صفحات الناس

أدرينالين الطريق إلى تركيا/ أحمد عزّام

 

 

ركن الدين مركز الانطلاق، حيث ستوُدع نفسك في دمشق وقد اهترأت روحك من حالة الاستنفار التي تعم البلاد، الجيش الذي يلاحقك شبحه، العمل الذي أصبح ورقة يانصيب، الحب الذي لم يبق منه شيءٌ في عيون الناس، أخبار الموت العاجلة عديدة الأسباب.

تراقب ما تبقى من سكارى وما هم بسكارى وأنت في انتظار الشيخ، هكذا ستعرفه بعد ساعات من الانتظار في مول قاسيون.

تجاوزتْ الرشاوى التي دفعتها المئة وخمسين ألف ليرة سورية حتى استطعتُ أن أحصل على مهلة سفر قد تكون بلا عودة وذلك من أجل تأجيل خدمة الأسد والهرب خارج سورية.

أخبرتني إحدى الصديقات عن شخص يمكنه مساعدتي في تجاوز حواجز النظام من دمشق إلى عفرين ومن ثم إلى تركيا. كنتُ أخشى أن يكون اسمي معمماً على الحواجز وهذا ضرب من الرعب الأمني الذي يعيشه كل من سوّلت له نفسه ونطق باللفظة الحرام “حرية”.

كان الاتفاق أن يستلم مني هذا الرجل ما يعادل مئة وخمسين دولاراً. يرن الهاتف، صوت يكسر الحواجز ويمنحكَ الطمأنينة في وطأة ما أنت مُقدم عليه: “حبيبي أحمد وينك أنت؟”. “عند المول” أجيب. “أيوا هاد أنت لكان، يلا يلا شفتك رح لف بالسيارة”.

تتقدم سيارة مرسيدس مسرعة، واجهتها مغطاة بصورة حسن نصر الله وبشار الأسد، تتوقف أمام الكافيتيريا بفرملة استفزازية أوقعت فنجان القهوة من يد النادلة. لم أتوقع أبداً أن هذه السيارة جاءت لتقلّني معها، فصديقتي لم تخبرني أنني سأتعامل مع جماعة من شبيحة الصف الثالث.

الصوت الذي كان يطمئنني تكلّم معي بلهجة مختلفة، قمعية تخنق من يسمعها. يترجل صاحب الصوت وكأنه يداهمني يأخذ حقيبتي دون أن يسلم عليّ. “أنا فلان الفلاني لقبي الشيخ، اركب”.

فجأة تنزل الشبابيك الأوتوماتيكية المظللة ليتبين لي وجود ثلاثة عناصر مسلحين. ينزل أحدهم من الباب الخلفي ويأمرني بالصعود. ما أن ركبت حتى قام الشيخ بإغلاق فتحة الهواء في سقف السيارة، وأمر الشاب الجالس بجانبه أن يغلق الشبابيك وهو يرسل لي إشارات التخويف من المصير المجهول الذي ينتظرني.

أمّا الرجل الذي يجلس بجانبي فكان يخبئ ابتسامةً خبيثة ويقول: “مبسوط بحالك جايب الشنتة و بدك تسافر!”. إذن لقد وقعت في فخ، كما حدث لأصدقائي، بحثت في رأسي وتذكرت أن بيني والفتاة التي رتبت لي هذا الموعد بعض الأمور التي قد تجعلها تفكر بالانتقام، ولكن أيعقل هذاّ!

بدأ الجميع يمارس دوره، واحد يهدد بالعذاب الآتي والآخر يطالبني بإخراج مافي جيوبي والثالث يهندس لي شكلَ الميتة التي سألقاها. تعاقبت في ذاكرتي صور شهداء التعذيب، تخيلتُ نفسي صورةً متمسكة برعبها الأخير قبل الموت، بينما أصدقائي يتعرفون عليها ويشاركونها عبر الفيسبوك ويمارسون لعبة الرثاء.

أفلتت سيطرتي على الأدرينالين وضاعت شجاعتي كلها بعد دقيقتين فقط وأصبح وجهي مثاراً للشفقة، هكذا إلى أن أفلتت ضحكة جماعية من العناصر جعلتني في تخبطٍ واضح بدده الشيخ فوراً عندما قال بلهجة ملؤها الود: “لك شبَك يا زلمي ما نمزح معك”!

وصلنا إلى الكراج ونزل الشيخ ليستقبله مجموعة من العمال والسائقين وهم يسلمون عليه كمن يسلم على زعيم مافيا. أعطاهم حقيبتي ثم عاد ليخبرني بأن رحلتي سوف تتأخر حتى الثانية ليلاً، أي لا زال أمامي أربعُ ساعات من الانتظار المُرهق بصحبة هؤلاء.

اقترح عليّ الشيخ آمراً أن يكرمني بضيافته في بيته الكائن في “عش الورور” الموالي بغالبيته للنظام السوري. انطلقنا إلى هناك وأنا أستعيد الأخبار التي كنت أسمعها عن “عش الورور” أثناء حصار حيّ “برزة البلد” المجاور له، ولأنني لا زلت غير مصدق أن مزحتهم السمجة كانت مجرد مزحة، انتابني الخوف مجدداً. ما شاهدته داخل هذا الحي عزّز من وهم الخوف لدي.

كنتُ سـأظلّ مقتنعاً حتى الآن بأنني ميت لو لم أكن أنا نفسي من يسرد لكم ما حدث تلك الليلة.

* كاتب من سورية

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى