أربعة مقالات لكتاب سوريين تناولت “الأخوان المسلمين” والوضع في سورية
بين تاريخين إسلاميين في سورية/ راتب شعبو
لم يكن مسار أحداث الصراع بين النظام السوري والإخوان المسلمين، وارتداداتها، من 1976 إلى 1982 (سوف نسميها الحالة الأولى) شبيهاً بمسار (وارتدادات) الثورة السورية التي انطلقت في مارس/ آذار 2011، وانتهت بسيطرة الجهاديين الإسلاميين (سوف نسميها الحالة الثانية)؛ وإن كانت السيطرة الإسلامية القاسم المشترك في الحالتين.
اعتمدت الحالة الأولى على استنهاض الشارع السوري بالعنف، عبر عمليات اغتيال لشخصيات ذات صلة كثيرة أو قليلة بالنظام (ضباط أو رجال علم)، لكنهم جميعاً من منبت علوي. اعتمد الفعل الإخواني، في حينه، على استجرار عدم الرضى الشعبي السوري الكامن، ودفعه عبر قنوات طائفية تنسجم مع منظورهم السياسي الذي يقول بضرورة “الحكم بما أنزل الله”، لكنه يقول، تحت هذا القول، بضرورة انتفاض أهل السنة (الأكثرية) ضد حكم العلويين (الأقلية)، فالوجود الجائز الوحيد، في منظور هذه الجماعة، هو الوجود الطائفي. كان في ذلك مصدر قوة للحركة (ملامسة عصب الهوية العالي الطاقة) ومصدر ضعف في الوقت نفسه (نفور قطاع واسع من السوريين يشمل الأقليات المذهبية في سورية وقسماً كبيراً من السنة، يضم المتنورين والعلمانيين، وغير المتعاطفين بطبعهم مع الطروحات الطائفية).
دامت فترة العمليات الفردية التي يسميها “الإخوان” المرحلة السرية، من فبراير/ شباط 1976 (اغتيال الرائد محمد غرة رئيس فرع الأمن العسكري في حماة) حتى يونيو/ حزيران 1979 (مجزرة مدرسة المدفعية في حلب). صارت الحرب مكشوفةً بين الطرفين بعد ذلك، وفقط بعد تلك المجزرة اعترف إعلام النظام بوجود عدو داخلي مسلح. وبدأ الصراع عسكرياً واستمر كذلك مع بروز مظاهر حراك شعبي محدود على هامش الفعل العسكري الأساسي.
يلاحظ من الحالة الأولى أن المجهود العسكري كان مدينياً، على عكس الحالة الثانية التي قام مجهودها العسكري على الريف ومحيط المدن أساساً. قد يكون في هذا استفادة من التجربة المدينية الفاشلة في الحالة الأولى، وإدراكاً لعدم جدوى الرهان الذي سبق أن راهن عليه عبد الستار الزعيم الذي كان على رأس جماعة الطليعة المقاتلة خلفاً لمروان حديد، وهو أن استفزاز النظام بعمليات متفرّقة سوف يدفعه إلى ممارساتٍ عنيفة ضد المجتمع، ما سوف يؤدي إلى قيام المجتمع ضد النظام، لكن الواقع قصّر كثيراً عن التوقع.
على هذا، كان المنظور العسكري، في الحالة الثانية، أطول نفساً. ولذلك، راح يؤسس لنفسه
“النشاط الطائفي الإخواني استجرّ رد فعل طائفي صريح من النظام” قواعد ارتكاز ريفية بعيدة نسبياً عن متناول يد النظام، تناسب حرباً طويلة، شبيهة بحروب المعارضات المسلحة في أميركا اللاتينية، وإن يكن بزخم أشد، وصل إلى حد السيطرة على مدن.
تضمّن هذا الفارق العسكري فارقاً في المنظور والتوقع السياسي. كان المنظور في الحالة الأولى يعتمد على قيام المجتمع ضد النظام بتحريض من “طليعة”، أي إن أساس التغيير في الحالة الأولى كان حراكاً شعبياً يحرّضه العنف. فيما انطوت الثانية على قناعة راسخة بعجز المجتمع عن التغيير، وضرورة التغيير العسكري الصرف، هذه القناعة التي عبر عنها بوضوح أبو عبد الله الحموي (حسان عبود) مؤسس كتائب أحرار الشام وقائدها، تحكمت بالمجهود العسكري في الحالة الثانية، على الرغم من أن سورية شهدت، في هذه الحالة، أوسع حراك شعبي عرفته في تاريخها. المفارقة أنه حيث لم يكن هناك حراك شعبي، كان رهان “عسكريي” الحالة الأولى على الحراك الشعبي، وحيث كان ثمّة حراك شعبي واسع، كان رهان عسكريي الحالة الثانية على الحسم العسكري الصرف.
من جانب مختلف، بقيت، في الحالة الأولى، الانقسامات السياسية التقليدية في المجتمع السوري فعالة وعابرة للطوائف، بعد كل شيء. فيما تراجعت هذه الانقسامات بحدّة مع الزمن في الحالة الثانية، لتختفي وراء استقطاب حاد سار، إلى حد كبير، على تخوم الطوائف، ما خلا الطائفة السنية التي ظلت محلاً للانقسام السياسي، نظراً لحجمها الكبير، ولسوء التشكيلات السياسية العسكرية التي زعمت تمثيل السنة.
على سبيل المثال، في الحالة الأولى، ظل للمعارض السوري العلوي حضوره واحترامه أيضاً في وسطه الاجتماعي، في مقابل ملاحقة أمنية حثيثة من النظام لهؤلاء المعارضين، وممارسة قدر رهيب من العنف ضدهم، وصل إلى حد القتل تحت التعذيب. لم تكن التنظيمات السياسية التي كان ينتمي إليها هؤلاء المعارضون مهادنة للنظام، فمنها من صب كل نقده على النظام، من دون أن ينتقد الإخوان المسلمين حينها، مثل الحزب الشيوعي- المكتب السياسي، ومنها من كان يرفع شعار إسقاط السلطة، كما كان حال رابطة العمل الشيوعي حتى بيان أغسطس/ آب 1980، والذي كانت غالبية قاعدة الرابطة غير راضية به. لكن بعد ذلك أيضاً، لم تهادن الرابطة، في أواخر أغسطس/ آب 1980 (أي بعد تجميد شعار إسقاط السلطة)، هاجمت صحيفتها المركزية “الراية الحمراء”، النظام في إقدامه على خطوتين فاشيتين، الأولى هي القانون 49 الذي يقضي بإعدام من ينتسب للإخوان المسلمين، والثانية مجزرة سجن تدمر التي نفذتها سرايا الدفاع بحق مئات من السجناء الإسلاميين، في ذروة شعور النظام بالتهديد عقب محاولة اغتيال حافظ الأسد. كان لهذا الخط السياسي الرافض للنظام وللإخوان المسلمين معاً امتداده العابر للطوائف، ولم يكن المدافعون العلويون عن هذا الخط خونة أو عملاء في نظر وسطهم، كما صار إليه الأمر في الحالة الثانية.
المفارقة التي تستوقف المراقب أن النشاط الطائفي الإخواني استجرّ في الحالة الأولى رد فعل
“النكوص الطائفي الغريزي في الوسط العلوي تجاوز حاجة النظام للتعبئة والحشد الطائفي” طائفي صريح من النظام، تمثل في تشكيل جمعية المرتضى الطائفية، في حين أنه لم يستجر نكوصاً غريزياً علوياً. ولم تحظ الجمعية المذكورة بترحيب في ذلك الوسط، على الرغم من كل الامتيازات التي أغدقتها على منتسبيها، وعلى الرغم من أنها حازت على إمكانات كبيرة، وصلت إلى حد تقديم مرشحين في اللاذقية ضد مرشحي الحزب الحاكم في الانتخابات التشريعية عام 1981. على خلاف الأمر في الحالة الثانية التي يبدو أنها مسّت “عصب الهوية” العلوية أكثر فأكثر مع تطور الحدث، ما ولّد نكوصاً طائفياً غريزياً، وأدى بالفعل إلى جعل الانقسامات السياسية محكومةً لسقف القبول بالنظام في وجه تهديد إسلامي خطير، غير مختلف عليه.
لم تظهر في الوسط العلوي في الحالة الثانية مؤسّسة شبيهة بجمعية المرتضى. ما يعود، في ظننا، إلى أن النكوص الطائفي الغريزي في الوسط العلوي تجاوز حاجة النظام للتعبئة والحشد الطائفي، ما جعل دور مثل هذه الجمعية نافلاً، ولاسيما أن التأطير العسكري للجمهور الموالي تولته، منذ البداية، مؤسسات عسكرية، كاللجان الشعبية التي تحولت لاحقاً إلى قوات الدفاع الوطني.
في الحالة الثانية، تدخلت أجهزة الأمن، أحياناً، لضبط ردود فعل “شعبية علوية” ضد مظاهرات مناهضة للنظام، كما تدخلت أحياناً لحماية معارضين علويين من وسطهم. أما في الحالة الأولى، صار الجلادون الذين قتلوا تحت التعذيب أحد أعضاء رابطة العمل الشيوعي (محمد عبود) في اللاذقية، في ديسمبر/ كانون الأول 1980، منبوذين في وسطهم، حتى أن سيدةً خلعت حذاءها لضرب أحدهم، حين علمت أنه مشارك في تلك الجريمة.
السؤال الذي تطرحه المقارنة السابقة تلقائياً، ويحتاج إلى جهد بحثي مسؤول: لماذا، ووفق أي آليات، حدث هذا النكوص في الحالة الثانية، على الرغم من أن البعد الطائفي فيها كان أقل بكثير منه في الحالة الأولى؟
العربي الجديد
الإخوان المسلمون والثورة السورية/ بشير البكر
يتحمّل الإخوان المسلمون قسطا أساسيا من مسؤولية الفشل الذي وصلت إليه الثورة السورية، بل هناك من يحمّلهم القسم الرئيسي، ويعتبر أنهم تصدّروا الواجهة، من دون أن يرتقوا إلى مقام الثورة باعتبارها مشروعا تاريخيا.
وحين يجري التطرّق إلى موقف “الإخوان” اليوم، يتم التوقف عند ثلاث محطات مفصلية. تتمثل الأولى في الرهان عليهم في بداية الثورة لتشكيل قطب إسلامي معتدل، وخصوصا في عامي 2011 و2012، حين بدأت الجيوب الإسلامية الأصولية بالتشكل، والتي تطورت لاحقا إلى تنظيمي داعش وجبهة النصرة.
كان الأمل معقودا على الإخوان المسلمين من أجل قطع الطريق على التطرّف الأصولي الذي أخذ يستشري في الساحة السورية بسرعة، ويعبّر عن نفسه من خلال تشكيل كتائب إسلامية مسلحة، الأمر الذي سمح لأطراف خارجية بالتسلل إلى الثورة من الأبواب الخلفية. وسبب هذا الرهان أن “الإخوان” كانوا قبل الثورة قد أجروا مراجعةً لتجربة الثمانينات المأساوية، وقدّموا أنفسهم حركة تنبذ العنف وتحتكم إلى الديموقراطية، وتؤمن بالتعدّدية والانتقال السياسي السلمي.
ربما حاول “الإخوان” الوقوف أمام مهمة احتواء موجات التطرّف والشرذمة الإسلامية، ولكن معاينة دقيقة لمجريات الموقف في ذروة التشكيلات الإسلامية العسكرية في عام 2013، والتي تجاوزت مائة، لا توحي بذلك، بل هناك من يعتبر أن مواقف “الإخوان” الضبابية شكلت مولدا لفلتان الساحة السورية، وولادة الدكاكين تحت مسمياتٍ إسلامية، وبداية ظاهرة أمراء الحرب في مطلع عام 2013 تحت راية الإسلام.
على العموم، كان على الإخوان المسلمين المبادرة للوقوف في وجه الطفح الأصولي، ليس من أجل المصلحة الوطنية فقط، بل من أجل تمييز أنفسهم عن الموجة الأصولية العارمة، لا سيما وأن هناك من حسب الكتائب والرايات السوداء على الإسلام، وأن أصحابها تأثروا بالأطروحات الفكرية لـ “الإخوان”، ولديهم المرجعيات نفسها.
تتمثل المحطة الثانية في الدور الذي لعبه الإخوان المسلمون على صعيد حرف بوصلة الثورة، فهم وضعوا ثقلهم، منذ الأسابيع الأولى، من أجل صبغ الثورة بصبغةٍ إسلامية، وتجلى ذلك من خلال إطلاق أسماء الجمع، فبعد أن كان الحراك يركّز على الحرية والسلمية والمدنية، جاءت مسميات “الإخوان” إسلامية الطابع، وقد لعبت بعض وسائل الإعلام، مثل قناة الجزيرة، دورا في ترويج هذه المسألة. وأدى هذا التوجه إلى تهميش الألوان الأخرى في الثورة، حتى اختفت التعدّدية بالتدريج. وقد ترافق ذلك مع تصدر “الإخوان” المشهد السياسي، ولعبوا الدور الأساسي في تشكيل أول مجلس وطني سوري، وتمكّنوا من حيازة نسبةٍ عاليةٍ من مقاعد المجلس لا تتناسب مع حجم الحركة السياسية على الأرض داخل سورية، وظهر في صورةٍ واضحةٍ أن لعبتهم الرئيسية تدور من حول السلطة. ولذا، دخلوا لعبة التحالفات والكواليس، بما فيها من تسوياتٍ ومساوماتٍ، أدت إلى نتائج عكسية وضارة على الثورة.
المحطة الثالثة هي القيام بوقفة ومراجعة لمسيرة أعوام الثورة، من أجل المساهمة في وقف قاطرة التدهور التي تزداد سرعتها كل يوم. وتكتسي المراجعة أهميةً من عدة اعتبارات. الأول ذاتي في ما يخص تصليب موقفهم باعتبارهم حركة سياسية، بما يفيد العملية الديموقراطية، وإعادة بناء صف وطني في وجه النظام والاحتلالين الإيراني والروسي. والثاني على صعيد وضع الفصائل الإسلامية التي بدأت تأكل بعضها وزاد ضررها، وتحولت إلى وبالٍ على السوريين، كما هو حاصل اليوم في إدلب التي تؤكد المؤشرات أن مصيرا أسود ينتظرها، بسبب أن جبهة النصرة تختطفها.
ليس قيام الإخوان المسلمين بالمراجعة تمرينا سياسيا يتطلبه التكتيك المرحلي، في فترة التراجع الكبير، وإنما هو حق للسوريين عليهم، يتعدّى السياسة إلى الأخلاق، ولا يسقط بالتقادم.
العربي الجديد
“إسلاميّونا”: لا أمل/ عمر قدور
حدثان، ليسا خارج سياق التنظيمات الإسلامية، شهدتهما بالتزامن مدينتا دوما في غوطة دمشق وسرمين التابعة لإدلب. الأكثر فظاعة ووحشية منهما هو قيام مجموعة مسلحة باغتيال سبعة من عناصر الدفاع المدني في سرمين، أو مَن اشتُهروا بأصحاب القبّعات البيض، بينما كانوا نياماً في مركزهم. الحدث الآخر مهاجمة حوالي مئة شخص من الحراك الشعبي التابع لجيش الإسلام مركز توثيق الانتهاكات في سوريا، مقره في دوما، وجيش الإسلام مُتهم رئيسي بخطف أربعة من المركز هم رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حمادي ووائل حمادة في كانون الثاني عام 2013.
قبل حادثة سرمين بنحو أسبوع كان عناصر من جبهة النصرة، المسيطرة على إدلب وسرمين أيضاً، قد هاجموا مركزاً للدفاع المدني في مدينة جسر الشغور، وبُرِّر الحادث حينها بوجود خلاف بين أحد عناصر النصرة وأحد العاملين في المركز! أما جيش الإسلام فمن المعلوم أنه قبل خمسة أشهر أغلق العديد من المؤسسات ذات الطابع المدني، بسبب غضب قيادته آنذاك من مقال نشرته مجلة “طلعنا ع الحرية”، وفي حادث الهجوم الأخير على مركز توثيق الانتهاكات برر أنصاره هجومهم بدعوة المكتب إلى تحرير المرأة وتشجيعها على العمل خارج المنزل!
كنا لنستغرب أن يهاجم أنصار جيش الإسلام “المصنّف معتدلاً” نشطاء الثورة المدنيين، بينما تعقد قيادته هدنة مع النظام بوساطة حليفين له، هما روسيا ومصر السيسي. وكنا لنستغرب اعتداء النصرة، بينما محافظة إدلب بأكملها مهددة بالتدمير والإبادة بسبب سيطرتها، هي الموضوعة على لائحة دولية لمكافحة الإرهاب وفق قرار لمجلس الأمن. لولا أن إبداء الاستغراب يحيل إلى جهل بطبيعة هذين التنظيمين، ومعاداتهما الديموقراطية جهاراً، ولولا أنهما لا ينفردان بذلك العداء عن باقي التنظيمات الإسلامية الناشطة في سوريا، وأيضاً لولا تقنين ذلك العداء بإشراف ما يُعرف باسم “الهيئات الشرعية” التابعة لتلك التنظيمات، والتي يدّعي بعضها العمل بالقاعدة الشرعية “وأمرهم شورى بينهم” بدل الديموقراطية المعاصرة، لينحصر فهم تلك القاعدة بأن الأمر شورى بين قادة التنظيم نفسه ولا علاقة له بآراء بقية السكان، هذا إذا لم تكن الشورى بين القادة تعني تصفية بعضهم البعض.
في مناسبات سابقة، وعندما كانت تُوجه انتقادات من خارج الإسلاميين، كان أنصارهم يردون بأنهم القوة المقاتلة على الأرض، وعلى من ينتقدهم الذهاب إلى القتال مثلهم أو بدلاً منهم. وبصرف النظر عن التطابق بين هذا المنطق ومقولة “لا صوت يعلو على صوت المعركة” التي قُمعت تحتها شعوب المنطقة، يمكن القول بأن الإسلاميين وأنصارهم لم يروا في سواهم يوماً سوى بعض الأفراد الهامشيين الذين لا وزن لهم إطلاقاً، بينما منحوا لأنفسهم حق احتكار تمثيل عموم المسلمين فقط لأنهم كذلك، ولأنهم يعتبرون أي مسلم هو إسلامي بحكم إيمانه، تماماً كما يغطي بعض “العلمانيين” عداءهم للإسلام بعدم التفريق بين من هو مسلم ومن هو إسلامي.
ومن المتوقع اليوم أن يلاقي نقد الإسلاميين المصير السابق، إذ يُقال بأن الأصوات الناقدة ترتفع اليوم عطفاً على هزيمتهم في سوريا، أو تشفيّاً بهم. من دون أن يُكلف الإسلاميون وأنصارهم خواطرهم للتساؤل عما أدى إلى الهزيمة، في معركة قالوا من قبل إنها معركتهم وحدهم، وعطفاً على ذلك ينبغي عليهم الاعتراف بأنها هزيمتهم في الدرجة الأولى. القول بأن الهزيمة أتت بسبب “المؤامرة الدولية على الإسلام” لا محل له في السياسة، فتجربة الإسلاميين الجهاديين مع العالم معروفة، ومن السذاجة الظن بأن العالم سيقف متفرجاً وهم يُحكمون سيطرتهم على أي بلد، ومن السذاجة والسخف معاً انتظار الدعم الذي تُمسك به عواصم صنع القرار الغربي، بينما يكفّر قادة الجهاد تلك الدول.
أما القول الدارج بأن سلوك الغرب إزاء القضية السورية سيتكفل بتنشئة المزيد المتطرفين فهو بلا شك يشكل عزاء لهزيمة أمراء الجهاد، ويجعل منها استثماراً آجلاً رابحاً. لكن هذا الاستثمار بطبيعته لا يأخذ في الحسبان حجم الضحايا الأبرياء الذين سيكونون وقود المعركة القادمة، لأن المستثمرين لم يحترموا من قبل حيوات الضحايا في الجولة الحالية والجولات التي سبقت. هذا إذا أخذنا المقولة ذاتها على محمل الحتمية، ولم نترك هامشاً لاحتمال تعلم الشعوب من الدرس القاسي الأخير.
إلا أن أهم ما يكشف عنه الدرس السوري هو فقدان الأمل من هذا النوع من الإسلاميين، أي أولئك الذين فهموا طموح الآخرين إلى التغيير على أنه استبدال للطغيان الحالي بآخر ديني. هذه الانتهازية في محاولة استغلال فرصة تاريخية كانت ممنهجة طوال الوقت، فالإسلاميون عملوا على مستويين، الأول الهيمنة وانتزاع ما كسبته الثورة، والثاني قتال تنظيم الأسد بوصفهم قوة الأمر الواقع الوحيدة المواجهة. فضلاً عن أن هذه هي اللعبة المفضّلة لتنظيم الأسد، واستهدافه أولاً الفصائل الأكثر اعتدالاً، فإن انتهازية الإسلاميين المبتذلة لم تسعفهم في محاولة التقرّب من الثورة، عبر أساليب سطحية مثل رفع علمها، سوى في الوقت الضائع بعد خسارتهم خارجياً وداخلياً. في الإطار نفسه تصب مشاركة الإسلاميين في تنظيمات المعارضة السياسية، فوجودهم أعاق تبلور نهج وطني واضح وجامع، وتسببت محاولات هيمنتهم الصريحة والخفية بإفشال عمل تلك التنظيمات أو مأسستها.
وإذ لا يعاني هؤلاء أي مأزق فكري يدفعهم إلى المراجعة، ما دامت الهزيمة تغذّي المظلومية، وتتولى الأخيرة رفدهم بأجيال جديدة، فإن المأزق هو في تعاطي ديموقراطيين مع هذه الحالة. المنطلق الديموقراطي ليس إقصائياً بطبيعته، وسيقع في معضلة التعاطي أو المشاركة مع من هم إقصائيون حتى مع إسلاميين آخرين. هذا كان مأزق ديموقراطيين سوريين، تحمس بعضهم لمشاركة الإسلاميين على أساس وجود معركة مشتركة، بينما كانت المعركة المشتركة الفعلية في الكثير من الأحيان بين التنظيمات الإسلامية وتنظيم الأسد، على خلفية الاشتراك في احتقار الديموقراطية والعداء الصريح لها. بل لقد دافع العديد من نشطاء الثورة العلمانيين، ومن مختلف المنابت الدينية أو الطائفية، عن وجود الإسلاميين “المعتدلين” بوصفهم يمثّلون الإسلام الشعبي المعتدل لدى العديد من دوائر صنع القرار الغربية المتخوفة من المد الإسلامي. في المقابل كان هناك علمانيون يحرّضون خارجياً على الثورة بوصفها إسلامية، مثلما كان هناك بين أنصار الإسلاميين من يحرض مثلاً على ناشطة ومعتقلة سابقة هي سميرة الخليل، لأنها علوية المنبت وموجودة في الغوطة، متهماً إياها بالعمالة للنظام!
اليوم، وبعد تأخر دامٍ، تصل مغامرة الإسلاميين إلى نهايتها، سواء أولئك الذين قبلوا بتسويات وهدن مع حلفاء الأسد أو أولئك الذين سيتسببون بهلاك ودمار إضافي قبل هزيمتهم. قد تضع هذه النتيجة نهاية ذلك الالتباس بين أهداف الثورة وقوى الأمر الواقع المسيطرة على الأرض، بما أن قوى معارضة أساسية لم تتجرأ على التفريق بينهما، وغلبت عليها أيضاً الانتهازية التي تتوخى الاستفادة من الإسلاميين. القول بأن هذا إيجابي في المحصلة يتوقف على إعادة إنتاج القضية السورية من قبل ديموقراطيين وطنيين، ومن قبل مؤسسات واضحة المنهج والأهداف، وقادرة على التمييز بين ضرورة مشاركة واستيعاب مسلمين ديموقراطيين وبين أولئك الإسلاميين الجهاديين.
المدن
جماعة «الإخوان» – الأسديين والأردوغانيين!/ هوشنك أوسي
انتقد بيان موقّع من الهيئة القياديّة الموقّتة لحزب «الشعب الديموقراطي السوري» الذي ينتمي إليه القيادي في «الائتلاف» السوري المعارض جورج صبرا، مديح صبرا «المجلس الإسلامي السوري» المموّل والمدعوم من تركيا، والذي يسيطر عليه «الإخوان المسلمون» السوريّون. البيان صادر بتاريخ 6/8/2017، ويقول: «إن «الهيئة القيادية الموقتة لحزب الشعب الديموقراطي السوري» تعبّر عن استغرابها الشديد بخصوص الخطاب الذي ألقاه السيد جورج صبرا بتاريخ 22/7/2017 أمام «المجلس الإسلامي السوري»، وتعتبره، في أقل تقدير، خطأّ سياسياً فادحاً لا يقلّ عن أخطائه السياسية الفادحة السابقة، بخاصة حين تولّى الدفاع عن جبهة النُصرة وعمل على تجميل صورتها». وأضاف البيان: «يتجلّى هذا الخطأ، إضافة إلى المغالطات التاريخية التي تضمنها، في المناورة على مفهوم المرجعية الوطنية التي ترتكز على مبدأ «الدين لله والوطن للجميع»، وفي القبول بصيغة تتناقض مع المبدأ الأساسي الذي انطلقت منه ثورة الحرية والكرامة بتوجّهها لكل السوريين (الشعب السوري واحد)، بعيداً من أيّ خطاب أو مظلة أيديولوجية. وهو يتناقض مع تاريخ «حزب الشعب الديموقراطي السوري» ووثائق مؤتمره السادس».
