صفحات الثقافة

أرض يقيم عليها كثيرون/ أمجد ناصر

 

 

سمعتُ رجلاً يقول: تظنون أن الذاكرة هي الماضي فحسب! هذا خطأ. إنها الحاضر أيضاً. فأيدته امرأة ذات نبرة أكاديمية صارمة: بالتأكيد. إنَّ الكلمات التي نطقتها أنت، الآن، لم تعد تنتمي إلى الحاضر، بل إلى الماضي. هناك من سيتذكرها من المستمعين، وهناك من سينساها. كلماتي هذه ستكون، أيضا، بعد ثوان قليلة، من الماضي، وستستقر في ذاكرة شخص ما. كان البرنامج الإذاعي في ربعه الأول، عندما أدرت مؤشر راديو سيارتي على الطريق السريع بين بيتي والمطار الذي ذهبت إليه، لأقلَّ قريباً يفترض أن حقوقه محفوظة، بحكم الدم، في وقتي ومنزلي. واضح أن محور النقاش، المتخصّص على ما يبدو، هو الذاكرة.

نسب المذيع الى ألدوس هيكسلي قوله: إنَّ الذاكرة هي المدوَّنة الأدبية للبشرية. فأضافت امرأة ذات نبرة أكاديمية صارمة: كل كتابة هي فعل ذاكرة حتى تلك التي تتحدث عن المستقبل، حتى عندما نتصور المستقبل ونكتبه، أو نرسمه، إنما نفعل ذلك بأدوات الماضي وخياله. تدخَّل شخصٌ له صوت يشدِّدُ على الكلمات، كأنه يهرسها هرساً، صوتٌ، أو لأقل طريقة في الكلام، ذكّرتني بشاعر أشاد مدفناً زجاجياً لأشباح حياته، قائلاً: إنها جهاز شديد التعقيد، أقصد الذاكرة. تصوروا أن فعلاً بسيطاً مثل رفع “شاكوش” من على طاولة، مثلاً، يستدعي عمليات متضافرة بين جوانب متعددة من الدماغ. فاسم الأداة (كلفظ، ككلمة) في جهة من الدماغ، صورتها في جهة أخرى، رفع الأداة يصدر بأمر دماغي مختلف، كل ذلك يحدث، في اللحظة نفسها، في دماغنا عندما نقوم بفعل بسيط كهذا. فلو لم تكن لدينا ذاكرة لما استطعنا رفع “شاكوش” من على منضدة!

صار النقاش حارّاً محتدماً، واختلطت أصوات المشاركين بعضها ببعض، فقاطعت المرأة ذات النبرة الأكاديمية “رجل الشاكوش”، وهي عادة غير مستحبَّة في هذه البلاد، قائلة: من دون ذاكرة، نكون كأننا نولد كل لحظة من جديد. نولد كصفحةٍ بيضاء. نظل نولد ونولد، من دون أن نعرف أننا ولدنا آلاف المرات، لأنَّنا ليس لدينا هذا المخزن الشاسع الذي يحفظ، ويغفل، كل ما قمنا به من أفعال …

حاول المذيع، الذي حزرتُ موقعه في النقاش من خلال فضّه الاشتباك وتسنّمه زمام القيادة المنتزعة منه عنوة، أن يعود بالنقاش إلى الذاكرة والاجتماع، وهو ،على ما يبدو، كان مستهل الحديث الذي فاتني، فقال: هل ينطوي عمل الذاكرة على ما هو اجتماعي.. ثم أضاف: دعوني أحدِّد سؤالي أكثر: تعرفون، بالطبع، أننا نلجأ، أحياناً، إلى الأهل أو الأصدقاء لنتأكد من حادثة ما. هذا يعني أن الذاكرة ليست شيئاً فردياً بل لعلها معادلة اجتماعية لا تكتمل إلاَّ بوجود آخر. فهي، بهذا المعنى، أرضٌ مشتركة يقيم عليها كثيرون غيرنا. تذكرت أمي، التي كان يلجأ إليها أقاربنا الساهرون في بيتنا عندما يختلفون على موقع أو شخوص حادثة تخصّهم، أو تخصّ محيطنا القرابي الواسع. كانت أمي تعيد، بإغماضة عين، رسم الموقع وتحديد أسماء الأشخاص كما لو أنَّ الحادثة، المختلف عليها، تجري أمامها. هذا ما سماه أحد المشاركين في البرنامج الإذاعي “الذاكرة الفوتوغرافية”. ثم تذكّرت أبي، الذي ينسى ما تعشى يوم أمس، ولا أعرف كيف أترجم معنى المصطلح الذي قيل في هذه الحالة، فقد كانت له نكهة لاتينية (وربما إغريقية) مستعصية.

لم يتفق المشاركون، في البرنامج الإذاعي، على البعد الاجتماعي للذاكرة، ولا على تحديد تعريف لها. فهي أكثر من وعاء لخبرات الماضي، أو مخزن للحفظ، أو أداة استدعاء للثاوي في تلافيف غامضة جاهزة للاستخدام في كل حين. لكن من المؤكد أن هناك ذاكرة جماعية للشعوب، خصوصا التي تتعرّض لاقتلاع عنيف (مثل الشعب الفلسطيني) أو لمحو لغته وثقافته (مثل عدد من الشعوب الأفريقية). نعرف هذه الذاكرة التي لم يتطرق إليها “المتخصّصون”. كنت أسمع، في طفولتي، الكهول الفلسطينيين وهم يتحدثون، في جلسات الشاي في العصاري والمساءات، عن قراهم التي غادروها. عن أنماط حياتهم. حقولهم، بهائمهم، مواسم الحصاد والقطاف. مضافة المختار التي كانت مجلساً (لم تكن هناك مقاه) لرجال القرية، أو البلدة، يسمرون فيها ويتبادلون شؤون حياتهم وشجونها. هذه ذاكرة. وهذا، أيضاً، ما يسمونه التاريخ الشفوي.. الذي عليه، في حالتنا، أن ينقل من صدور ما تبقى من أولئك، الذين لا يزالون يتذكّرون ما حصل.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى