أردوغان وغولن: حرب علنية على خصم خفي
مركز الجزيرة للدراسات
ملخص
عرفت الأزمة بين رئيس الوزراء التركي طيب رجب أردوغان وجماعة فتح الله غولن تصعيدًا جديدًا، فمن جهة كشفت الحكومة عن عملية تنصت واسعة قامت بها عناصر في الدولة محسوبة على جماعة غولن، ومن جهة أخرى تضمنت هذه التسجيلات ما قيل إنه مكالمة تشير إلى تورط أردوغان وعائلته في قضايا فساد، وقد كانت عناصر في الدولة محسوبة على جماعة غولن نجحت في إرباك حكومة أردوغان بإسقاط عدد من وزرائه مستهم تهم فساد.
تراهن جماعة غولن بهذه التهمة على إضعاف أردوغان سياسيًا من خلال الطعن في الصورة التي شكّلها في السابق في ذهن الناخبين الأتراك كمثال على نظافة اليد، فكان رد أردوغان بتكذيب هذه التهم واعتبارها غير أخلاقية. فالصراع بين الطرفين يدور حول القيمة الأخلاقية لكل منهما؛ فجماعة غولن تراهن على اتهام أردوغان بالفساد، فيرد عليها باتهامها بالكذب.
المقدمة
تندرج المواجهة بين أردوغان وغولن في سياق تقليد صاغ الدولة التركية الحديثة وهو الصراع الذي يكون أساسًا داخل الدولة؛ فمن قبل كان بين الجيش والكماليين من جهة في مواجهة الحركة الإسلامية وجماعة غولن من جهة ثانية، وقد تمكنت الجهة الثانية من التغلب على الأولى، ثم اندلع صراع جديد داخل الدولة بين حلفاء الأمس، أردوغان وغولن، للسيطرة على مقاليد الدولة التركية؛ فمن جهة تستعمل جماعة غولن نفوذها في القضاء والشرطة للتصدي لأردوغان فيرد عليها باستعمال السلطة التنفيذية والتشريعية للحد من حركتها.
سلاح التنصت
خلال ثمان وأربعين ساعة، بين 24 و25 فبراير/شباط 2014، عاش الأتراك تطورًا سياسيًا لم يشهدوا مثله منذ سنوات طويلة؛ ففي صباح اليوم الأول، صدرت صحيفتا ستار ويني شفق، المؤيدتان لحكومة رجب طيب أردوغان، بقصة متشابهة على صدر صفحتيهما الأوليين، توضح حجم عملية تنصت هائلة، أُجريت منذ سنوات بأمر من وكيلي نيابة يتبعان لمكتب نيابة إسطنبول، لآلاف من السياسيين ورجال الأعمال والصحفيين والباحثين والأكاديميين. في مساء اليوم التالي، جاء رد الجهات المتَّهمة بالوقوف خلف عملية التنصت بنشر ما بدا أنه اتصالات هاتفية بين رئيس الحكومة، رجب طيب أردوغان، وابنه بلال، في 17 ديسمبر/كانون الأول 2013، يأمر فيها رئيس الوزراء ابنه بالتخلص من أموال في منزله.
وكيلا النيابة، آدم أوزجان وعدنان تشيمن، اللذان يُعتَقَد بأنهما من أمر بعملية التنصت الواسعة واحتفظا بأشرطتها، أنكرا رواية صحيفتي ستار ويني شفق، كما قام حزب العدالة والتنمية، ووزراء في الحكومة، ثم أردوغان نفسه، بإنكار حقيقة المكالمات الهاتفية، واتهما جهات “إجرامية” بتعهد عملية مونتاج لتقويض سلطة رئيس الوزراء وتشتيت الانتباه عن فضيحة التسجيلات المذهلة.
