقسيم الهوياتي للمجتمعات، كانوا يحذرون، قبل سنوات، من خطر هذا النوع من الانقسامات، لكن ما يحصل في الوطن العربي من حروب وأزمات يبدو قادراً على ابتلاع عدد كبير من المثقفين العرب، بما يجعلهم مساهمين في استمرار الأزمة، بدلاً من طرح حلول لها، خارج التصورات القائمة، داخل كل جماعة أهلية. في الوقت عينه، يظهر الإحباط في خطاب مثقفين آخرين، ما زالوا متمسكين بموقعهم خارج الاستقطابات الهوياتية، ويبذلون جهداً لا ينفع كثيراً، وسط هذا السعار الذي نعايشه، فقد غلبت الغرائزية الخطاب العقلاني الذي بات متهماً طوال الوقت.
العربي الجديد