أربع حقائق في الأزمة السورية/ عثمان الرّوّاف
هناك فرق كبير بين الحقيقة على أرض الواقع وبين الرأي الخاص بتفسير هذه الحقيقة. فبينما يتفق الجميع على حقائق الواقع فإن الاختلاف يحدث عادة في فهمها وتفسيرها. من هذا المنطلق أبدأ بتحديد أربع حقائق أساسية في الأزمة السورية التي يمكن التسليم بوجودها، ثم أقوم بمناقشتها وتحليلها، وهي: 1- هيمنة الانقسام المذهبي بين السنة والشيعة محلياً وإقليمياً على الأزمة السورية. 2- كِبر حجم المأساة السورية فالحرب جد دموية وهناك آلاف القتلى والجرحى واللاجئين والمتشردين، والدمار يحدث في كل مكان في سوريا. 3-صعوبة إن لم نقل استحالة تحقيق حل سلمي أو تسوية سلمية في الأزمة السورية. 4- التعقيد الكبير لملف الأزمة السورية محلياً وإقليمياً ودولياً، وهو الأمر الذي سيجعل هذه الأزمة طويلة في مدتها ووخيمة العواقب في تداعياتها ونتائجها.
الحقيقة الأولى: التمحور السني ـ الشيعي في الأزمة السورية
لا ينبغي للأزمة السورية من حيث المبدأ أن تجعل المسلمين أسرى لتاريخ فتنة الانقسام الطائفي المذهبي بين السنة والشيعة، وإذا صح ما قيل عن وجود بعض الشيعة الباكستانيين والسنة الشيشانيين الذين يقاتلون إلى جانب النظام السوري أو ضده فإن هذا يعني أن التمحور السني ـ الشيعي في الأزمة السورية قد بدأ يأخذ بعداً إسلامياً شاملاً وليس في منطقتنا فقط. إن عدم إقحام الانقسام السني ـ الشيعي في الأزمة السورية هو المطلب الذي يجب أن يتمسك به الجميع ويحرصون عليه ولكن ما يحدث على أرض الواقع هو عكس ذلك تماماً، فإذا تأملنا في التمحور المحلي والإقليمي في هذه الأزمة نجد أن العلوية والشيعة بصفة عامة يدعمون النظام السوري، بينما يعارضه السنة ويحاربونه. هذه حقيقة الواقع وذلك بالرغم من محاولات بعض القادة والزعماء من كلا الطرفين الإدعاء برفضهم للطائفية المذهبية في الأزمة السورية، وليس من المستبعد في ظل هذا التمحور في الأزمة السورية أن يتوسع نطاق فتنة انقسام السنة والشيعة في العالم الإسلامي وأن يتطور الأمر إلى صراع وصدام دموي واسع بين الطرفين لا سمح الله.
أقول هذا الكلام وفي قلبي غصة كبيرة. فلا يمكن التغافل عن هذه المشكلة وتجاهلها والإدعاء بعدم وجودها بينما هي تتبلور وتستفحل يوماً بعد يوم، وحتى الآن فإن السنة في سورية والقادمين من خارجها لا يقاتلون الشيعة والعلويين لأنهم شيعة أو علوية، ولكنهم يفعلون ذلك لأن النظام يقتل شعبه الذي يشكل أهل السنة غالبيته. والنظام السوري بالمقابل لا يقتل شعبه لأن غالبيته من السنة ولكنه يقاتلهم لأنه يصر على التمسك بالسلطة، والخوف هو أن يأتي يوم يصبح فيه الاقتتال بين كلا الطرفين على أساس مذهبي أولاً وسياسي ثانياً (السني ضد الشيعي والشيعي ضد السني)، فالفشل في معالجة الأزمة السورية قد ينقلنا إلى صراع مذهبي دموي كبير لا تُحمد عقباه، وضرره سوف يلحق بكلا الطرفين. فعلى الرغم من أن نسبة الشيعة في العالم الإسلامي حسب أفضل تقديرات الموسوعات العالمية والكتب المهمة لا تزيد عن خمسة عشر في المائة 15% .فإنني مازلت أقول بأن الضرر سوف يلحق بكلا الطرفين، وليس بالشيعة وحدهم فقط. وعندما نتحدث عن الانقسام السني الشيعي في الأزمة السورية فإن من المهم التنويه أن هناك من السنة في سوريا ولبنان والعراق وغيرها من يدعم النظام السوري ويدافع عنه، وأن هناك شيعة وعلويون يعارضون النظام السوري ويرفضون استبداده وقتله لشعبه، ولكن كلا هؤلاء الطرفين من السنة والشيعة غير المنسجمين مع التمحور السني الشيعي الواسع والعام في الأزمة السورية، لا يشكلون أصواتاً مؤثرة وقوية بين السنة أو الشيعة.
في أواخر القرن العشرين راجت نظرية صدام الإسلام مع الغرب وفي السنة الأولى للقرن الواحد والعشرين وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي زادت من حجم التخوف في أمريكا وأوروبا من الحركات الإسلامية الجهادية التكفيرية المتطرفة. وانشغلت الكثير من المؤسسات السياسية والعسكرية والاستخباراتية الأمريكية والأوربية في دراسة هذه الظاهرة ووضع استراتيجيات التعامل معها ومواجهتها ومحاربتها. واستعانت في ذلك بمراكز بحوث ودراسات متخصصة عديدة في أمريكا وأوربا. ولقد تسربت في ذلك الوقت بعض المعلومات ومُفادها أن الآراء المطروحة تضمنت الدعوة إلى إشغال المسلمين بالديمقراطية وبإشعال نار الفتنة بين السنة والشيعة. إذ من المعروف نظرياً أن أي تحول ديمقراطي سوف يشهد في عقوده الأولى فترات من الفوضى والعنف والاضطرابات السياسية. وهذا ما نشهده الآن فعلياً في دول الربيع العربي؛ في تونس وليبيا ومصر واليمن، وفي إطار هذه الرؤية المؤامراتية فإن حكومات أمريكا وأوربا تبنت مواقف الضغط على الدول العربية لأجل دفعها نحو التحول الديمقراطي (الدمقرطة)، وهو الأمر الذي ساعد على استفحال لهيب الربيع العربي. وحسب نظرية المؤامرة هذه فإن الدول العربية والإسلامية بعد نضوج تجربتها الديمقراطية سوف تهدأ فيها روح التطرف والدعوة لمحاربة أمريكا وأوربا.
وأما وسائل إشعال نار الفتنة حسب نظرية المؤامرة هذه بين السنة والشيعة فهي عديدة وسرية والتي تساعد ظروف الكثير من الدول الإسلامية على النجاح في تحقيقها. ولإثبات وجود نظرية المؤامرة هذه فإن من يؤمنون بها يقدمون بعض الأمثلة لتأكيد صحتها. ومن ذلك عدم قيام أمريكا وأوربا باتخاذ مواقف حاسمة ضد إيران وحزب الله، وقيام واشنطن في عدة مناسبات بتخويف السعودية ودول الخليج العربي من خطر السلاح النووي الإيراني وعن عزمها لتوجيه ضربة عسكرية قوية لإيران، ولكن هاهي أمريكا الآن تحاور إيران وتسعى لتخفيف العقوبات الدولية ضدها. ومن مظاهر إشعال فتنة الصدام السني- الشعي أيضاً عدم حرص أمريكا وأوربا على معاقبة وردع النظام السوري بالرغم من استخدامه للسلاح الكيماوي، وامتناع أمريكا وأوربا عن تزويد الجيش السوري الحر بالسلاح.
وإن افترضنا ولو من باب الجدل فقط أن نظرية سعي الغرب لإشعال نار الفتنة بين السنة والشيعة هي نظرية صحيحة، فإن من يسعى لتحقيق هذه الفتنة قد وجد في الأزمة السورية منفذاً واسعاً لتحقيق أهدافه. فكلما طال أمد الأزمة السورية كلما توسعت دائرة صدام السنة والشيعة، وكلما انشغل المسلمون بمحاربة بعضهم البعض. فهدف هذه المؤامرة المزعومة والمرتبطة بالاستخبارات الأمريكية والأوربية هو جعل حيل وكيد المسلمين بينهم كي ينشغلوا بأمورهم ومشاكلهم. وبعبارة أخرى: (اشغلوا المسلمين بأنفسهم كي ترتاحوا من مشاكلهم). وإذا كانت هذه النظرية المؤامراتية صحيحة، فهذا يعني أن السنة والشيعة المتورطين في القتال مع النظام السوري أو ضده، يساهمون جميعاً من حيث يدرون أو لا يدرون في تنفيذ سياسات قديمة وضعتها بعض أجهزة الاستخبارات الأمريكية والأوربية. ولعل من المهم التوضيح أن التحليل السياسي الواقعي والعقلاني يرفض في طبيعته ومنهجه نظرية المؤامرة ولا يقبلها. ولا أعتقد شخصياً أن نظرية المؤامرة هذه هي نظرية صحيحة، ولكن هذا لا يعني أن ملايين السنة والشيعة لا يعتقدون بوجودها، والغريب في نفس الوقت هو أن الواقع الذي نراه في مشهد الأزمة السورية يوضح أن الحرب في سوريا قد بدأت تتجه فعلاً إلى صراع وصدام بين السنة والشيعة، وهو الأمر الذي يجعل إسرائيل وجميع أعداء المسلمين في العالم هم أكبر المستفيدين من ظروف وتداعيات الأزمة السورية. وقد تبدأ المؤسسات السياسية في أمريكا وأوربا بملاحظة أن إشتعال نار الفتنة بين السنة والشيعة، سواء بوجود أو عدم وجود مؤامرة، سوف يضر بمصالح دولها في نهاية المطاف.
في وسط هذا المشهد الطائفي المذهبي البغيض، بقي أمامنا طرح السؤال الآتي: هل هناك من فرق بين تمحور أهل السنة والشيعة في الأزمة السورية؟ نعم إن هناك فرق كبير بين موقف الطرفين، فالسنة يواجهون نظاماً يقتل شعبه ويدعمون المظلومين المقتولين والمشردين من أبناء الشعب السوري. وأما الشيعة بالمقابل فإنهم يدعمون نظاماً قاتلاً بل ويشاركونه في قتل أبناء شعبه من السنة وغيرهم. وهذا ليس رأي بل هو استكمال لحقيقة واضحة مهما حاول شيعة المنطقة الزعم بخلاف ذلك وإغماض أعينهم حيالها. ولكن حتى يحافظ الموقف السني على منطلقه الإنساني المقبول فينبغي عدم ترك الحركات الجهادية تتولى قيادة مواقف مواجهة النظام السوري. وبعض القيادات السنية والشيعية وفي مقدمتها قيادات حزب الله اللبناني تؤجِّج الانقسام السني الشيعي لتحقيق مكاسب سياسية لها.