سلطة السراديب
يقول التقريران اللذان نشرتهما صحيفتا ستار ويني شفق، باختلافات طفيفة بينهما: إن وكيلاً لنيابة إسطنبول استصدر أوامر قضائية في أوقات مختلفة، منذ 2011، للتنصت على هواتف خاصة ومتابعة الإشارات الإلكترونية ووضع أجهزة تنصت في مقار 2500، في رواية، و7000، في رواية أخرى، من رجال الدولة والحكم، السياسيين من كافة التوجهات: رجال أعمال من أنحاء البلاد المختلفة، ومدراء بنوك، وباحثين ومثقفين وأكاديميين وصحافيين وشخصيات عامة. بين من تم التنصت عليهم رئيس الحكومة شخصيًا، رئيس الجمهورية، رئيس البرلمان، رئيس جهاز الاستخبارات، وعشرات من مساعديهم. أُجريت العملية بغطاء من تحقيقات حول منظمة إرهابية وهمية، باسم “سلام”، وشملت ملفاتها ليس أحاديث المستهدفين العامة والسياسية وحسب، بل والشخصية كذلك. ويبدو أن حصيلة عملية التنصت هذه قد أُرشِفت ليس في مكاتب نيابة إسطنبول فقط، بل وسُلّمت لجهات أخرى، غير محددة.
في ديسمبر/كانون الأول الماضي 2013، عندما أُعلنت أول قضية فساد من قبل وكلاء نيابة آخرين في إسطنبول، سلّم وكيل النيابة الأول ملفات التحقيق والتنصت التي جمعها منذ 2011 لوكيل نيابة ثان، من المجموعة التي تتابع قضية الفساد، بالرغم من عدم وجود علاقة أصلية بين القضيتين. وقد أشارت الصحيفتان إلى أن حجم عملية التنصت وأرشفة تقاريرها، كُشف من قبل وكلاء نيابة جدد، كانوا قد عُيّنوا خلال الأسابيع الماضية بأمر من رئيس نيابة إسطنبول، لتسلم القضايا المذكورة، بعد إبعاد وكلاء النيابة السابقين المثيرين للجدل عن تلك القضايا.
رفع التقريران مستوى التوتر السياسي في البلاد، سيما أن رئيس الحكومة كان قد أشار في أكثر من مناسبة من قبل إلى أنه كان هدفًا لعملية تنصت من مجموعات “إجرامية لدولة موازية داخل الدولة”. لم يذكر أي من أطراف الجدل، الذي اندلع في الدوائر السياسية والإعلامية والقضائية، صراحة من المقصود بهذه الجماعات، ولكن الجميع يعرف أن وكلاء النيابة محل الاشتباه من الموالين لجماعة فتح الله غولن، التي تخوض معركة ضد أردوغان وحكومته. أصدر وكيلا النيابة المقصودان: آدم أوزجان وعدنان تشيمن، في اليوم التالي بيانًا أنكرا فيه صحة تقريري ستار ويني شفق، ولكنهما لم ينكرا أصل عملية التنصت، وطالبا المجلس الأعلى للقضاة ووكلاء النيابة، بفتح تحقيق حول المسألة؛ وهذا ما استجاب له المجلس بالفعل. ولكن، ما كاد المجلس يعلن الشروع في عملية التحقيق في القضية حتى كان رئيس نيابة إسطنبول، هادي صالح أوغلو، يُصدر بيانًا (25 فبراير/شباط)، في واحدة من الحالات النادرة، أشار فيه السيد إلى أن عملية تنصت (فيزيائي وإلكتروني) واسعة النطاق قد أُجريت بالفعل من قبل مكتب يتبع لنيابة إسطنبول، بدون مبرر مقنع، وأن هذه العملية استمرت لأكثر من ثلاث سنوات، بدون توفر مؤشرات ملموسة على وجود تنظيم إرهابي مسلح (وهو المبرر الذي فُتح ملف التحقيق بشأنه). كما اعترف رئيس نيابة إسطنبول، الذي من الواضح أن وكلاء النيابة المشتبه بقيامهم بعملية التنصت لم يبلغوه بالعملية ولا التحقيقات، بوجود ملفات لعملية التنصت، تشمل أحاديث خاصة وعامة للأشخاص الذين تم استهدافهم. لم يذكر صالح أوغلو عدد من تم استهدافهم، ولا هويتهم، ولكنه وعد ببدء تحقيق في الأمر، وذكر أنه أصدر أمرًا برفع ملفات التنصت من الشبكة الأرشيفية لوكلاء النيابة.
