أربع حروب سورية لا رادّ لها/ عيسى الشعيبي
في السنة السابعة للحرب الدائرة في سورية، تتكثّف في سماء الأرض المستباحة سحبٌ ركامية سوداء، تنذر بوقوع أربع حروبٍ أشد هولاً من كل ما سبقها من معارك ومواجهات بدأت بأناشيد الحرية والكرامة، وتحوّلت فيما بعد إلى مقتلةٍ كبرى، بعد أن جرت وتائرها المتصاعدة حربا بالوكالة، وغدت ساحتها ملعباً مفتوحاً لجملةٍ من اللاعبين الأشداء، ثم أفضت تراكماتها لاحقاً إلى تهميش العنصر المحلي، وإضعاف حضوره في المشهد الميداني المتنقل، لتفضي تفاعلاتها، في نهاية مطافٍ طويل، إلى تهيئة المسرح وتجهيزه لسلسلة من الحروب بالأصالة، تتواجه فيها القوى الإقليمية والدولية بشكل مباشر.
ففي غضون الفترة المديدة الماضية، استهلكت سورية مقوّمات وجودها دولة، وفقدت القوى السورية المتحاربة، بما في ذلك النظام، قدراتها الذاتية لإدامة الحرب الداخلية بالوتيرة الرهيبة السابقة، وتزايد التدخل الخارجي فيها بصورةٍ مضطردة، وأدّت توازنات القوى المتصارعة إلى العجز عن حسم الموقف لصالح أيٍّ منها، وفيما كانت السماء تزدحم بشتى أنواع الطائرات الحربية، كانت الأرض نهباً لكل أشكال المليشيات الطائفية والجماعات الجهادية، الأمر الذي أنتج وضعاً يستحيل معه إيجاد حل سياسي، وتنتفي فيه أيضاً القدرة على الحسم العسكري في المقابل.
في ظلال هذه الصورة المركّبة، وعلى جانبي إطارها الواسع، بدأت ترتسم، منذ عدة أشهر، لا سيما بعد معركة حلب أواخر العام الماضي، معالم أربع حروب كبيرة، من المقدر لها أن تنشب تباعاً، وربما على نحوٍ متزامن، بين القوى المنخرطة في صراع النفوذ الإقليمي والدولي، فوق خشبة مسرح حربي، يطلّ على فناءٍ يتربص فيه الجميع بالجميع، وتتقابل فيه الحساباتُ والتحسباتُ والهواجس وجهاً لوجه، وتتوازى فيه المصالح المتضاربة والأوزان النسبية المتعادلة، والأدوار والادّعاءات والأوهام التي راحت تترجم نفسها عبر خطط خرجت من الأدراج، ووضُعت على سطح المائدة.
“استهلكت سورية مقوّمات وجودها دولة، وفقدت القوى السورية المتحاربة، بما في ذلك النظام، قدراتها الذاتية لإدامة الحرب الداخلية بالوتيرة الرهيبة السابقة”
ومع أن الحروب المحتملة هذه سوف تجري في نطاق الجغرافيا السورية، أي أنها سورية بالتعريف المكاني، إلا أن السوريين أنفسهم ليسوا طرفاً فيها، إلا في الحدود التي تبرّر للاعبين الكبار تسويغ هذه الحرب أو تلك، وتبرير المزاعم المتهافتة حول الحرص على وحدة الأراضي الوطنية، والدفاع عن السيادة التي باتت أثراً بعد عين، الأمر الذي من شأنه أن ينقل مجريات الاشتباكات الجارية من مفهوم “الحرب في سورية” إلى مفهوم “الحرب على سورية” بصورة أوضح مما كانت عليه في السنوات الست الماضية.
تقوم هذه المقاربة على فرضيةٍ قوامها حدوث خمس حروب وشيكة، إحداها من المستبعد وقوعها تماماً، وإن لم يكن من المستحيل نفيها قطعياً، ونعني به الصدام الجوي بين القوات الروسية ونظيرتها الأميركية، فيما الحروب الأربع الأخرى دخلت في طور المقدمات المفضية، بالضرورة الموضوعية، إلى مرحلة تطبيقية لا رادّ لها، لا سيما بعد أن استنفذت الحرب بالوكالة أغراضها، وتحول القتال فيها إلى عمليات قتل موضعية لا أثر حاسماً لها على المجريات الكلية، على الرغم من جسامة آثارها البشرية والمادية على مجموع الكتلة السكانية السورية النازفة والممزّقة.
أولى هذه الحروب وأكثرها وضوحاً لعين المراقب، الحرب التي اجتازت مرحلة قرع الطبول، وبدأ غبار معاركها المتفرّقة يلوح في أفق بادية الشام، بين المليشيات الإيرانية العازمة على إقامة “كاريدور” بري واصل بين طهران وبيروت، وبعضهم يدّعي وصوله إلى غزة، وبين القوات الأميركية كثيفة الحضور جواً، ومتزايدة الثقل البشري أرضاً غربي نهر الفرات، ولعل رافعة مثل هذه الحرب، ودافعها الجوهري، ينطلق من أن هذا الجسر يمثل إنجازاً جيواستراتيجيا إيرانيا بالغ الأهمية، فيما يمثل للولايات المتحدة خسارة استراتيجية ثقيلة، أحسب أنها غير مقبولة لدولةٍ عظمى، وضعت طهران على رأس جدول اهتماماتها في هذه الآونة، بعد أن تم تصنيف إيران دولةً راعية للإرهاب في العالم.
ثاني هذه الحروب التي قد تنشب في أي لحظة مفاجئة، هي بين إسرائيل والمليشيات الإيرانية ذاتها، بما في ذلك حزب الله، حيث من المرجح أن يندلع لهبها في الجولان والقنيطرة، وليس في جنوب لبنان هذه المرّة، خصوصاً إذا واصلت هذه المليشيات تقدمها البطيء نحو الهضبة السورية المحتلة، ونجحت في وضع قدمٍ لها قبالة الحدود، التي من شأنها أن تحقق لطهران منطقة احتكاك إضافية مع العدو الذي تبرّر به سائر حروبها وتدخلاتها وخسائرها في الهلال الشيعي، وتدّعي أن ذلك كله سيمهد لشطب إسرائيل عن خريطة الشرق الأوسط.
أما الحربان اللتان من المرجح نشوبهما في المدى الزمني المنظور، فمن المحتمل أن يأخذ كل منهما شكل حرب استنزافٍ طويلة، تتراءى أولاهما عن قرب في الشمال السوري، بين تركيا
“تمثل المليشيات الإيرانية القاسم المشترك الأعظم في الحروب المرجّحة بقوة، بحكم التطورات التي تسابق نفسها بنفسها” والوحدات الكردية، حيث من المحتمل لها أن تبدأ في منطقة عفرين وشمالي حلب، ثم تمتد شرقاً إلى منطقة تل أبيض، وثانيتهما تتراءى عن بعد، وقد يأزف أوانها في المدى المتوسط، ونعني بها خاتمة “الحروب على سورية” بين المليشيات الإيرانية وبقايا قوات النظام السوري والحليف الروسي من جهة، وبين الجيش الحر والكتائب الإسلامية، خصوصاً جبهة تحرير الشام التي تمركزت في إدلب، واقتطعت لنفسها حصة من الجغرافيا السورية.
ولعل السؤال المنطقي هو؛ ما الذي ستفضي إليه كل هذه الحروب المتوقعة في سورية، إن لم تؤد إلى تقسيم البلد على نحو واقعي، ومن دون إعلاناتٍ مجلجلة؟ ولعل السؤال الآخر، وهو الأكثر تعلقاً بالأمنيات هو؛ هل من سبيلٍ إلى درء كل هذه الحروب، أو احتواء بعضها على الأقل، إذا كانت تنطوي، في مجموعها، على مواجهاتٍ قد تخرج عن نطاق السيطرة، وتؤدي إلى نتائج بالغة الخطورة، وذات مضاعفاتٍ لا يمكن التنبؤ بها من الآن، بما في ذلك امتدادها إلى مناطق مجاورة، مثل جنوب لبنان أو شرق العراق أو جنوب تركيا مثلاً؟
بما أن المليشيات الإيرانية تمثل القاسم المشترك الأعظم في كل هذه الحروب المرجّحة بقوة، بحكم التطورات التي تسابق نفسها بنفسها، فإن السبيل الوحيد لاحتواء سلسلة الانفجارات المتوقعة، وكبح جماح المواجهات الخطيرة المحتملة، هو تكبيد هذه المليشيات هزيمةً ثقيلة، سواء في البادية السورية على الحدود مع العراق، أو على تخوم هضبة الجولان، في المنطقة الممتدة من درعا وحتى القنيطرة، على نحوٍ يكسر إصرار نظام الولي الفقيه على إعادة بعث مشروعه الإمبراطوري في المنطقة، ويثنيه عن اللعب بالنار، والسيطرة على مزيدٍ من العواصم العربية.
كاتب وصحافي من الأردن
العربي الجديد