أرض الكباب والبقلاوة/ عزيز تبسي
يقع المكان في الجهة الغربية من مدينة حلب، عند الموقع الذي اختارته الراهبات الفرنسيسكانيات في بدايات القرن الماضي، لتشييد دير وكنيسة ومدرسة اعتمدت نظاميّ الدراسة الداخلي، الذي يشمل النوم والإطعام وغسيل الملابس، والخارجي للطالبات اللاتي تقطن أسرهن في المدينة. وكان المحامي فتح الله صقال قد شيَّد قبلهن في الزاوية الشرقية للعقار، دارته المفردة، وسكنها في العام 1929.
في هذه الأوقات لا نريد الاقتراب من الله في تجلياته المعمارية والدعاوية، وإنما من الشعب في ألبسته التي بلون الإسفلت وبلاط الأرصفة، من رائحته المشبعة بتراكم أحماض العرق والتعب واللهاث التي تحتاج لأنهار من مياه دافئة وبيادر من أوراق الغار، وإلى لمسة مفتقدة من ملائكة حنونة تجس نبض أوردته، إلى روح الكرامة الآدمية تعيد إلى صدره أنفاس الحياة، وتنهض كينونته المحتطبة كأشجار.
أخذ المطبخ موقعه في فراغ من حديقة بالجهة الغربية في دير الراهبات الفرنسيسكانيات. خلف المدرسة التي حملت الاسم ذاته، وتحوّلت بعد تأميمها إلى ثانوية مريم للبنات. يشرف عليه مجموعة موظفين يتوزعون على مهام متعددة، إداريين يتسوقون المواد الغذائية وينظمون بطاقات استلام الوجبات، وتقنيين يراقبون العمل وضبط المستودعات والمطبخ.. الذي يديره طباخ متمرّس، تساعده مجموعة من العمال والعاملات.
يعمل المطبخ خمسة أيام في الأسبوع ويتوقف يوميّ
السبت والأحد. يؤمن عشرة آلاف وجبة يومية، تدعمها الإدارة بربطة خبز، وزن الوجبة 350 غرام، يرتفع وزنها إلى 600 غرام حين تتوزع على نوعين من الأطعمة.
الهيئة اليسوعية هي الداعم الرئيسي للمطبخ، وهي التي تدفع الأجور والمكافآت للعمال والموظفين، يساندها الهلال الأحمر بتأمين بعض المواد الغذائية، ومتبرعون ومحسنون يفضلون بقاء أسمائهم طيّ الكتمان.
تصل تباعاً بعد الانتهاء من الطبخ شاحنات صغيرة ومتوسطة، تحمل حلل الطبخ المعدنية وتنقلها إلى مراكز التوزيع، بعضها يقودها عسكريون بلباسهم المموه وأسلحتهم الظاهرة.
تنتشر مراكز التوزيع في مواقع معروفة من أحياء المدينة، يُراعى أن يكون في محيطها القريب تواجد للأسر النازحة، أو الأسر التي في حالة عوز (ثانوية عبد اللطيف نعناع – جامع الرحمن – ثانوية المحبة – دير الكرمل..). وجبات متنوعة وكريمة، لا كتلك “القروانة” التي كانت توزع في السجون ومراكز التوقيف. تشمل أطعمة يمكن اعتبارها عائلية، فريكة باللحم، معكرونة بالخضار، كبسة أرز ولحم، خضار مطبوخة مع اللحم ترفق بطبق أرز، وأحياناً تحل “المامونية” على قائمة الوجبات.
يجب الابتعاد عن الأسئلة التي تضمر غير ما تفصح: ترى إلى متى سيستمر تقديم الوجبات؟ بمعنى آخر هل سيبقى الوضع في البلد على ما هو عليه، أي أغلب الناس عاطلون عن العمل، ولا مصدر لهم للعيش سوى المعونات الغذائية. وهل تلبي المعونات الغذائية كل احتياجات الأسرة؟ مما سيفتح على سؤال كبير آخر: كيف تؤمن الأسرة ما تبقى من مستلزماتها، كدفع إيجار بيت السكن، تعليم الأولاد، إكسائهم، طبابتهم.
معظم النساء والفتيات الآتيات إلى مراكز التوزيع محجبات. ومن غير المجدي تفحص الالتزام بالوصايا الغامضة المنسوبة للآلهة، والتي تحتمل مئات التأويلات.. لأنه لم يعد إخفاء الوجه مقتصراً على النساء، بعدما أمسى الرجال يقومون بالفعل ذاته، ليحجبوا لحظات المهانة التي أجبرتهم الظروف عليها. أناس لا يريدون أن يراهم أحد وهم في حالة تشبه التسوّل، كما يتحاشى أغلبهم الكلام مع أناس لا يعرفونهم.
تستلم الوجبة بعد إبراز البطاقة التي يعدها المركز، والذي حدد فيها عدد أفراد الأسرة المستفيدين من المعونة، يجري وزنها بدقة على ميزان الكتروني. لا أحد يرفع صوته، لا أحد يرفع رأسه في الطابور.. ربما لأنه لا شيء يتطلب رفع الرأس والكلام. بصمت ثقيل يجري التوزيع الذي يستقبله الناس بأسطل من البلاستيك من التي يباع فيها اللبن، وبأوعية بلاستيكية أكبر تستخدم عادة لحمل المياه. يعمل البعض على تغليف وعاء الوجبة العائلية بكيس أسود كي لا يرى العابرون ما بداخله، ويمنحهم فرصة السير بطمأنينة في طريق عودتهم إلى بيوتهم.. بعضهم لا يبتعد عن مركز التوزيع سوى مسافة محدودة، يجلس في زاوية على الرصيف أو بوابة واسعة لعمارة، تتحلق حوله أسرته ويباشرون بأكل الطعام.
لا أحد يغني وهو يتهيأ لاستلام وجبة الطعام كما كان يفعل في زمن خلا، وفق ما يرويه المؤرخون:
آمان يا كبة أرمان مسكين ابن الإنسان
دردو يلاقي الأمان وأمانو وهم وأماني
لا لأن الهيئة اليسوعية لم تعتمد الكبة في وجباتها فحسب، وإنما لأنه لا لزوم لاحتفال يثير الامتنان في زمن أغرق الناس في مرق الذل.
حركة العبور في الشارع محدودة، وكأنما الأهالي غادروا بيوتهم من زمن بعيد. أبواب الشرفات والنوافذ مغلقة، أصص النباتات الموزعة على زواياها يابسة، غربان تنعق كل حين، وهي تتهيأ لطيران جديد من فوق درابزينات الشرفات، وستيتيات (نوع من الحمام) بلون القرميد تأوين إلى زوايا المداخن الخامدة. مضى كلٌ بسطل طعامه. تبددوا في الشوارع الفرعية، يريدون إيصال الطعام الساخن لأولادهم، يسابقون الأمطار التي انهمرت بغتة بشكل عاصف، حينما شعر السائرون بثيابهم الخفيفة التي بدأ يبللها المطر، أن السماء لا تمطر بل تتبوّل على المدينة وأهلها.
– لماذا أمطرت السماء في هذا اليوم الربيعي المشمس؟
– كي نصاب بالأنفلونزا، التي نجونا منها في الشهر الماضي.
* كاتب من سوريا
السفير العربي