أزمة الهوية في الإعلام السوري المعارض/ وليد بركسية
بعد سبع سنوات من الثورة السورية التي أفرزت مجموعة كبيرة من وسائل الإعلام المستقلة المعارضة للنظام في مناخ من الحرية غير المألوفة في البلاد، بات الإعلام المعارض يواجه أزمة هوية محتملة، تتخذ حاليأ شكل أزمة تمويل تهدد استمرارية عدد من وسائل الإعلام السورية المنتشرة في أوروبا وتركيا بشكل خاص.
وخلال الأشهر الماضية عبر مجموعة من الزملاء الصحافيين، في محادثات خاصة، عن قلقهم من إغلاق عدد من وسائل الإعلام التي يعملون فيها حالياً مع عدم وجود بديل، وهي مسألة قد تتضح بعد حوالي ستة أشهر، مع انتهاء عقود رعاية وتمويل عدد من الصحف والإذاعات التي تمر بمرحلة تقييم قد لا تسفر عن إعادة تجديد عقود الرعاية، وبقدر ما يرتبط ذلك بالأداء المهني لتلك الوسائل وقدرتها على العمل كمشاريع ناجحة لا تحتاج تمويلاً شاملاً فإنه يرتبط بما تقدمه تلك الوسائل والمهمة التي وُجدت أصلاً لتحقيقها، وهي تقديم منصة للأصوات المعارضة في البلاد وإفساح المجال لتقديم معلومات مستقلة عن بروباغندا النظام وحلفائه، من الناخية الميدانية تحديداً.
والحال أن وجود أزمة لا يمكن إنكارها حول مستقبل هذا الاعلام دفعت لعقد مؤتمر في فندق الريفييرا في بيروت، نظمته مؤسسة سمير قصير من أجل حرية الإعلام والثقافة “سكايز” ومؤسسة “فريدريتش ناومان من أجل الحرية” الألمانية، الجمعة، بمشاركة صحافيين سوريين معارضين أصحاب تجارب ناجحة متفاوتة في جودتها ومصمونها، مع خبراء أجانب، وفيما يبدو مصطلح أزمة الهوية غائباً ودرامياً إلا أنه يبقى حاضراً في كواليس اللقاء، عطفاً على حقيقة أن الإعلام السوري البديل قدم نفسه أصلاً كإعلام مرادف للثورة السورية، فيما كان الهدف منه لدى الجهات الداعمة تأسيس منصات تحتضن قيم مثل الحرية والديموقراطية والتعددية، وهو ما لم تتمكن كافة وسائل الإعلام من تحقيقه، وانعكس على أدائها الإعلامي ككل، في واحد من أبرز أسباب ابتعاد الممولين عن تقديم مزيد من الدعم في الوقت الراهن، وسط ظروف سياسية وعسكرية متغيرة.
وحسب دراسة أجراها باحثون في “سكايز” حول الاعلام السوري العام 2017 مازالت الأخبار هي المادة الأكثر شيوعاً في الاعلام السوري البديل، بنسبة 76% مع تراجع في نسبة المواد التحليلية والمقابلات غيرها من الفنون الصحافية، علماً أن بعض الوسائل لا تنشر سوى الاخبار مثل وكالة “قاسيون” للانباء بينما تركز المجلات مثل “طلعنا ع الحرية” قبل إغلاقها والمواقع النخبوية مثل “الجمهورية” على الدراسات والمقالات الشخصية بشكل شبه كامل، ويظهر ذلك، وهو أمر لم تشر له الدراسة، إلى خلل ما في طبيعة الاعلام بشكل يعكس ازمة هوية، بمعنى أن الاعلام الذي نشأ اصلاً بصفته ثورياً بات يفقد تلك الصفة مع حقيقة انحراف الثورة السورية عن مسارها لتصبح حرباً اهلية طويلة المدى، ومع انقلاب موازين القوى لصالح النظام السوري واقتراب نهاية النزاع السوري، وانخفاض الضغوط الدولية لرحيل الأسد مع عدم توفر بديل حقيقي له، باستثناء الجهاديين الذين استولوا على المشهد المعارض منذ 2013.