والحزب المذكور، صاحب البيان، والجناح الذي ينتمي إليه صبرا، هو «الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي» الذي تزعّمه المعارض السوري المعروف رياض الترك سابقاً، وغيّر اسمه إلى «حزب الشعب الديموقراطي» في مؤتمره السادس عام 2005. الحقّ أن ظاهر كلام صبرا وطني توافقي، يوحي بمدى الانفتاح العلماني- المسيحي- اليساري على التيّارات الإسلاميّة، لكن باطن تلك المدائح هو التبعيّة والسلوك الذيلي لجماعة «الإخوان»، ليس في هذه الفترة وحسب، بل منذ تأسيس أول تشكيل سوري معارض في مؤتمر أنطاليا عام 2011، غداة انطلاقة ثورة الحرية والكرامة في سورية.
كثرٌ من علمانيي المعارضة السوريّة، يساريين وقوميين عروبيين، أثبتت الثورة السوريّة، في طورها السلمي، وفي مرحلة الانزلاق نحو الاحتراب الطائفي، بأن علمانيّتهم لا تختلف كثيراً عن علمانيّة نظام الأسد المزعومة، بشهادة مساهمتهم وضلوعهم في «أخونة الثورة» ثم «دعشنتها» أو حتى «تتريكها» أيضاً. ولا تبرر هذا السلوك فاشيّة نظام البراميل المتفجّرة الأسدي الكيماوي. وبالعودة إلى صبرا، فإن هذا «المجلس» لم يصدر الفتاوى الشرعيّة في أحكام الإقامة ضمن المناطق الخاضعة لسلطة تنظيم «داعش» الإرهابي، أو تنظيم «القاعدة- جبهة النصرة- جبهة فتح الشام» وتنظيم «أحرار الشام»… وبقية الفصائل التكفيريّة الفاشيّة، وتنظيم علاقة المواطنين مع هذه الجماعات الإرهابيّة. لكن «المجلس» ينظر بحساسيّة وأهميّة شديدة إلى الإقامة في المناطق الكرديّة بحيث تكون خاضعة لقواعد الشرع الديني والسياسي والوطني. لذا، أصدر فتوى في أحكام الإقامة في مناطق تحت حكم «حزب الاتحاد الديموقراطي» (الكردي). وجاء في نصّ الفتوى: «بخصوص السؤال عما يسمى قوات سورية الديموقراطية وحكم التعاون معها والعيش في مناطق سيطرتها، فإننا نرى أن هذا الاسم ما هو إلا خداع وستار لقوات تسيطر عليها ميليشيات PYD العلمانية الحاقدة. ونرى أن هذا الفصيل في الجملة أصبح أداة لتنفيذ أجندات خارجية لا تخدم الثورة السورية، ولا الشعب السوري، ولا تحقق حتى مصالح الأكراد. لذلك، لا نرى التعاون مع هذه القوات إلا في دائرة الضرورة والموازنات التي يقدرها أهل الخبرة الثقات. ولا نقر بحال من الأحوال سعي هذا الحزب أو هذه القوات لإقامة كنتون كردي منفصل عن الأرض السورية. لكن ذلك لا يعني أن نتخلى عن أرضنا وديارنا، وعلى المسلم أن يتمسك بأرضه وداره ما دام أنه يستطيع أن يقيم الشعائر فيها. وحتى لو أخرج منها فعليه أن يعمل للعودة إليها لتعزيز الحفاظ على الأرض وحقوق المسلمين فيها».
ويتضح من الفتوى أنها سياسية، قوميّة- كيديّة وعنصريّة، أكثر من كونها شرعيّة. كذلك يتضح أن حديث «الإخوان» عن الديموقراطية والدولة المدنية والتعددية ودولة المواطنة والمؤسسات، كحديث نظام الأسد عن العلمانية وحماية الأقليات… فبكل ثقة، يمكن وصف جماعة «الإخوان» بأنها كانت وما زالت الحليف الخفي الحقيقي لنظام الأسد في تشويه الثورة وحرفها عن أهدافها.
* كاتب كردي سوري
الحياة