أزمة النازحين السوريين.. كبرى مآسي «مفوضية اللاجئين»
إلغاء 30% من الحصص الغذائية والاستشفاء.. لنقص المعونات
يشكل الأطفال نسبة 40 في المئة من النازحين
إنه النداء الأكبر الذي توجهه “المفوضية العليا لشؤون اللاجئين”، منذ تاريخ إنشائها في العام 1950. نداء تطلب فيه مساعدة النازحين السوريين داخل سوريا وفي دول الجوار. مع ذلك، لا يريد المتصارعون على أرض سوريا إدراك هول ما يحصل للشعب السوري، ومنهم من لا يريد رؤية وجود شعب في سوريا. لقد أصبحوا يتقاتلون عليها كأنها أرض بلا شعب، تماماً كما فعل اليهود في فلسطين.
كل أنواع المآسي تحصل للسوريين: الجوع، التشرد، النوم على قارعة الطرق، في البراري، وفي المخيمات، السرقة، الاغتصاب، الدعارة، القتل. كل أنواع العنف بين السوريين: الكره، الحقد، الانتقام بأبشع الطرق والوسائل.
جاء الشتاء، وزادت أعداد الفارين من حرب القلمون، بينما نقصت المعونات، فقررت “المفوضية العليا لشؤون اللاجئين” إلغاء المساعدات لثلاثين في المئة من النازحين المسجلين لديها. ترسل بعض الدول المانحة مساعدات لا تكفي نصف عددهم، ويرسل العرب المال والسلاح والمقاتلين ولا يخجلون، باستثناء الكويت التي قدمت أموالاً قليلة للمفوضية، مع بضع مساعدات سعودية وقطرية وإماراتية خارج إطار “المفوضية”.
يعيش نحو ثلاثمئة ألف طفل سوري في لبنان وحده من دون مدارس، وقبل ذلك من دون طعام يكفيهم، وملابس تدفئهم، ومنازل تحميهم . وطبعاً لا وقت لدى أحد لإحصاء القاصرات السوريات، والعمال القصّر. فقد تركت القاصرات للاغتصاب “الشرعي”، من قبل “المشايخ” وغيرهم باسم الدين، وكذلك للاغتصاب غير الشرعي الذي وصل إلى كل حي يقيم فيه النازحون تقريباً، بينما ترك القاصرون لإعالة أهاليهم في الشحاذة، وأعمال الباطون، وتنظيف النفايات، وطلاء الأحذية، وبيع العلكة. أي عالم سوف يكون أكثر قسوة من هذا العالم؟
تحقيق: زينب ياغي ومادونا سمعان
في ندائها الخامس، طلبت “المفوضية العليا لشؤون اللاجئين” تمويلاً بقيمة مليار و216 مليوناً و189 ألفاً و393 دولاراً، من أجل مساعدة النازحين. بلغت حصة الحكومة اللبنانية منها 449 مليوناً و634 ألفاً و864 دولاراً. لكن الأموال التي وصلت إلى “المفوضية” بلغت نحو 625 مليون دولار، وتحتاج حالياً إلى خمسمئة وتسعين مليون دولار. ولم تصل أي مساعدات إلى الحكومة.
وتستقبل “المفوضية” يومياً في مراكزها في بيروت والمناطق بين ثلاثة آلاف وأربعة نازح، يطلبون تسجيلهم للحصول على مساعدات غذائية، تهدف فقط للبقاء على قيد الحياة، كما تصفها المسؤولة الإعلامية في “برنامج الغذاء العالمي” لور شدراوي، ومساعدات صحية تهدف فقط لإنقاذ من هو على وشك الموت. وغالبية الأحيان يجري التفضيل بين مريض وآخر، فيتم إهمال صاحب الوضع الصحي الخطر، لمصلحة من يوجد امل أكبر في شفائه.
هكذا ببساطة وصراحة ووضوح، مع كل من يحمله ذلك الواقع من ألم، لا توجد امكانيات لإطعام جميع النازحين، ولا طبابة للمرضى منهم. فقد بلغ عدد النازحين المسجلين حتى السادس والعشرين من تشرين الثاني الفائت، 829869 نازحاً، يستفيد منهم 752624 نازحاً، والباقون على لوائح الانتظار.
للإدارة 20%
تخصص “المفوضية” نحو عشرين في المئة من المساعدات للإدارة التشغيلية. وتقول المسؤولة الإعلامية في “المفوضية” دانا سليمان: “إن الموازنة شفافة، وتعلن على موقع المفوضية على الإنترنت، بشكل مستمر. لكن من يضع الموازنة هو المفوضية، ولا توجد جهات رقابية غيرها”.
يقوم الموظفون بعمل ميداني بين أماكن النزوح، يتجولون، ينظمون المساعدات. لكن رواتبهم عالية مقارنة بالرواتب في لبنان. وقد ارتفع عددهم من ستين موظفاً، قبل نزوح السوريين، إلى ستمئة موظف. يبلغ راتب الحد الأدنى لكل منهم ألفاً ومئتي دولار، عدا المصاريف الإدارية الأخرى، أي أن كل موظف براتب الحد الأدنى يحصل على خمسين دولار تقريباً في اليوم، بينما يحصل النازح الذي تأتي المساعدات باسمه على دولار واحد في اليوم. مع ذلك لا غنى عن الموظفين. كما استحدثت مراكز لم تكن موجودة، فيما بلغ عدد الجمعيات التي يتم التعامل معها ستين جمعية، موزعة على مئتين وثلاثين مركزاً في جميع المحافظات اللبنانية. تبعاً لذلك، تحسم الموازنة الإدارية للمفوضية، ثم الموازنات الإدارية للجمعيات من الأموال المخصصة للنازحين.
ويشير أحد العاملين في منظمة تابعة للأمم المتحدة إلى أن التمويل لا يتم وفق أصول أو معايير محددة وبالتالي من غير المعروف ما إذا كان صرف الأموال يتم في مكانه الأفضل أم لا، فالمسألة هي مسألة تقديرات وتلبية حاجات أساسية.
بالاضافة إلى ذلك، تعصف تيارات عدة بقضية الإغاثة في لبنان، أبرزها الاختلاف في النهج بين “المفوضية” و”مكتب الأمم المتحدة للأعمال الإنسانية”. فالأولى تعتبر الأزمة السورية أزمة لجوء، بينما الثاني يعتبرها أزمة إنسانية، وبالتالي يوجد فرق في التعامل بين لاجئ وبين شخص يعاني من أزمة إنسانية.
ويعيش النازحون على إيقاع الدولة اللبنانية وروتينها الإداري وقلة خبرتها في إدارة الأزمات، وعلى إيقاع مؤسسات الإغاثة التي تعمل من دون رقابة، سواء في ما يتعلق بصرف الأموال أو في ما يخص برامج الاغاثة.
انتظار مقابل حصص ضئيلة
يحصل كل نازح مسجل عملياً على دولار واحد بدل طعام في اليوم. ومع ذلك قررت “المفوضية” تخفيض عدد النازحين الذين يحصلون على المساعدات بنسبة ثلاثين في المئة. وتقول شدراوي: “إن برنامج الغذاء احتاج وحده إلى 116 مليون دولار خلال ثلاثة اشهر”. وتعتبر أن تقديم المساعدة يتم استنادا إلى معايير عدة، منها تركيبة العائلة، عدد افرادها، عدد العاملين بينهم، وجود أفراد معوقين في العائلة أم لا.
وتضيف “أن أي عائلة الغيت لها المساعدة الغذائية تستطيع طلب إعادة النظر في ملفها، من أجل تقييمه مرة أخرى”. ويمكن تخيل المهزلة – المأساة عندما يتقدم النازح الذي يحصل على سبعة وعشرين دولاراً في الشهر، بطلب استئناف. مع ذلك لا خيار أمام “المفوضية” سوى التخفيض، كما تقول شدراوي. وتوضح أن المفوضية تحاول مساعدة أصحاب المحال الصغيرة والمتوسطة من خلال التعاقد معها على بيع المواد الغذائية للنازحين من أجل إفادة الاقتصاد اللبناني، مشيرة إلى أن سبعين في المئة من المحال التي يتم التعاقد معها منتشرة في الشمال والبقاع.
وكي يحصل كل نازح على تلك المساعدة القليلة، يترتب عليه زيارة مقر “المفوضية” مرتين. الأولى، لدى تقديم المعلومات الأولية، والثانية لتسجيله، بعد مرور فترة شهرين. وتتضمن المعلومات أسماء الأشخاص وأماكن سكنهم، وأعمارهم، وأوضاعهم العائلية. بعد ذلك يحصل النازح المسجل على بطاقة الكترونية من إحدى الجمعيات التي تعينها “المفوضية”، وتكون عادة قريبة من مقر إقامته، من أجل شراء حصة غذائية قليلة بقيمة سبعة وعشرين دولاراً شهرياً، والحصول على مساعدات صحية أولية.
وترى شدراوي أنه لا توجد طريقة أكثر سهولة للحصول على المساعدة. ولدى سؤالها عن إمكانية إعطاء النازح البطاقة الغذائية مباشرة لدى قدومه للتسجيل في المرة الأولى، تجيب أن العدد الضخم للنازحين، يرتب توظيف أعداد كبيرة من العاملين، ثم أنه يعمل لدى الجمعيات في النهاية موظفون لبنانيون. بالإضافة إلى بعض الجمعيات التي توظف شباناً وشابات من النازحين السوريين أنفسهم. وتعتبر أن “المفوضية تجري مقابلتين للتأكد من المعلومات، التي يقدمها الأشخاص، وبأنهم فعلاً من النازحين، لأنه يوجد عدد من اللبنانيين الذين يطبعون هويات سورية مزورة، وسوريون مقيمون في لبنان قبل الأزمة، لكن عدد الفئتين قليل”.
وتؤكد شدراوي أن “كل نازح مسجل، يحصل على اعتراف من الأمم المتحدة بأنه يحتاج إلى الحماية. وفي حال حصل معه حادث وتم توقيفه، تستطيع المفوضية التدخل مع السلطات المعنية لحل المشكلة. لكن اللوائح نفسها تقدم إلى الدول المانحة من أجل التأكد بأن أموالها لا تذهب سدى، ومعها تقدّم طبعاً جميع المعلومات التفصيلية عن كل نازح”. وتعتبر أن العائق الأكبر الذي “تواجهه المفوضية هو توصيل المعلومة للاجئين، مع التذكير بأن لدى برنامج الغذاء مكتباً في بيروت يغطي الجنوب وجبل لبنان أيضاً، ومكتبين في القبيات وزحلة”.
وبعد زيارته للبقاع أشار السفير الألماني في لبنان كريستيان كلاجز إلى أنه سيدون المعلومات التي أفاده بها أحد العاملين في “منظمة الرؤية العالمية”، وتتناول عائلات تم استثناؤها من لائحة برنامج الأغذية العالمية، مع العلم أنها “تنقط فقراً من رأسها إلى أخمص رجليها”. وقال إنه سيرفع تقريراً بأوضاعها لإعادتها إلى اللائحة، معلقاً: “نحن لا نعرف لماذا تم استثناؤها وكيف تبين لهم أنها ليست بحاجة لتلك المساعدة؟”.
المراكز الصحية
تتعاقد “المفوضية” مع عشرين مستشفى حكومياً، بالإضافة إلى مراكز الرعاية الصحية الأولية. وتؤكد جويل عيد من “المفوضية” أن أمراض السرطان وجميع الأمراض المزمنة لا تخضع للتغطية الصحية، وإنما تتم فقط تغطية الأمراض الجراحية التي تهدف لإنقاذ الحياة. أي أن الحالة يجب أن تكون خطرة جدا، بالإضافة إلى أوضاع النساء الحوامل والأشخاص المعوقين. ويترتب على أي نازح يطلب الإستشفاء أن يقصد مركزاً للصحة الأولية تتعاقد معه “المفوضية” من أجل الحصول على تقرير من الطبيب المعاين عن حالته الصحية. لذلك يقصد عدد كبير من السوريين دمشق من أجل العلاج المجاني، مع ما يرتبه السفر من تكاليف وخوف، لكنه يبقى أرحم من كلفة العلاج في لبنان.
وبحسب ناشطين في “مؤسسة عامل”، أنه حتى الرعاية الأولية تبقى ناقصة، لأن المريض يحتاج أحياناً كثيرة إلى صور صوتية أو شعاعية أو سكانر، ومنظار للمعدة والأمعاء، من أجل تشخيص أفضل، ولا تغطي المفوضية كلفتها. ولأن المريض يعجز عن دفع تكاليف تلك الصور قد يصف له الطبيب المعالج أدوية غير مجدية. كما أن الدواء قد لا يكون متوفراً حين يحتاجه المريض. ويشير الناشطون إلى نقص في الأدوية الأولية لدى تلك المراكز، والتي تستخدم لعلاج الأمراض الرائجة مثل الرشح، وأمراض الصدر والأمراض الجلدية.
التعليم في وقت الفراغ
لا يبدو أن أياً من الجهات العاملة في ميدان التعليم الخاص بالنازحين السوريين على استعداد للبوح بالأرقام التقريبية للأطفال الذين وصلوا إلى سن الدراسة. وتشير بعض الأوساط إلى أن الأطفال في ذلك السن يشكلون 40 في المئة من نسبة النازحين. وبالتالي إذا كان الحديث عن مليون نازح، فذلك يعني أن نحو ثلاثمئة ألف طفل وولد وبنت، يجب إلحاقهم بالنظام التعليمي، بينما يبلغ عدد اللبنانيين في المدارس الرسمية نحو 275 ألف تلميذ.
وفيما قررت “المفوضية” والحكومة إلحاق السوريين بالنظام التعليمي اللبناني من خلال فتح أبواب المدارس الرسمية لهم في فترة بعد الظهر، تعتبر بعض المؤسسات والمنظمات العاملة في المجال أنه قرار غير صائب لأسباب عدة، هي، عدم قدرة التلميذ النازح، بسبب ظروف النزوح وتركه بلده وبيته وألعابه، التركيز خمس ساعات يومياً على الدرس بعد الظهر، ومن خلال أسلوب تعليم جاف يقوم على تلقينه أكبر كمية من المعلومات في ساعات قليلة، مع استراحة قليلة تفصل بين هذه الحصص، توازي خمساً وعشرين دقيقة.
ثم تأتي صعوبة فرز الطلاب بحسب الأعمار أو التحصيل العلمي، بسبب الأوضاع التي عانوها والاختلاف في المناهج بين لبنان وسوريا، لاسيما وأن عدداً منهم ترك المدرسة لمدة من الزمن.
ذلك بالإضافة إلى أن ناشطين يرون أن “دفع مبلغ 650 دولاراً عن كل طفل سوري سنوياً لإلحاقه بالمدرسة، هو مبلغ كبير مقارنة مع المتطلبات الأخرى التي يحتاجها النازحون، وضمان الاستمرارية التي تفرضها أوضاعهم. وبالتالي قد تذهب تلك المبالغ سدى في حال عدّل الأهل عن إرسال أولادهم إلى المدرسة أو انكفأوا عن ذلك في السنة المقبلة، خصوصاً أن التسرّب المدرسي كبير بين النازحين”.
في المقابل تعمل “منظمة اليونيسف” والمنظمات الشريكة لها على إلحاق التلاميذ السوريين بما يُسمى التعليم غير النظامي. وقد خصّصت لهم حصصاً تفاعلية تعتمد على الأدوات البصرية. وتشير خبيرة التعليم في حالات الطوارئ لدى المنظمة رانيا زخيا إلى أن “اليونيسف تسعى لتعليم نحو 200 ألف طفل سوري. وقد خصصت لهم مناهج تفاعلية وفق أهليتهم العلمية، ويدرسون حيث يتواجدون في المخيمات والتجمعات وبعض المدارس الرسمية”. وتلفت إلى أن “تعليم النازح بمثابة إنقاذ لحياته، لأن المخاطر تحيط به، وجذبه إلى مناهج يستطيع التأقلم معها، حيث يقيم تبقى أفضل، حتى ولو لم تؤدّ في نهاية المطاف إلى نيله شهادة رسمية”.
وفي الإيواء، يشير العاملون في “الرؤية العالمية” إلى أن المخيمات العشوائية سوف تزيد وتنتشر، لا سيما في البقاع، لأنه لم يعد هناك سقف لا يأوي تحته عائلات سورية، فهم يشغلون مرائب السيارات وغرف النواطير والمستودعات، وحتى المباني غير المنتهية البناء. وبالتالي لم يعد أمام الجدد منهم سوى الإقامة في مخيمات عشوائية، الأمر الذي يتطلب خططاً خاصة للإغاثة. وبحسب سكان مخيم الدلهمية العشوائي في البقاع، تدفع العائلة نحو 250 ألف ليرة، بدل إيجار الأرض سنوياً، بينما يتطلب إنشاء الخيمة وتأهيلها نحو 600 ألف ليرة.