حرب اليوتيوب
لم تكد الساحة السياسية التركية تستفيق من دوي قضية التنصت، حتى نشر مجهولون مساء اليوم نفسه على موقع التواصل الاجتماعي يوتيوب تسجيلات، مؤرخة وبتحديد زمني محدد، لأربع مكالمات، يفترض أن رئيس الوزراء أردوغان أجراها مع ابنه بلال يوم 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي 2013، يأمره فيها بالاجتماع بشقيقه وعمه والتخلص من أموال في بيت الابن. 17 ديسمبر/كانون الأول هو اليوم الذي أُطلقت فيه قضية الفساد الأولى في إسطنبول، بأمر من وكيل النيابة زكريا أوز، المعروف بانتمائه لجماعة غولن، والتي اعتبرها أردوغان بداية “المؤامرة” على حكومته وحزبه واستقرار البلاد السياسي والاقتصادي. ما أرادت المكالمات المسربة قوله: إن رئيس الحكومة تحرك مذعورًا في ذلك اليوم، ليأمر ابنه بالتخلص من أموال مشبوهة المصدر.
تفاعلت مسألة المكالمات في اليوم التالي بصورة غير مسبوقة؛ فبالرغم من إعلان مكتب أردوغان أن المكالمات لم تحدث، وأنها مفبركة تكنولوجيًا من قبل خصومه، تبنّى حزبا المعارضة: الشعب الجمهوري والحركة القومية، المسألة وطالبا باستقالة رئيس الوزراء وحكومته. ولكن أردوغان لم يتراجع، وفي كلمة لمجموعة حزبه البرلمانية مساء 25 فبراير/شباط، تحدث عن جماعات تستهدف استقلال البلاد وإرادة الشعب الانتخابية، واتهم أحزاب المعارضة بمحاولة القفز على السلطة، التي فشلوا في الحصول عليها بصناديق الاقتراع.
يقدم أنصار رئيس الوزراء التركي عدة طعون على المكالمة فيقولون بأنه كان يتحدث لابنه من العاصمة أنقرة، بينما الحقيقة أن أردوغان قضى ذلك اليوم في قونية. كما أن التوقيتات المسجلة على أشرطة تسجيل المكالمات تتزامن بالدقيقة مع إلقاء أردوغان لكلمة جماهيرية في قونية، أو لاجتماع عقده مع رئيس وزراء لبنان السابق نجيب ميقاتي في المدينة، أو للحظة توديعه من قبل شخصيات الحزب وقيادات المدينة. لكن لم يفصل لحد الآن أي تحقيق قضائي في صحة التصريحات المنسوبة لرئيس الوزراء التركي في التسجيل.
خلال ساعات من نشر المكالمات، قام أنصار أردوغان بنشر تسجيل لأشخاص مجهولين، يناقشون جودة العمل الذي أجروه ليخرج في صيغة مكالمات لرئيس الحكومة وابنه، كما نشروا تسجيلات، تم تزييفها بالأساليب التقنية ذاتها، لكل من رئيس الحزب القومي ورئيس حزب الشعب الجمهوري، يمتدح الأول فيها رئيس حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، ويمتدح فيها الثاني طيب رجب أردوغان، وكلاهما غير معقولين أصلاً.
استقطاب متزايد
لا يشك كثيرون في تركيا أن معركة التنصت وتسريب الأشرطة المتصاعدة ليست سوى مظهر للصراع المحتدم بين حكومة حزب العدالة والتنمية وجماعة غولن، بالغة النفوذ والتغلغل في مؤسسات الشرطة والنيابة والقضاء والأعمال. في ديسمبر/ كانون الأول الماضي 2013، عندما أطلق وكلاء نيابة موالون للجماعة قضيتي فساد متتاليتين، استهدفتا رجال أعمال وشخصيات مقربين من حكومة أردوغان، ووزراء في الحكومة وأبناءهم، ظن البعض أن الصراع بين الطرفين وصل ذروته. ما يتضح الآن أن لهذا الصراع أكثر من جولة، وأنه يتجاوز مع مرور الوقت كل حاجز أخلاقي يُفتَرَض أن يحكم عملية التدافع السياسي في النظام الديمقراطي.
طبقًا لرواية تاريخ صعود حزب العدالة والتنمية الشائعة، صعد الحزب للحكم في 2002 بتأييد من جماعة غولن، ولكن الجماعة، ذات التوجه الإسلامي المحافظ، التي أعلنت دائمًا أنها لا ترغب في خوض غمار السياسة، أصبحت أكثر قوة ونفوذًا خلال سنوات الحرية وعدم الملاحقة، التي تمتعت بها في ظل حكم العدالة والتنمية.
مهما كان الأمر، فقد كان بيان جماعة غولن الرفض لموقف أردوغان في قضية أسطول الحرية الذي اعتدت عليه إسرائيل في مايو/أيار 2010، أول مؤشر على اضطراب العلاقة بين الجماعة والحزب الحاكم، ثم جاءت حادثة رئيس جهاز الاستخبارات في 7 فبراير/شباط 2012، الذي استُدعِي للشهادة من قبل وكيل نيابة ينتمي للجماعة، وفي غيبة رئيس الوزراء، لتشير إلى اتساع المسافة بين الطرفين. في خريف العام الماضي، وبعد إعلان الحكومة عن رغبتها في التحكم في مدارس نهاية الأسبوع، التي تسيطر الجماعة على القطاع الأكبر منها، احتدم الخلاف بين الجماعة والحكومة وظهر واضحًا للعلن.
تعتقد أوساط العدالة والتنمية أن قضيتي الفساد في ديسمبر/كانون الأول 2013 ليستا سوى رد الجماعة على قرار إصلاح المدارس، وسعيها إلى إسقاط أردوغان نهائيًا، تمهيدًا لعقد صفقة مع العدالة والتنمية الأضعف، أو حتى الإطاحة بالحزب من الحكم وتمهيد الطريق لتولي تحالف من حزبي الشعب الجمهوري والقومي، إضافة لحزب جديد تؤسسه الجماعة، الحكم. وقد نشر أنصار أردوغان، الذين أوضحوا أنهم أيضًا يستطيعون التنصت على الخصوم، شريطًا لواحد من أكبر رجال أعمال الجماعة، يتحدث فيه بوضوح حول مخطط إسقاط الحكومة والدعوة لانتخابات برلمانية مبكرة. لكن جماعة غولن تنفي رغبتها تشكيل حزب سياسي وتتمسك بالعمل التربوي والاجتماعي، وترى في إجراءات أردوغان، خاصة وضع يده على مدارسها، تضييقا عليها بل سعيا للقضاء عليها لأنها ترفض أسلوبه “التسلطي”.
تصرف أردوغان منذ ديسمبر/كانون الأول 2013 على أساس أن حكومته تخوض حربًا فعلية لبسط سلطته على الدولة. وبمجرد إعلانه عن تعديل حكومته الواسع في يناير/كانون الثاني 2014، أعطى وزير داخليته الجديد، أفغان علاء، حرية كاملة في إخلاء الوزارة ودوائر الشرطة وجهاز المباحث الداخلي التابع لها، من أنصار الجماعة. كما قامت وزارات أخرى، مثل: التعليم والمالية، بإجراءات مشابهة، بالرغم من أن نفوذ الجماعة فيها لم يكن في مستوى نفوذها في الداخلية. وفي الوقت نفسه، تقدمت الحكومة بتعديل لقانون مجلس القضاء ووكلاء النيابة، يعطي لوزير العدل دورًا أكبر في أعمال المجلس. مُرِّر القانون في البرلمان بالفعل، وأصبح نافذًا منذ تصديق رئيس الجمهورية عليه في 26 فبراير/شباط.
مثل هذه الخطوات، إضافة إلى قيام رئيس نيابة إسطنبول باستبعاد وكلاء النيابة الذين تدور حولهم شبهات الانتماء للجماعة من مواقعهم إلى مواقع أقل إثارة للجدل، وجهت ضربات بالغة للجماعة ونفوذها، الذي بنته بأناة ومثابرة في أجهزة الدولة. وهذا ربما هو السبب الرئيس خلف التصعيد في الصراع مع الحكومة ورئيسها، الذي لا يبدو أن تركيا شهدت نهايته بعد.