يلاحظ هنا أن خطاب الاعلام المعارض بشكل عام، بقي محافظاً على منطلقاته الراديكالية وتبدو بعض الوسائل اليوم وكأنها عالقة عند العام 2011، ويمكن تلمس ذلك في أن أخبار اللجوء السوري في وسائل الإعلام التي شملتها الدراسة لا تتعدى نسبتها 9% لصالح الأخبار العسكرية رغم انخفاض مستوى العنف في البلاد بشكل كبير مقارنة بالسنوات السابقة، ما جعل وسائل الإعلام البديل تفقد شيئاً من مصداقيتها أمام الممولين، وحتى أمام محرك البحث “غوغل” الذي لا يضمن سوى بعض الوسائل ضمن وسائل الاعلام الموثوقة في خدمة “غوغل نيوز”، ومنها صحيفة “عنب بلدي” التي تعتبر من بين وسائل الاعلام المعارضة القليلة التي تطورت بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة، علماً أن 40% من الأخبار المنشورة في وسائل الإعلام التي شملتها الدراسة كانت بلا مصادر!.
وفي حديث مع “المدن” لا يرى رئيس تحرير صحيفة “عنب بلدي” المعارضة، المشارك في المؤتمر، جواد شربجي، بأن هناك أزمة هوية في الإعلام السوري البديل اليوم، بل العكس “هناك عودة من قبل وسائل الإعلام التي سميت في مرحلة ما بإنها إعلام ثوري إلى قواعد المهنية الصحافية بشكل أكبر، وأصبح هنالك إدراك أكبر بضرورة التوجه للجمهور السوري كله ولا سيما بعد التسويات السياسية التي حصلت وأثبتت أن الناس سوف تتصالح وأن القوى السياسية والعسكرية سوف تتصالح وأن على الإعلام استعادة بوصلته وهي الجمهور السوري داخل وخارج البلاد” مضيفاً أنه يتلمس ذلك من تجربته ومن خلال حضوره للقاءات على مستويات مؤثرة في الإعلام السوري.
ويؤكد شربجي أن الدعم والتمويل لم يؤثر في خلق والتأثير على هوية الإعلام السوري، وبالتالي لا يشكل غيابه أو انحساره اليوم سبباً في التأثير على الهوية نفسها، لأن العديد من تلك الوسائل كانت سابقة للتمويل أصلاً، وبالتالي ما قد يحصل هو نقص في الإنتاج وإغلاق لبعض الوسائل لأن التمويل يعتبر عصب العمل الصحافي في النهاية، مؤكداً أنه لا توجد أي وسيلة إعلامية غيرت توجهاتها الصحافية والسياسية بشكل كبير بسبب ضغوط الممولين أو تغير أولوياتهم.
من جهته يرفض خالد خليل، من جريدة “سوريتنا” المعارضة وسكرتير تحرير موقع “الشبكة السورية للإعلام المطبوع” وهو اتحاد من 7 صحف سورية معارضة، تسمية الإعلام البديل لأنه “بعد 7 سنوات من العمل الإعلامي تحولت وسائل الإعلام السورية إلى مؤسسات مستقلة” مفضلاً تسمية “الإعلام الناشئ الذي يحاول إيجاد هوية خاصة ولم يصل بعد إلى تلك المرحلة”، لافتاً إلى أن غياب الدعم المادي الدولي اليوم عن وسائل الإعلام السورية لن تؤثر على توجهات الإعلام نفسه لأن ذلك الإعلام بدأ أصلاُ بشكل جهود فردية من الناشطين لتمثيل صوت الضحية وكسر احتكار النظام السوري للفضاء الإعلامي، ثم أتى التمويل كعنصر لاحق وليس العكس، مؤكداً أن الدعم انقطع بشكل شبه كامل عن العديد من الوسائل، منها “سوريتنا”.
ويقول خليل أن الدعم الذي تتلقاه وسائل الإعلام يعتبر “دعماً نقياً لأنه لا يتدخل بالمضمون الإعلامي بشكل نهائي بل هو جزء من سياسات الدول الغربية العظمى لدعم الإعلام الحر والثقافة والتعدد، مع التركيز على قضايا حقوق الإنسان، من دون توجيه تعليمات بتغطية محددة أو إهمال التغطيات العسكرية والسياسية الأخرى مثلاً التي تفرض نفسها”، مضيفاً أن بعض الصحف اليوم مستمرة في العمل رغم أنها لا تتلقى أي أموال لتغطية رواتب موظف واحد فيها فقط، ويعزو ذلك لتغيير السياسات الدولية بات معها الإعلام السوري اليوم “ضحية تنميط سابق بوصفه إعلاماً محلياً بديلاً يعبر عن الثورة فقط”، لتصبح أزمة الهوية ضمن الإعلام السوري، أمراً متخيلاً لدى المانحين فقط يتم تعميمها بشكل جائر.
يشار هنا إلى أن “الشعبوية” شكلت أبرز صفات الإعلام المعارض من ناحية الصفات والتسميات بحق النظام السوري، وتحديداً في مواد الرأي التي قد تتحول بشكل خطر إلى منصة لخطاب الكراهية والتحريض الطائفي والعرقي. وهي أسباب قد لا تكون كافية لحجب التمويل او عدم تجديده عن بعض الصحف المعارضة، لأنها ظروف يمكن تجنبها بالتدريب وتطبيق الملاحظات، بموازاة غياب الحديث عن أسباب أكثر عمقاً ترتبط بانحسار التمويل، مثل حالات الفساد والاستغلال للاستفادة من مصادر التمويل لأغراض شخصية مثلما يتحدث بعض الصحافيين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو مدى ارتباط التمويل بجودة الأداء الإعلامي وبقدرة كل وسيلة على البقاء والاستمرار من دون دعم لأنه أي منظمة غير مجبرة بتمويل أبدي للإعلام السوري في النهاية، حيث تنحصر مهمة المنظمات عادة بإنشاء ودعم المشاريع الجديدة التي تحتاج مساعدة في “بداياتها” فقط. وللأسف يغيب هنا الحديث عن الإذاعات السورية التي تشكل جزءاً هاما من الاعلام المعارض، وإن كانت التقديرات تميل لشملها ضمن نفس الرؤية السابقة.
في السياق، يربط أيمن مهنا المشرف على الدراسة بصفته المدير التنفيذي لـ “سكايز” خلال الحوارات التي تلت عرض نتائجها، بين استقلالية وسائل الإعلام وبين استمرارية التمويل، لأن التخبط الذي حصل لدى الممولين مرتبط بالرؤى السياسية والتحولات الواقعية على الأرض، حيث كان الفكر السائد يتخيل أن الحرب في البلاد ستنتهي بسقوط النظام سريعاً خلال عام أو عامين، ما جعل التمويل مخصصاً لإعلام يكرس قيم الحرية والديموقراطية، لكن انحراف مسار الحرب والثورة جعل التركيز ينصب الآن على ضرورة خلق مشاريع جديدة تكافح الإرهاب، بعيداً عن الاعلام الموجود ربما.
ويجب القول هنا أن الدعم والتمويل يأخذ صيغاً مختلفة منها التدريب والإشراف على صناعة محتوى إعلامي بجودة عالية، وقد لا يتضمن تقديم دعم مادي مباشر، وبعض المؤسسات تعمل مع الاعلام السوري وحرية التعبير قبل العام 2011، مثل “إنترناشيونال ميديا سابورت” وهي منظمة دانمركية تتلقى دعماً من متبرعين اسكندنافيين، وزاد اهتمامها ونشاطها الخاص بسوريا بعد العام 2011، ورغم أن الدعم المقدم عبر برامج التدريب قد انحسر بدوره جزئياً إلا أن الأزمة الحالية التي أصابت الاعلام السوري المعارض باتت أمراً يتكرر الحديث عنه خلال الشهور الماضية، لكونه يهدد بقاء وسائل الإعلام القائمة ومصدر رزق عشرات الصحافيين السوريين، وذلك بسبب شروط مختلفة طارئة من طرف الجهات المانحة، بعضها يرتبط بالاداء المهني أو المشاكل البنيوية والتنظيمية، وهي أمور يمكن تجاوزها بتنسيق وعمل أفضل، لتصبح المسألة في هذا التوقيت أزمة وجودية بلا أي أفق للحل، مع إغلاق العديد من الوسائل خلال الفترة الماضية، والتي لا تتوفر أرقام دقيقة بشأنها، والتحذيرات من إغلاق وسائل اخرى باتت تحظى بأقل قدر من الدعم مقارنة بالدعم الهائل الذي تم تقديمه سابقاً لها.
وتشير سوزيغ دوليت، وهي مستشارة إعلامية فرنسية لمنظمة “CFI” التي ترعى تطوير الاعلام البديل، إلى أن شروط الدعم تغيرت على مستوى الرعاة للمنظمات الوسيطة التي تتلقى دعماً لإيصاله إلى وسائل الاعلام السوري الناشئة، ويشمل ذلك حكومات وبرامج رسمية من الاتحاد الاوروبي أو الولايات المتحدة وجهات أخرى ومنظمات كبرى أيضاً، ولا يعود إلى قلة اهتمام منظمات رعاية الاعلام البديل بتقديم خدماتها للاعلام السوري تحديداً.
والحال أن تغير الظروف السياسية بهذا الشكل يبدو مؤسفاً لوسائل الاعلام المعارضة التي قدمت تجربة مثيرة للإعجاب في أكثر الظروف صعوباً، وتحديداً من ناحية الموقف الإنساني، خصوصاً أنها لا تستطيع الصمود من تلقاء نفسها في عالم الإعلام المتراجع دولياً وحتى على صعيد المنافسة مع وسائل اعلام النظام وحلفائه على المدى البعيد، خصوصاً ان تلك الوسائل مضطرة لتقديم مشاريع مكتوبة كل بضعة أشهر للحصول على الدعم وتجديده أو الى الحصول على عدة مصادر داعمة في نفس الوقت، ما يؤثر بدوره على جودة المنتج الاعلامي ويؤدي إلى فشل في وضع خطط للبقاء على المدى البعيد لأن ذلك ليس مضموناً، وهو ما يقوله إينيركو دي أنجيلس، الخبير الإعلامي الإيطالي المتخصص في تطوير الإعلام.
ويجب القول أن الحديث عن نهاية قريبة للحرب السورية ساهم بشدة في خلق سردية بعدم وجود حاجة للإعلام الثوري والإعلام المعارض، ويقول ألكس رويل، مدير إحدى جلسات النقاش في المؤتمر ورئيس تحرير صحيفة “الجمهورية” المعارضة باللغة الإنجليزية، لـ “المدن” أنه لا يرى نهاية قريبة للحرب السورية بدليل أن شهر أيلول/سبتمبر الماضي كان الشهر الأكثر دموية من ناحية عدد القتلى خلال العام الجاري، وبالتالي فإن السؤال هو ما الذي سيحل بالإعلام البديل عندما تصبح سوريا محط الاهتمام الدولي الأول وبقعة ساخنة وهو ما يخلق الخوف من تغير المزاج الدولي.
وبالنسبة للحلول يرى رويل أن الحل يقتضي إيجاد مصادر تمويلة مستقلة وأن يجد الإعلام السوري البديل مصادره الخاصة عن طريق الإعلانات أو الاشتراكات وهي مشكلة بعاني منها الإعلام في كل العالم بما في ذلك الصحف الكبرى في أوروبا والولايات المتحدة، مع ضغط السوشيال ميديا وتغير طبيعة الإعلام نفسه، لكن يجب على الإعلام السوري بشكل خاص عدم الاعتماد على الممولين لأن التمويل يبقى لحظياً وقصير المدى ولا يوفر استقراراً دائماً، لافتاً إلى أن جودة المنتج الصحافي قد لا تكون مرتبطة بانقطاع أو بقاء التمويل ما يعني أنه لا توجد ضمانات بأن الإعلام السوري الأفضل سوف يستمر بعد الأزمة الحالية، بناء على توجهات سياسية محددة مثلاً.
المدن