الحقيقة الثانية: كبر حجم المأساة السورية وسؤال من هو المسؤول عنها؟
إن المأساة والمعاناة السورية كبيرة جداً بكل المعايير، سواء نظرنا لعدد القتلى والمصابين والمشردين واللاجئين، أو لحجم الخراب والدمار الذي لحق بسوريا، والسؤال الذي يمكن طرحه في هذا الأمر يتعلق بمسؤولية هذا الخراب والقتل والدمار. فمن المسؤول عن ذلك؟ هل هو النظام السوري أم مقاتلي الثورة السورية؟ فبشار الأسد يقاتل بسبب التمسك بكرسي السلطة ولا يكترث لدوافع الحرية والكرامة التي تدفع بالثوار للقتال ضده، فهم بالنسبة إليه مجرد مقاتلين يحاربون لأجل انتزاع كرسي السلطة منه. وإن الرئيس السوري هو ليس الوحيد في هذا الأمر؛ فرغبته بالتمسك بالسلطة حتى النهاية، وقتل عشرات بل مئات الآلاف لأجل المحافظة عليها، هي صفة الكثيرين من زعماء ورؤساء الدول النامية. وبعض القادة السابقين في دول الربيع العربي وفي مقدمتهم القذافي متهمون بهذا الأمر وإن كان عدد القتلى في حالات تونس ومصر واليمن يقل كثيراً عن عدد القتلى في ليبيا وكذلك القتلى السوريين الذين أصبحوا يتصدرون اليوم قائمة القتلى ليس في حالات دول الربيع العربي فقط ولكن بين حالات كثيرة في تاريخ دول العالم الثالث. فالسلطة مفسدة وأي مفسدة والقتل لأجل المحافظة عليها مسألة قديمة ومنتشرة في غالبية دول العالم باستثناء الدول الديمقراطية.
وفي صدد دفاعهم عن الرئيس السوري بشار الأسد يقول مؤيدوه أن النظام السوري كان يعمل على توفير الأمن والاستقرار في سوريا وتهيئة حالة اقتصادية جيدة نسبياً أو ليست سيئة على الأقل. كما أنه لم يُدخل سوريا في حرب خاسرة مع إسرائيل دون أن يتنازل في نفس الوقت عن دعم المقاومة ضد إسرائيل. وهناك بعض السوريين الذين يمكن أن يسألوا المعارضة السورية عن أسباب انقساماتها غير المبررة، وأن يسألوا ثوار سوريا عن سبب قيامهم بالثورة إذا كانوا غير قادرين على إتمامها والنجاح بها؟ وعلى الرغم من أن هذه النقاط جميعها هي نقاط مهمة فعلاً، إلا أنها تهمل أمراً جوهرياً واحداً وهو أن ثورات الحرية والكرامة ومحاربة الاستبداد بالسلطة والانفراد بها، تحدث بصرف النظر عن جميع الاعتبارات التي قد تستدعي التروي بها وعدم الإقدام عليها. فالثورة لا تفكر ولا تخضع لأسس التخطيط الاستراتيجي أو للمنطق السياسي المعقول. الثورة انطلاقة عفوية تحدث بصرف النظر عن حالات الاستقرار التي تسبقها ودون أي حساب للدمار الذي سينجم عنها. ثورة الكرامة تحدث حتى وإن لم تكن هناك حالة من الفقر الكبير في مجتمعها، فهذه الثورة تحدث عندما يكره الناس حاكمهم الظالم المستبد كرهاً شديداً. الثورة تحدث عندما يسب جنود النظام القيم والمعتقدات الدينية الأساسية للسكان. الثورة تحدث عندما يدخل آلاف الناس إلى السجون ويخضع الكثيرون منهم للتعذيب الشديد. الثورة تحدث بعد تراكمات طويلة، وعندما يصبح الناس مهيئين لها نفسياً ومعبئين لها جماهرياً. الثورة تحدث عندما يأتي سبب – مثل قتل أطفال وشباب درعا – ليكون الشرارة الأولى التي تحرك الجماهير وتدفعها للثورة ضد حكم الظلم والطغيان. ومن المعروف الآن أن الفيس بوك واليوتيوب وغيرها من وسائل الاتصال المتطورة أصبحت تكشف ما كان يتم في الظلام وتعبئ الناس ضده وتدفعهم للثورة.
هناك عشرات الكتب التي بحثت في سؤال: لماذا تثور الجماهير؟ والتي من الأفضل لجميع الرؤساء المستبدين ولمن يدعمهم في العالم أن يقرؤوها وأن يستفيدوا منها. وإذا كان هناك عموماً ثلاثة أنواع من الثورات: ثورة الإيديولوجية، و ثورة الفقر، وثورة الكرامة، فإن ثورة الكرامة هي أشدها وأصلبها. فثورة الإيديولوجية قد تفقد زخمها الأيديولوجي، وثورة الفقر والخبز يمكن معالجتها بتوزيع الأموال والمنافع على عامة الناس من الفقراء، وأما ثورة الكرامة فلا يمكن إيقافها إلا بالتنازل عن استبداد السلطة، وهو الأمر الذي يستجيب لمطلب الثوار الرئيسي. الثورة السورية هي ليست ثورة ريف ضد استقراطية المدن، وليست ثورة رغيف الخبز، وليست ثورة الطبقة الوسطى ضد زعيم متحالف مع عامة الجماهير البسيطة، ولكنها ثورة أكثرية ضاقت ذرعاً بحكم نظام استبدادي فاسد قاتل يعتمد على الأقلية العلوية. ثورة ربما تعود في جذورها إلى مذبحة حماة الأولى التي قتل فيها نظام حافظ الأسد الآلاف من سكان حماة. هناك عشرات الآلاف من الكلمات والجمل التي يمكن استخدامها لشرح وتفسير الثورة السورية ولكن كلمة واحدة تغني عن ملايين الكلمات. إنها ثورة حرية وكرامة بكل ما تحويه هذه الكلمة من معنى.
الحقيقة الثالثة: صعوبة أو استحالة تحقيق تسوية سلمية في سوريا
فالنظام السوري متمسك بالسلطة حتى النهاية، والجيش السوري الحر والثوار السوريون والحركات الجهادية متمسكون بالثورة حتى الموت، والحديث عن مؤتمر جنيف 2 هو حديث مفرغ من أي مضمون سياسي واقعي، ومن يعتقد بخلاف ذلك فإنه يعيش في وهم أو خيال سياسي لا يسمن أو يغني من جوع. فبشار الأسد لن يتخلى عن السلطة، وزعماء وقادة الثورة لن يتراجعوا عن ثورتهم، والحسم لأحد الطرفين ضد الآخر لن يتحقق إلا بالقوة، وأرض المعركة تعطينا صوراً واضحة تتمثل في الكر والفر بين الطرفين. وعلى الرغم من أن ترسانة الأسلحة التي يملكها النظام السوري وقوته العسكرية مدعوم من جنود حزب الله وغيره من المليشيات الشيعية تفوق كثيراً قوة الجيش السوري الحر والحركات الجهادية التي تقاتل ضد نظام سوريا، فإن الجيش السوري الحر وكذلك الحركات الجهادية سيبقيان دائماً سكيناً تدمي خاصرة النظام وتمنعه من تحقيق نصر عسكري كبير، وسكيناً في خاصرة حزب الله الذي قد يندم يوما على تورطه في محاربة الثورة السورية بعد أن يكتشف أن هذه الثورة سوف تنتقم منه شر انتقام في المستقبل.
إن الوفاق الروسي الأمريكي حول مؤتمر جنيف 2، لن يصل إلى درجة تخلي روسيا عن دعم بشار الأسد وحتى ولو افترضنا نظرياً أن روسيا ستحاول الضغط على طفلها المدلل لأجل التخلي عن السلطة؛ فبشار الأسد لن يقبل ذلك. صحيح أنه الطفل المدلل لروسيا ولكنه ليس طفلاً مطيعاً دائماً بل هو طفل مشاكس أحياناً ويعلم تماماً أن روسيا لن تتخلى عنه بعد تورطها الطويل في دعمه. فحتى لو حاولت موسكو إقناع الأسد بالتخلي عن السلطة لصالح رئيس انتقالي مقبول من قبله ومن قبل الثوار، فالرئيس السوري سيراوغ ويتمسك بكرسي الحكم وسيحاول رفض تنفيذ أوامر موسكو في هذا الأمر.