أوقات عصيبة
يجري هذا الصراع الداخلي بينما تواجه الحكومة التركية ظرفًا صعبًا داخليًا وخارجيًا يضع قدرة رئيس الوزراء أردوغان في الحكم على المحك، فداخليًا عرفت البلاد خلال العام الفائت احتجاجات كبيرة، كان ميدان تقسيم، بؤرتها الرئيسية، وتعاني بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية والأزمة الراهنة تراجعًا اقتصاديًا، أما خارجيًا فعلاقاتها بجوارها صعبة جدًا، مع العراق وسوريا ومع مصر، ومع إيران بسب الخلاف حول سوريا، وتواجه استقطابًا في شمالها بسبب النزاع الغربي-الروسي على أوكرانيا حاليا، وتكاد نافذة تحركها تنحصر في علاقتها بأوروبا. هذه القيود على حركة رئيس الوزراء تتزامن مع خوضه مواعيد سياسية مهمة، هي: الانتخابات المحلية خلال الشهر الجاري، ثم تعقبها الانتخابات الرئاسية.
والحاصل أن الانتخابات المحلية ستكون بمثابة احتكام أردوغان للناخبين في مواجهة خصومه الداخليين بشكل أساسي، لأن أولويته الحالية هي الشأن الداخلي حتى يرسخ حكمه ثم يستند إلى هذه الشرعية إن حصل عليها في التعامل مع الخارج. يراهن على أن فوزه بهذه الانتخابات خاصة في إسطنبول وأنقرة استفتاء على بقائه في السلطة بشكل من الأشكال إما كرئيس وزراء إذا وافق حزبه أو كرئيس جمهورية بصلاحيات موسعة إذا وقع تعديل دستوري.
هذه الانتخابات ليست محسومة النتائج ولو بشكل نسبي؛ فهي تجري أولاً في سياق اقتصادي صعب بعد تراجع العملة التركية وسخط عدد كبير من رجال الأعمال من جو الاستقطاب الراهن الذي يضر بالأعمال، علاوة على أن نسب النمو المتوقعة في تركيا متدنية عن الأعوام السابقة بشكل لافت. علمًا بأن الورقة الرئيسية التي جعلت حزب العدالة شعبيًا هي ورقة النجاح الاقتصادي.
تلتقي احتجاجات تقسيم وسخط جماعة غولن في رفضهما لما يسمونه الطابع التسلطي لرئيس الوزراء، وقد يتحول هذا الرفض إلى حراك سياسي يسعى في المقام الأول إلى منعه من البقاء في السلطة.
ومن جهة أخرى، فإن الإجراءات التي يقوم بها أردوغان لمواجهة جماعة غولن تمس -حسب عدة أطراف تركية داخلية وخارجية- بمبدأ الفصل بين السلطات، لأن الجهاز التنفيذي بات أقوى من القضاء ويقيد حرية التعبير تحت عدة حجج، وقد أقلق كل ذلك الدول الأوروبية فطالبت أردوغان باحترام معايير الانضمام لأوروبا، وهنا تبدو المفارقة، لأن حلم الانضمام لأوروبا ساهم بشكل كبير في الإصلاحات التي عرفتها تركيا وساهم أيضًا في وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة، وشكّل محفزًا قويًا للأتراك، علاوة على أن أوروبا هي الشريك الرئيس لتركيا، ولن يقبل غالبية الأتراك بأن يبتعدوا عن أوروبا أو بتدهور اقتصادهم نتيجة ذلك. كل ذلك يجعل الانتخابات المحلية فرصة أردوغان لتأكيد شرعيته وصحة سياساته.
انتخابات حاسمة
في الثلاثين من مارس/آذار 2014 يذهب الأتراك للانتخابات المحلية. هذه هي الانتخابات المحلية الثالثة التي يخوضها حزب العدالة والتنمية منذ تأسيسه في 2001 وفوزه في الانتخابات البرلمانية وصعوده لسدة الحكم في 2002. ولكن بالرغم من أن هذه ليست سوى انتخابات محلية، فإنها انتخابات بالغة الدلالة، لأنها تجري في ظرف قد يجعلها الانتخابات المحلية الأكثر أهمية في تاريخ تركيا:
أولاً: لأنها ستوضح ما إن كان حزب العدالة والتنمية لم يزل، بعد أكثر من عشر سنوات في الحكم، يتمتع بالشعبية التي تؤهله للاستمرار في قيادة البلاد. في الانتخابات المحلية السابقة، في 2010، فاز الحزب بـ 38.8 بالمائة من الأصوات، وهي أقل من نسبة الأصوات التي حصل عليها في الانتخابات البرلمانية التي سبقتها في 2007، نظرًا للاعتبارات المحلية الخاصة التي تجعلها تختلف عادة عن الانتخابات البرلمانية. وسيكون من المهم رؤية ما إن كان العدالة والتنمية سيحافظ على نسبة الأصوات التي حققها في 2010، أو أنه سيحصل على ما هو أقل أو أكثر منها.
ثانيًا: أن هذه الانتخابات مؤشر مهم على مستقبل رئيس العدالة والتنمية ورئيس الحكومة القوي، رجب طيب أردوغان. ولاية أردوغان الحالية، وهي الثالثة له، هي الأخيرة في رئاسة الحكومة، نظرًا لقوانين حزبه الداخلية التي تمنع نائبًا من الاستمرار في المنافسة على مقعد برلماني لأكثر من ثلاث دورات متتالية. المتوقع، أن يترك أردوغان موقعه في رئاسة الحكومة قبل الانتخابات البرلمانية المقررة في 2015، وأن يدخل المنافسة على رئاسة الجمهورية في الصيف المقبل. وفي حال أظهرت الانتخابات المحلية تراجعًا ملموسًا في حظوظ العدالة والتنمية، فستترك هذه الانتخابات ظلالاً ثقيلة من الشك حول مستقبل أردوغان.
تأرجح المستقبل
والحاصل أن هناك احتمالات نتيجة العوامل المحيطة بالانتخابات:
فإما أن يفوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات فوزًا ساحقًا فيسترد أردوغان المبادرة داخل حزبه ويعزز سلطته ببقائه على رأس الجهاز التنفيذي بشكل من الأشكال.
أو أن يفوز بالانتخابات لكن بنتيجة أضعف من السابق، مع خسارة إما أنقرة أو إسطنبول، فيكون بمثابة إنذار لحزب العدالة والتنمية، قد يجعله يقيد من حركة رئيس الوزراء، ويغض النظر نهائيًا عن بقائه في السلطة مستقبلاً من أجل إنقاذ الحزب. وهناك سيناريو جزئي داخل هذا السيناريو وهو أن يتمسك أردوغان ببقائه، فيتصدع الحزب بين موالين ومعارضين.
السيناريو الثالث: أن ينهزم الحزب في الانتخابات المحلية، فيترك رئيس الوزراء أردوغان العمل السياسي كما وعد بذلك.
لكن في مختلف الأحوال، ستظل الدولة التركية تعاني من هذه الصراع بداخلها، فيجعلها تركز على الشؤون الداخلية وتنصرف عن مواجهة التهديدات الخارجية المحيطة بها، لكن هذا الوضع لن تستطيع تركيا تحمله، لأن التهديدات الخارجية متزايدة وتغذي التهديدات الداخلية من خلال الورقة التركية، فيكون من مصلحة كثير من القوى التركية إنهاء هذا الصراع بطريقتين، إما أن ينتصر أردوغان نصرًا نهائيًا لكنه قد يكون نصرًا تدفع تركيا تكلفته من انتهاك معايير الإنضمام إلى أوروبا، أو قد يتمكن حزب العدالة والتنمية من التوصل إلى تسوية مع جماعة غولن تؤدي إلى تصالح يضمن مصالح الطرفين، كما فعلا من قبل لما استعان أردوغان بالقضاة المحسوبين على غولن للقضاء على قيادة الجيش والكماليين المناهضين له بأجهزة الدولة.