أرض الخوف/ عزيز تبسي
-1-
لم يجازف أهلها، برفع بيوتهم من طين رخو، يتماسك بهشيم وعيدان جففتهما الشمس. توارثوا من عهود طويلة أن المدن، لا تبنى من الطين. ما بني من الطين بالمطر يزول، وما بني من الحجر يبقى لا تذروه الرياح ولا تأخذه العواصف.
بان من أعالي العمارة، مريضاً هدته الأوجاع، وازرقت أوردته من حقن المصول. تحتاج لقوة إعصارية لتتجاوز محنتها…. لم يعد كافياً للدخول المفتعل في البهجة اليومية.
أن تطرب لرنين أطباق نحاس باعة عرق السوس، رؤية المرأة التي تثبتت على عادة تسريح شعرها أمام النافذة، الغسيل الأبيض المتدلي من الشرفات، أصص الزهور المركونة على حافة الشرفات المتفجرة بالبركة النباتية، كلمات الصادحين بعبارات التفاؤل التاريخي في النهار، والمنتحبين في الليالي على الخرائب والهزائم ومكر التاريخ.
ثقيلة أبواب البيوت، بجهد مضن يدفعونها لتفتح، وبجهد أكبر لتغلق. تعوض تثاقلها، الابتسامات المشرقة، وكلمات الترحيب السخية التي تتطاير من الأفواه المبتهجة. لكننا الآن بلا بيوت تتستر على أوجاعنا، وتخفي تمتمات شفاهنا. كأنها سنوات حرب. في الحرب سيان أن تكون محارباً أو وقوداً…هما إلى مآل واحد.
حتى الكلاب وجدت لنفسها كوّة تتسرب منها إلى الحرب الدموية. وأمسى نباحها هو الصوت المفرد في هذا الضجيج المخاتل. هي كلاب بلا قوافل ولا قطعان لتدّعي حراستهما، ولتبرر وجودها الطفيلي بوجودهما…تتنابح على بعضها في النهار، وتتوادد في الليل وهي تمتطي بعضها.
كلاب من الصنف المسمى “داشر”. هشاشة عظمة مكسوة بقليل من اللحم تجمعها، وعظمة أخرى تفرقها.
وقعنا في أحابيل الفلسفة السياسية للكلاب، حيث تحسب الحكمة أنها تتبرج في أقوالها: “كلب ينبح معك خير من كلب ينبح عليك”، في إشارة كلبية للتحالفات الآنية التي لا تسبقها ولا تتبعها المبادئ، ولا مصائر بلاد تتصاعد بالأمنيات.
“جوّع كلبك ليتبعك”، في إشارة كلبية أخرى لضرورة القبض على الأموال المسروقة من شعوبها، وعدم الإسراف في شراء ولاءات الكلاب الأقل نباحاً وعضاً، وإبقاء الكلب في حالة من التابعية الدائمة.
– حذار الاقتراب من هذه السياسة الرخوة، إن لم تكن كلبًا من سلالة الكلاب!!
أي سكر هذا بخمور التاريخ، حين نخال تاريخ المحتلين تاريخنا، ونتداول حكايات الملوك والأمراء بوصفهم أجدادنا؟
وحين يعجزنا حل حروف نقش في حجر، وقد حسبناه من الطلاسم، نحطمه. وحين تستفز جهلنا العمارة الراسخة في أرض من شيدوها، نفجرها. وطالما حاولنا التخفي المضحك خلف هولاكو وتيمورلنك، بأن هذين فاقونا تدميراً.
ترى ماذا بنينا لنتباكى عليه من تدمير هولاكو؟ ماذا تركت الخلافة العباسية المهزومة قبل إتمام القرن الأول لتكوينها، لأهل العراق والشام، قبل إقبال جحافل هولاكو وتيمورلنك؟
كان من الضرورة، الفصل بين الاهتمام الحقيقي بالجاريات والغلمان والصيد والولائم الباذخة، والاهتمام الكاذب بالكتب والمكتبات. بين الكلام الذي تجاوز الهذيانات العصابية عن الحضارة والعمران، والتجريدات الحربية لنهب الشعوب المغلوبة.
أكان لدى سلالات الاستبداد الشرقي الوراثي، وقت للقراءة ولاستبيان المعارف؟
نمرر كلمات لمحمود درويش في ذكراه التي لا تزول حمولتها الشعرية المقهورة: “أترى كنا طيبين وسُذجاً، حين قلنا: البلادُ بلادُنا”.