الحقيقة الرابعة: تعقيد وخطورة الأزمة السورية
إن ملفات الأزمة السورية معقدة جداً كماً ذكرتُ، وتداعياتها سوف تزداد سوءاً يوماً بعد يوم. والتداعيات المتوقعة سوف تظهر كما أرى، في تطورات أحداث طرابلس في لبنان والتي هي مرشحة لأن تشهد صدامات دموية بين العلويين والسنة. وليس من المستبعد أيضاً أن تشهد ضاحية بيروت الجنوبية ومناطق أخرى في جنوب لبنان والبُقاع، بعض العمليات الانتقامية من حزب الله. ومن ضمن تداعيات الأزمة السورية أيضا، زيادة أعمال العنف بين السنة والشيعة في العراق والبحرين وغيرهما. ومن يدري فقد يؤدي الأمر أيضا إلى توتر سياسي وعسكري فعلي للعلاقات بين تركيا وباكستان وبعض دول الخليج العربي من طرف، وبين إيران من طرف آخر. وقد تجد إيران نفسها في مواجهة مجموعات جهادية إنتحارية تعبر حدودها من باكستان وتركيا والعراق ومناطق أخرى وهو الأمر الذي سيضاعف من حجم الانقسام السني الشيعي ويرفعه إلى درجة خطيرة ليس من مصلحة المنطقة والعالم الإسلامي كله الدخول فيها. وفي ضوء شعور المعارضة السورية بالإحباط نتيجة تخلي العالم عنها، فإن أسوأ تداعيات الأزمة السورية سوف يتمثل في انتشار روح التطرف والعنف بين فئات واسعة من أبناء الشعب السوري، وانضمامهم إلى صفوف الجماعات الجهادية. فمن شأن الغريق أن يفعل أي شيء وأن يحاول التمسك ولو بقشة صغيرة لكي ينقذ نفسه. وقد تصبح سوريا فعلا هي أفغانستان الشرق الأوسط. والثوار السوريون الحقيقيون أصبحوا يحقدون الآن حقدا كبيرا على روسيا وإيران وحزب الله وإسرائيل وحتى أمريكا. فروسيا وإيران وحزب الله يدعمون النظام بكل ما يحتاج إليه سياسياً واقتصادياً وإعلامياً وعسكرياً، وإسرائيل كما تعتقد المعارضة السورية قد أخبرت واشنطن سراً بأنها تفضل استمرار النظام السوري على الفوضى التي ستلي انهيار هذا النظام. فالمعارضة السورية تعتقد أن النظام السوري هو بمثابة فيروس قاتل للشعب السوري وأن روسيا وإيران وحزب الله يدعمون هذا الفيروس وينمونه. وأما أمريكا وهي الدولة الوحيدة في العالم التي تملك اللقاح المناسب للقضاء على هذا الفيروس، فإنها مازالت تمتنع عن تقديمه للشعب السوري. وكما ذكرت سابقاً فإن الأزمة السورية تشمل الآن صداماً مسلحاً بداخل سوريا وصراعاً إقليمياً سنياً شيعياً على سوريا، وتشمل أخيراً إصراراً روسياً على الاحتفاظ بهيمنتها على سوريا وعدم اكتراث أمريكا وأوربا حتى الآن بتحدي أو بمنافسة روسيا في هذه الهيمنة.
وقد تكون هناك تداعيات للأزمة السورية على صعيد عالمي، بسبب غضب الجمهوريين الصقور في أمريكا من عودة روسيا، من خلال نافذة الأزمة السورية، لمشاركة أمريكا في قيادة العالم وذلك بعد مرور أكثر من عقدين على انهيار الاتحاد السوفيتي السابق وانفراد أمريكا بقيادة العالم في ظل فترة عُرفت بأحادية السيطرة الأمريكية على العالم. ويوجه الصقور الجمهوريون الآن أشد الانتقادات لموقف الرئيس أوباما في الأزمة السورية. وفي مسألة علاقة أمريكا بإيران ويحاولون من خلال الكونغرس الأمريكي زيادة فرض العقوبات عليها بينما يعدها البيت الأبيض بتخفيف هذه العقوبات عنها. ولعل من المهم التوضيح أنه خلال الفترة الرئاسية الأولى للرؤساء الأمريكيين، فإن هاجسهم السياسي الأول إضافة إلى بعض المنجزات هو النجاح في انتخابات الفترة الرئاسية الثانية، وخلال فترتهم الرئاسية الثانية يصبح هاجسهم السياسي الأول هو تدعيم موقف الحزب الذي ينتمون إليه والتفكير في سؤال: كيف سيدخلون تاريخ الرؤساء الأمريكيين؟ وعلى الرغم من أهمية التوافق الأمريكي الروسي الحالي، والفرح به من واشنطن وموسكو، فقد تبدأ مسألة عودة روسيا للمشاركة مع أمريكا بقيادة العالم تسبب القلق للرئيس أوباما بسبب هاجس سؤال: كيف سيدخل تاريخ رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية؟ فهذا التاريخ سوف يسجل أن الرئيس كندي قد أجبر الكرملين على سحب الصواريخ السوفياتية من كوبا وأن الرئيس رونالد ريغن أخرج الاتحاد السوفيتي السابق من نطاق الشراكة الدولية لأمريكا في قيادة العالم، وسوف يسجل أيضاً تاريخ الرؤساء الأمريكيين أن الرئيس باراك أوباما قد أعاد روسيا وريثة الاتحاد السوفيتي إلى نطاق المشاركة هذه بل وجعلها أكثر أهمية وقيادة من أمريكا فيما يتعلق بالأزمة السورية. هل سيدفع هذا الهاجس الرئيس أوباما إلى اتخاذ موقف أكثر تشدداً في الأزمة السورية في مواجهة روسيا وإيران وحزب الله والنظام السوري؟ لا أحد يعرف إجابة هذا السؤال بشكل صحيح. أم هل يرغب الرئيس أوباما أن يدخل تاريخ الرؤساء الأمريكيين بوصفه الرئيس السلمي الذي أنهى حرب العراق وأفغانستان وعمل على إحلال فترة سلام عالمية؟ ولكن حتى في هذه الحالة فأين هو السلام في العالم وعدد قتلى الأزمة السورية يزداد يومياً والنتائج الوخيمة للانقسام السني الشيعي سوف تتفاقم يوماً بعد يوم؟ وستترك آثاراً سلبية على مصالح أمريكا في المنطقة وفي العالم الإسلامي كله.
وما يمكن قوله أخيراً هو أنه ليس هناك من حل قريب أو نهاية واضحة يمكن توقعها للأزمة السورية والتي مازالت تمر في نفق طويل مظلم دون أي نور يظهر في نهاية هذا النفق. وسيبقى لسان حال الشعب السوري يقول: كم من السوريين سيموتون قبل أن يعرف أصحاب الضمائر الحرة في العالم أن هناك شعباً يُقتل في سوريا؟ وإلى متى ستبقى قنابل الأسد تنهمر على الشعب السوري وتدمر منازله وقراه؟ وكم من دبابة وصاروخ وطائرة ستقدمها روسيا للنظام السوري لكي يقتل بها شعبه؟ وكم من جندي سوف ترسل إيران وحزب الله وغيرهم إلى النظام السوري لكي يساعدوه في قتل شعبه؟ وكم من مرة سوف تُغمض وتُغلق واشنطن ولندن وباريس أعينها وآدانها وكأنها لا ترى أو لا تسمع عن أعمال القتل في سوريا؟ كم… وكم… وكم؟ التساؤلات صحيحة ومفهومة ولكن من يسمعها؟ ومن يجيب عليها؟
محلل سياسي سعودي
ايلاف