أرشيف أمي/ مها حسن
“أتعتقد حقاً، أنه سيعلّق في يوم ما، على هذا المنزل، قطعة من رخام كُتب عليها، في هذا المنزل، في 24 تموز 1895، كُشف سر الحلم للدكتور سيغموند فرويد” – من رسائل فرويد إلى فليس.
ورد السطران أعلاه في هامش في روايتي “تراتيل العدم”، ودغدغت أحلامي عبارة “في هذا المنزل”، كما ربّما الكثير من الكتّاب الذين يحلمون أن يعود القرّاء إلى منازلهم الأولى، لاكتشاف منابع الإلهام.
عدا على أنني كنت منهمكة بزيارة بيوت الكتّاب والشعراء والفنانين، في البلاد التي تتاح لي زيارتها. كنت أحب التفرّج والتدقيق في الزوايا التي كان يكتب فيها الكتاب، وقد هممت بفكرة بيوت الكتابة ولا أزال.
لهذا كانت علاقتي مع بيت أهلي دائماً استثنائية، فبيت أهلي ليس أجمل بيت في العالم من الناحية الموضوعية، كما أن أمي ليست أعظم امرأة في العالم، موضوعياً. ولكن بما أنها أمي، فهي كذلك بالنسبة لي، لأنها أمي أنا، وليست أم أحد آخر من العالم، وبيت أهلي تنطبق عليه القاعدة ذاتها، فيصبح بيت الأهل، أعظم بيت في العالم. هذا البيت الذي نعتقد أننا ننساه، فيظهر لنا بصيغ متعددة، وفي ظروف مختلفة، كما حصل لبروست في قطعة المادلين حين ظهر البيت من طعم قطعة الحلوى تلك، في روايته عن الزمن الضائع، زمن البيت الأول.
إلا أنني لن أتحدّث عن علاقتي ببيت أهلي، أو بيت الطفولة، حيث اكتشفت الكتابة، وخربشت أحلامي على الجدران، بل سأتحدث عن بيت الأم. عن علاقة أمي ببيتها، تلك العلاقة التي تكاد تكون غراماً وجودياً من نوع مختلف، غرام يؤدي فقدانه إلى القتل وفقدان العلاقة مع الحياة.
***********
كانت أمي امرأة موغلة في التفاصيل. حين كانت تزور أحداً، تعود لتصف لنا كروائية تهتم بمعالم الأشياء بقوة: نوع أغطية الكنبة، لون مخدات الصالون، لون السجادة، مفرش الطاولة، المزهرية، اللوحات.
في بيتها، تحتفظ أمي ببقج سرية، تتشاجر معنا نحن البنات من أجلها، حين نفتح البقج في غيابها، ونشهق مكتشفات ملابس أمي في صباها: أثواب مزركشة بالخيوط اللامعة، خيوط ذهبية، فضية، قماش مرشوش بما يشبه الثلج الملون اللمّاع. أثواب قصيرة دون أكمام، نحاول سرقتها من أمي، وإعادة تدويرها، لنرتديها.
كانت أمي تكتشف بسرعة ما إن تُفتح البقج. تنادينا لاستجوابنا: مين فتح السكرتون؟ كانت لها تقنيتها في إغلاق البقجة، بدقّة نعجز عن اتّباعها. كانت تخرج من الغرفة، تصل إلى العتبة، ثم تعود إذ تكتشف أن تطبيقة الفرش غير متوازنة، تعود لسحب البطانية أو اللحاف، وإعادة طيهما، كأنها تطوي ورقة، يجب أن تكون كل الزوايا متطابقة، من دون بروز أي طبقة أو ميلانها عن الأخرى، كأنها تمسك مسطرة في رأسها، تسوّي الأغطية وفق طيّ واحد.
في خزائن أمي المحرّمة علينا، نهرع للتفرج حين تضطر لفتحها أمامنا، إرث عالق منذ سنوات. ثمة “ديارتي”*، تلك الملابس التي خاطها أبي بيده، على ماكينة السينجر، قبل ولادتي. هناك “قنداق”** أختي، الذي كانت أمي تلفّها بها وهي وليدة الأيام والشهور، إذ كانوا يلفّون الطفل كقطعة سكر، لتبقى أعضاؤه مشدودة. تقول أمي إنها ستنقل ملكية هذه الأشياء، لأولادنا.
أما غسالة أمي الأتوماتيك، البنكوان، فتكاد تشكّل فصلاً روائياً مهماً في تاريخ البيت. حيث اشترتها بالتواطؤ معي، من دون موافقة أبي، الذي كان يؤمن بأن المرأة خُلقت للعمل المجُهِد، كأمه وجداته. ويرفض أن تتعامل أمي مع الحياة بترف السيدات الحديثات. غسالة البنكوان تلك، كانت أحد أهم الصروح في بيت أمي، التي تجعلها ترفض مغادرة البيت في الحرب. “وغسّالتي؟”، كانت تقول متسائلة، فأقول لها، إن المهم حياتها لا الغسالة، وكانت تهز رأسها رافضة: أموت هنا ولا أترك بيتي!
كانت أمي في القرية في الصيف الفائت، تود قطع الحدود من عفرين إلى تركيا. حين اتصل بها جارنا وأخبرها أن ثمة من كسر قفل الباب، وأن باب البيت مشرّع. قطعت أمي التي أكاد أؤمن أنها محمّلة بطاقة سحرية، حيث تلهث وتتوقف عشرات المرات قبل الوصول من الغرفة إلى المطبخ، قطعت الطريق الطويل المحتشد بالحواجز، من القرية لتعود إلى البيت في حلب؛ “تصوري الباب مفتوح يا بنتي!”، عادت أمي لتستدعي من يركّب لها القفل، وتؤمن من جديد على أرشيفها الخاص.
العربة الزجاجية من الكريستال الشفاف، التي يجلس فيها صبي وبنت، وكنا في صغرنا، نصدق أن راكبي العربة هما أنا وأخي، الصينية الفضية التي جلبتها جدتي من الحج، المملحة الزجاجية البيضاء التي اشتراها عمي، وأغراض كثيرة أنساها، تعني لأمي تواريخ وأحداثاً.
عليّ ألا أنسى البنطال الجلدي الأحمر، الذي أحضره عمها من ألمانيا، قبل أربعين سنة، وكنت أرتديه في صغري، و”بربطوز”*** أختي، الذي كانت ترتديه وهي في السنتين من عمرها. لكل قطعة من البيت حكاية وتاريخ.
أما جدار غرفة الجلوس، الذي كان لغة الحوار السرية مع أم هوزان، حين نسمع الخبط عليه، ولم يكن لدينا هواتف أرضية آنذاك، تهرع أمي إلى الصالون، تمد رأسها من تلك الطاقة المطلة على ممر أم هوزان، ابنة الشاعر المعروف جيكرخوين، ليبدأ الحوار.
نافذة المطبخ، تطل على ممر أم توفيق من الجهة المعاكسة لبيت أم هوزان، هناك يدور حديث آخر بين أمي والجارات المتعاقبات في السكن، حيث تؤجّر أم توفيق غرف الطابق السفلي.
من ذلك الممر الطويل، المؤدي إلى الحمام، من المطبخ، انبثقت أشباح الخوف. كانت الإضاءة ضعيفة جداً في الممر. وكانت أختي تصرّ أنها رأت دباً في الممر، وكنت أسمع أصواتاً تناديني في الليل، حين أذهب وحدي إلى المرحاض.
حين أجرى أبي تعديلاً على الممر. ألغاه وهو يكسب المساحة، فيضيفها إلى المطبخ، ويصبح المرحاض داخل المطبخ، تبخّرت مخاوفنا من الجن والأشباح، وصار المطبخ بحجمه الكبير ملاذاً جديداً للسرد الشفوي والقصّ الذي ينمو في بيئة دافئة مشحونة بروائح الأكل.
كنا نُمضي أوقاتنا، بعد المدرسة، إخوتي وأنا، مع أمي. نأخذ الكراسي الصغيرة من الصالون ونصفّها كأننا في مسرح افتراضي، فنجلس خلف أمي، العالقة طيلة الوقت بين المجلى وفرن الغاز. وكالقطط المتسولة، ننتظر أن تجود علينا بعيّنة ساخنة من طعام لم يكتمل استواؤه بعد.
جرة الغاز التي تناضل لتبديلها كلما فرغت، وبرميل المازوت على السطح، وطقم الكنبايات الذي اشترته بالتقسيط، والسجادة العجمية التي اشترتها بالدين، ودفعت ثمنها لاحقاً وطقم فناجين القهوة وأطباق روميو وجولييت غير المُعدّة للاستعمال ولا اللمس، وأغراض كثيرة، لكل منها تاريخ حميمي مع أمي، تموت ولا تتخلى عنه.
كان الأصدقاء في حلب، يقولون لي إن حارة أمي جبهة مشتعلة، ويخافون من دخول الحارة، حين أطلب منهم الاطمئنان عليها.
ظلت أمي وحيدة في الحرب. حين كانت في المطبخ، متجهة إلى الصالون، وقد اعتادت أصوات القصف، لم تفهم أو تستوعب ذلك الصوت. فجأة، رأت الحارة من زاويتها، ورأت السقف يهبط كما في الأفلام.
تجمدت أمي مكانها كما أتخيل، فنحن لم نمتلك الوقت للحديث والشرح. وقفت تنتظر إما أن يغيثها أحد فتنجو، أو يهبط السقف فوقها.
دخل الجيران من بين الأنقاض، وأخرجوها على حمّالة. ونظرت بذهول إلى الخراب، إلى تبخّر البيت.
أرشيفها تبخّر تحت الأنقاض: صورنا، شهاداتنا، ملابسنا، ألعابنا، أثاثها. كل شيء صار تحت الحجر.
صار البيت الذي كان كل حياتها، مرتعاً للقطط والحيوانات الضالة، وصار يمكن لأي عابر طريق، أن يدخل تلك الخرابة، ينقّب بين الحجارة، ليعثر على قطعة من مقتينات أمي الغالية عليها: ثوب طفولتي.. البنطال الجلدي الأحمر.. بربطوز أختي .. العربة الكريستالية… غسالة البنكوان….
ماتت أمي بعد أسبوع واحد فقط. سقط البيت يوم الأربعاء، ورحلت أمي عن البيت/ الحياة، يوم الأربعاء التالي.
العربي الجديد