حين قشّرنا لحاء جذع شجرة الزيتون، وحفرنا أسماءنا لندخل السرادق المؤدي إلى ميراث بكورية الزيت، وحين حفرنا الأرض ونقلنا ترابها لنعيد الفتوة إلى كهولة التراب، كانت البلاد ولم تزل لمن امتلكوا السلاح… والخيل.
-2-
ثمة أشياء لا تباع ولا تقايض. سيرة العائلة بحقائقها الواضحة وأكاذيبها المخفية. الصور التذكارية باللونين الأبيض والأسود بتوقيع المصورين على زاويتها اليسرى. ألبسة حاكتها الجدات بأسياخ الصوف في الليالي الباردة، ونفر الأحفاد من ارتدائها. ساعة الجدار المتوقفة عن العمل ولا يمكن فكها إلا بتحطيم الحائط. حشد من الألعاب، دمى من لدائن البلاستيك مفقوءة العين، قرد يقرع على طبل ثقبته السنون، بيانو قلعت أصابعه، وكتب بات من الصعوبة العودة إليها، ومن الأصعب افتقادها بالنظر اليومي المتأني لجهة موقعها الراسخ على أرفف المكتبة.
وهناك لعبة المربعات المرسومة، منذ نصف قرن، بالطباشير على إسفلت الشارع. فرحة المرأة الحامل وهي تتسوق “الديارة” لطفلها البكر. الناس السائرون بخدر دهري في شوارع حلب، كأن أهراءات من الطحين تساقطت على وجوههم. وفهرس من العبارات الثقيلة الموجعة، التي لا يكف الآباء السجناء عن ترديدها أمام شباك الزيارات: “أنت رجل البيت، انتبه لأمك وإخوتك”.
-3-
ماذا سيتبقى لنا في المدينة، بعد هذه الأيام؟ ترى هل سنجبر على عودة إلى القرى؟
كان علينا إذن، معرفة عادات أهل أمهاتنا الريفيات، وهم يتوجون الكلام بالسجع الخرافي، ويسحجون حديد الأمثال بحديد أمثال أخرى؛ الفروقات بين حليب البقر وحليب الماعز. الحرقة التي يسببها حليب التين في الشفتين والأصابع. التمييز بين ألوان توت العليق. التربيت على كفل الحمار الوديع من دون الوقوع في وهم حثه على زيادة العدو. عدم التوجس من كل أنواع الأفاعي. الاكتفاء بالنظر إلى عيون البقر.
تعلم الحنان من مراقبة إقبال الدجاجات على صيصانها. النفور من الغباء المستوطن في تربية الديوك. التأكد من محتويات الضرف قبل خضه، حتى لا يتبدد الوقت بلا طائل في خض الماء والهواء. الحليب وحده ما يكتنز الدسم. الانحناء أمام ينابيع المياه، لا لرؤية تجول الطفولة على أكتاف الوقت، بل للتيقن من مصائر الحصى بعد أن فركها الزمان، في القاع الشفيف لانبجاس المياه. والتنعم بمذاق الماء من فم ينبوعه.
ضرورة تبجيل البرغل، والفخر بكونه الوليمة المتبقية التي تجمع البشر بالطيور، علهم يستردون بعدها أحلامهم بالطيران. الجثو أمام النباتات لعقد الحوارات الصامتة، قد تنتهي باحتضان شتلات الورود والاستدماء من أشواكها.
مراقبة سباق الأشجار، ببراعم خجولة، وخضرة مستحمة بالأمطار، للإعلان عن قدوم الربيع. الإيمان بالتقويم الشرقي، وبآلهة الزراعة التي نُسيت، ولم تنس العبور الحنون من نسخ النبات، ولمّا تزل تبارك بلا كلل، عناقيد العنب وثمار التين وحبات الزيتون وتيجان السنابل. القناعة أن صلوات الفلاح للأرض وللمياه المنسكبة على حوافها، وللثمار بيناعتها المتشبعة بالمذاق الحلو.
عدم التسرع بالوقوع في الحب، قبل امتحان القلب بركض مستطير بين الأودية، وتسلق الصخور والقفز من أعالي أشجار الحور.
الهتاف أوائل الصباح أمام حافة الجروف الصخرية. وترقب عودة الصدى أواخر الليل. لا صوت يضيع في الجبال. لما تزل تصل من أعماق الليالي، غرغرات الدم من أعناق عبرتها السكاكين المثلومة، ونداءات الأولاد على آباء تشتتوا كزبد.
ويبقى، واجب الدنو من مساكب الزهور المضرجة بخيبات عطورها التائهة، كمحاولة لطمأنتها بكلام يشد عزم وريقاتها الذابلة. وبهمس شفيف أمام بذورها: سيعود الربيع، ربيعك.
ضفة ثالثة