صفحات العالم

أركان النظام العالمي… تهتزّ/ منال نحاس

 

 

بدا أن عام 2015 كان خاتمة الكلام على أفول أميركا وبروز الصين وعالم متعدد الأقطاب. وكان من آخر الراثين لأميركا في «فورين أفيرز» في 18 آب (أغسطس) 2015، فرانسيس فوكوياما، في مقالة عنوانها «انحطاط أميركا… مصادر التعثر السياسي»، وهي مستخرجة من كتاب للكاتب يحمل العنوان نفسه. وتناول فوكوياما الأسباب الداخلية لانحطاط أو تآكل المؤسسات الأميركية، منطلقاً من كلام صامويل هانتغتون عن عجز المؤسسات عن التكيف مع تغير الأوضاع، حين التحديث الاجتماعي – الاقتصادي، وأن المرحلة الانتقالية يشوبها فوضى وعنف بالغان. ومع انحسار دور الولايات المتحدة العالمي، وهو انحسار من بنات عدد من العوامل، منها «عقيدة أوباما» وآثار سلبية (ضمور النمو، تصدع الطبقات الوسطى…) ترتبت على هيمنة النيوليبرالية على العولمة، دخلت الولايات المتحدة مادياً، بؤرة العواصف، على قول مات فيني (الحياة» في 26/10/2016). فـ «الركود الاقتصادي يخلف صنفاً جديداً من الانفصال بين الأقاليم والولايات ومن الانعزال، ويفاقم الخلافات القديمة والموروثة. فيوماً بعد يوم، يتعاظم انكفاء الأميركيين إلى معازل ثقافية متجانسة لا يتشاركون فيها مع أقرانهم إلا بمعتقدات واحدة. وفاقمت وسائط الاتصال الاجتماعية تناثر الهويات الثقافية والسياسية وتفتتها. وتغذي الشكوك في دور الولايات المتحدة العالمي، في أعقاب 45 سنة من حرب باردة و13 سنة (1990 – 2003) من مكانة قطبية غير منازعة، هذه النزعات الموهنة. وكان الدور العالمي الذي تضطلع به الولايات المتحدة عامل تماسك داخلي».

وفي مطلع 2016 بادرت آن أبلباوم، المعلقة والمؤرخة الأميركية، إلى دق ناقوس خطر بروز عالم ما بعد الوقائع و«أفول الغرب على الوجه الذي نعرفه». وسلطت الضوء في «واشنطن بوست» («الحياة» في 8/6/2016) على خطر يتهدد الديموقراطية ناجم عن «تعاظم حجم المعلومات ونموها المتواصل» وضعف نجاعة تفنيدها والتحقق منها. وكتب جيل ليبور في مجلة «نيويوركر» أن كمية الوقائع المتداولة حملت الناس على الطعن في «الواقع» نفسه. ولكن «هل في الإمكان «معرفة» أي شيء في وقت يعدِّل «غوغل» نتائج بحثه وفق الباحثين والأماكن (التي يجرون منها البحث)؟ أليس الأمثل هو افتراض أن المعلومات كلها كاذبة في وقت تكثر مصادرها؟ وإذا كانت الحقيقة أمراً انقضى، وإذا كنا نعيش في عالم «ما بعد الحقائق»، لم يخش الكاذبون تدقيقاً أو تفنيداً». وخلصت أبلباوم إلى القول: «هذه المسائل قد تبدو فلسفية. ولكن، في حملات 2016 الانتخابية، يبدو أنها مشكلة تتهدد الديموقراطية». ويبدو أن مصدراً من مصادر قوة الديموقراطية، أي رفع القيود عن نشر المعلومات وتعاظم حجمها، هو، كذلك، مصدر ضعفها. فترك المعلومات على غاربها من غير التزام مواقع التواصل الاجتماعي مبادئ ومعايير «أخلاقية» تقضيان بعدم المساهمة في نشر الأكاذيب والإشاعات، يساهم في تقويض الديموقراطية. وإثر انتخاب دونالد ترامب، وشطر من حملته الانتخابية كان حملة بروباغندا تشيع أكاذيب عن منافسته الديموقراطية، هيلاري كلينتون، دعت «نيويورك تايمز» مواقع فايسبوك وغوغل وتويتر الى التزام مبادئ اخلاقية وعدم المساهمة في نشر الأخبار الكاذبة، من جهة، وسلطت الضوء على دور هذه المواقع في مد المستبدين بمعلومات عن آراء رواد الإنترنت السياسية والدينية، من جهة أخرى. وتزامن بروز مواقع التواصل الاجتماعي مع كر سبحة الانتفاضات الشعبية في تونس ومصر وأوكرانيا وجنوب السودان وغيرها من الدول. فمثل هذه المواقع هي منابر عامة تتناقل فيها سبل الانعتاق من الرقابة ودعوات التجمع والتعبير عن الرأي. ولكن «نيويورك تايمز» ترى أن «تكنولوجيا التحرر»، كما يسميها كثر، هي أداة في أيدي الحكومات التي «تجيد التلاعب بها واستخدامها أكثر من الناشطين المدنيين. وعلى سبيل المثل، أفلحت الحكومة الروسية في زرع مندسيها في هذه المواقع لاستباق اي حركة احتجاجية ووأدها. ولا يقتصر التوسل بهذه المواقع لأغراض حكومية على دول غير الديموقراطية. فأجهزة الشرطة الأميركية والأوروبية تجمع معلومات عن المستخدمين ومعتقداتهم السياسية والدينية. ويرى مراقبون أن مواقع التواصل الاجتماعي بثت ثقافة «الكليك» (الضغط على الزر تعبيراً عن إعجاب بقضية ما)، وأن جمهور الإنترنت ضعيف الذاكرة ويميل إلى الاكتفاء بـ «الكليك» عوض النضال السياسي الفعلي الذي يقتضي وقتاً طويلاً لشبك علاقات ثقة بين المعارضين. وخلص الباحثان في العلوم السياسية، فلوريان هولنباخ وجان بيرسكالا الى ان انتشار الهواتف الخليوية في افريقيا ساهم في تعاظم العنف. فوسع معمر القذافي، على سبيل المثل، في 2011، توجيه رسائل خليوية الى حامليها المتواجدين في التظاهرات والاحتجاجات تأمرهم بالعودة الى بيوتهم وأشغالهم. وعلى رغم أن الأنظمة العربية غير متجانسة الأحوال، أوحت وسائل الإعلام الاجتماعي بيسر اطاحتها وتكرار النموذجين التونسي والمصري في ليبيا وسورية، من غير ادراك اوجه اختلاف الأنظمة وأطوار المعارضة.

والحرب الإعلامية والتباس الحدود بين الواقع وخلافه لا راد لهما. وسبق أن تنـــاول أومبـــرتو إيكـــو في مقابلته الأخيرة قــــبل رحيلـــه مع صحيفة «لوموند» الفرنــسية في 30/5/2015 («الحياة»، ملحق صحافة العالم، 10/6/2016) أثر المزيف في صناعة التاريخ. وساق أمثلة على الأثر هذا، منهـا رسالة القس يوحنا، وبروتوكولات حكماء صهيون، و «هــــبة أو منحة قسطنطين» (وثيقة ظهرت في العصور الوسطى تزعم أن الإمبراطور قسطنطين سلم مقاليد روما إلى البابا). وعلى رغم إثبات الباحثين منذ عصر النهضة، زيف وثيقة قسطنطين، لم يغير إثباتهم في الأمر شيئاً. فـ «سلطة الكنيسة الكاثوليكية لا تزال قائمة. ورسالة يوحنا المنشورة في القرن الثاني عشر تصف مملكة باهرة تقع ما وراء العالم الإسلامي وعلى رأسها ملك مسيحي. وهذه الرواية الخيالية كانت وراء التوسع الأوروبي الى ما وراء العالم الإسلامي»، قال إيكو. وهو دعا الصحافة النقدية الى إطاحة هيمنة المزيف وتقويضها.

أطوار الحرب

والتدخل الروسي في الانتخابات الأميركية على وجهين، أولهما «سلمي» أو «ديموقراطي» قوامه بث اخبار كاذبة على مواقع التواصل الاجتماعي، والثاني «حربي»، ومن اشكاله التسلل الى النظام الداخلي للحزب الجمهوري وجمع بيانات ومعلومات من اجهزة فيديرالية اميركية أو شبهة التدخل في احتساب الأصوات الانتخابية بواسطة اجهزة الكمبيوتر. وعلى رغم التباين بينهما، الخلط بين الحرب الإعلامية على الإنترنت والحرب السيبيرنيطيقية، كبير. والأخيرة حرب معقدة وسائلة، وهي تفتقر الى قوانين ومعايير، ويشبّه مايكل هايدن، مدير وكالة الأمن القومي السابق ونائب مدير الاستخبارات القومية الأميركية والرئيس السابق للـ «سي آي إيه»، عالمها بمقديشو (العاصمة الصومالية) حيث الفوضى وغياب القانون.

وسبق أن نبهت هيلاري كلينتون الى بروز طور جديد من أطوار الحرب: فالحروب لم تعد تدور بين دول فحسب. وتنظيمات إرهابية مثل «داعش»، تجمع بين وسائل مواجهة تقليدية (الدبابات) ووسائل حرب العصابات غير المتكافئة. ولكن يبدو أن الحرب الهجينة الجديدة لا تقتصر على أشباه الدول من التنظيمات الإرهابية. فثمة دول مثل إيران تتوسل تنظيمات مسلحة غير نظامية، بعضها على اللائحة الأميركية السوداء للتنظيمات الإرهابية، لحماية مصالحها ونشر «ثورتها». ويبدو أن دعوة هنري كيسنجر إيران الى حسم ترجحها بين الثورة والدولة، والصدوع بالنظام الفيستفالي، في محلها. وشأن إيران، وعلى رغم تباين مكانة الدولتين وشكلهما، تتوسل روسيا بأدوات القوة الهجينة من هجمات إلكترونية وحرب إعلامية وقوات خاصة وشبكات الجريمة الخاصة لتغليب كفتها. وخلص مارك غاليوتي في «وور أون ذي روكس» في 6/12/2016 («الحياة» في 21/12) إلى أن «هجانة» العمليات الروسية هي مرآة هجانة الدولة الروسية. فمنذ تسعينات القرن الماضي وفي عهد البوتينية، نزعت روسيا الطابع المؤسساتي عن بناها. ويحكم روسيا نظام القائد الواحد، والصلاحيات الرئاسية فيه مفرطة ومنفلتة من كل عقال، والحدود فيه ملتبسة بين العام والخاص والمحلي والخارجي».

طي العولمة؟

وفي 2016، إثر انتخاب دونالد ترامب وتعثر المفاوضات على اتفاق التجارة الحرة العابرة للأطلسي وتعليق اتفاق التجارة الحرة العابرة للهادئ، بدا أكثر فأكثر أن الأزمة الاقتصادية والمالية وثيقة الصلة بطور من أطوار العولمة غلبت فيه كفة سياسات الليبراليين الجدد ومصالح الشركات وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة. ولاحظ جوزيف ستيغليتز («الحياة»، 10/5/2016) أن مدخول 90 في المئة من الأميركيين ركد طوال ثلث قرن، وأن متوسط دخل عامل يعمل دواماً كاملاً هو اليوم أدنى مما كان عليه قبل 42 عاماً (مع احتساب التضخم)، ومعدل الراتب الأدنى اليوم هو نظير ما كان عليه قبل 60 عاماً. وعزا سوء احوال عامة الأميركيين الى «معارضة الليبراليين الجدد مساعدات اجتماعية تحمي الخاسرين من العولمة؛ وضمور النمو بسبب سياسات ترجّح كفة المصارف والشركات على كفّة كل الآخرين، وخسارة العمال القدرة على المفاوضة، والتكنولوجيا الجديدة. وسلّطت ساسكيا ساسِن، استاذة مادة الاجتماعيات في جامعة كولومبيا، في «ليبراسيون» (5/2) («الحياة» في 17/2) الضوء على التفاوت الاجتماعي وبلوغه من «الاتساع مبلغاً جعله صنو الطرد من العلاقات الاجتماعية، والإقصاء الحاد من أطرها». وذهبت إلى أن اليونان عَرَض صارخ على مفاعيل دينامية الطرد والإقصاء. فـ «خطط التقشف التي تفرضها الهيئات الاقتصادية الدولية تطرد الطبقات المتوسطة، والضعيفة والأقل ضعفاً، من مرافق عملها، ومن الخدمات الصحية والاجتماعية التي كانت تحظى بها، ويتطاول الطرد إلى المنازل التي تقيم بها». وتنبه الى ان الطرد واللفظ لم يقفا عند عتبة دائرة الحياة ومجالها. فالتلويث البيئي ادى الى خنق المحيطات والأسماك بالبلاستيك واستنفاد المناجم والمياه الجوفية. «وبين 1989 و2009 خسر بحر أرال (الروسي) معظم مساحته… فهو اليوم أرض موات مترامية أو تحف بها انبعاثات المصانع والمناجم السامة».

بحر الصين الجنوبي

الغموض يلف العلاقة الأميركية – الصينية منذ انتخاب دونالد ترامب. وكانت بكين رحبت بانتخابه وما ترتب عليه مثل وقف مفاوضات التجارة العابرة للهادئ، الاتفاق الذي يرمي الى تطويقها على قولها. ورأت ان الإخفاق في إبرام الاتفاق هذا يبدد عثرات تقيد تمددها التجاري وبسط نفوذها الاقتصادي والمالي أكثر فأكثر من طريق تقديم قروض باليوان الى دول الجوار لإعلاء مكانة عملتها وارتقائها الى مصاف الدولار واليورو. وبحر الصين الجنوبي هو ممر 30 في المئة من التجارة العالمية، وتسعى بكين الى الهيمنة عليه وتزعم السيادة عليه.

وإثر اتصال دونالد ترامب، الرئيس الأميركي المنتخب، بالرئيسة التايوانية، سرّعت بكين وتيرة نشاطاتها العكسرية في البحر هذا، فهي صادرت مسباراً اميركياً يرصد احوال المناخ، واستعرضت حاملة طائرات في مياه البحر هذا، ولوّح موقع «غلوبل تايمز» الصيني بتوسل ادوات إستراتيجية مثل حاملة الطائرات إلى تغيير موقف العالم، أي الولايات المتحدة، من الصين، وبتوغل الأدوات هذه في مياه شرق الهادئ وظهور الأسطول الصيني على السواحل الأميركية لحمل واشنطن على التفكير من جديد في قواعد الملاحة البحرية، وتخفيف الضغط على القطع الصينية البحرية. ويبدو أن فصول شد الحبال بين أميركا في عهد ترامب والصين في عهد تشي جينبيغ، والتوتر بينهما، ستتوالى في العام المقبل.

البريكس

مع غموض النظام العالمي الجديد، كثر الكلام على بروز قوة الدول النامية، وتحديداً تلك التي وسمت بـ «بريكس» (البرازيل، وروسيا، والصين، وجنوب أفريقيا والهند). ولكن عقد هذه المجموعة يكاد ينفرط بسبب خلافاتها الداخلية وتباين مصالحها وتراجع النمو الاقتصادي. فالبرازيل هزّتها مجموعة من المشاكل على وقع ضمور النمو وتوقع انكماشه في العام الحالي 8 في المئة عما كان عليه في 2014، اثر وقف الفيديرالي الأميركي سياسة التيسير الكمي، وهرب رؤوس الأموال، وإقالة الرئيسة ديلما روسيف. وتعصف بروسيا ازمة اقتصادية كبيرة، اثر انخفاض اسعار النفط وفرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عقوبات عليها جزاء ضمها القرم الأوكراني.

والحق يقال أن الصين تسعى الى الهيمنة على شركائها في «بريكس». وأخذ عليها براهما شيلاني في موقع «نكي إيجيان ريفيو» الآسيوي في 17/10 المنصرم («الحياة» في 26/10) تقديم دعم حكومي للصادرات الصينية، و «تخريب التصنيع في الهند والبرازيل»، ويقول انها تسعى الى « تعديل نظام بريتون وودز، وإلى الهيمنة على أبرز تحد لمؤسسات بريتون وودز، أي على مصرف «بريكس» الذي يعرف بـ «البنك الجديد للاستثمار». والمقر الرئيس لـ «البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية» في بكين. وخلص شيلاني إلى أن «بريكس» «قوية على الورق فحسب: وتجمع الدول هذه أكثر من ربع يابسة كوكب الأرض، وأكثر من 42 في المئة من سكان المعمورة، و25 في المئة من الناتج المحلي، ونحو نصف احتياط العملات الأجنبية واحتياط الذهب في العالم».

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى