صفحات الرأي

أزمة اليسار –ثلاثة مقالات-

 

اليسار والمعاندة الفكرية/ دلال البزري

كما في الدين، كذلك في اليسار. بعد سيطرة الإسلامَيين المذهبيَين، الشيعة والسنة، على الساحة العربية، يريد اليساريون تجديد فكرهم، إصلاحه، إعادة بعثه، بل “تثويره”، أحيانا: منكبّون على سبر أغوار فكرهم، على شحذ همّته المفهومية، على قراءة سطوره الخفية، لعلهم يجدون الداء الشافي لمرض الإرهاب الديني والفوضى العارمة. مثل الحريصين على إيمانهم، على جوهره وتألقه، يعتقدون في مكان ما من عقلهم، بأن يساريتهم، عقيدتهم، هي الأجدر بأن تُرفع الى مصاف الحاكم لمصيرنا، بدل الإسلامَين “الجهادي” أو “المقاوم”. وهذه الفرضية التي يؤمنون بها، إيمانهم بعقيدتهم اليسارية، تجرّ فرضية أخرى، لا تقلّ عنها تواضعاً: بما ان الإسلام السياسي قد انقض علينا، فذلك يعني بأن شعوبنا تعاني من فراغ، لن يملأه غيرنا. فمن قواعد يساريتهم انهم أصحاب الصدارة في الأدوار؛ ودورهم الآن هو البحث عن الطريقة الفكرية في إضفاء الجاذبية على اليسار، ليكون هو البديل. ما يجرّهم مباشرة نحو السؤال المقدس: ما العمل؟ ما العمل بهذا الإنتصار الجارف للفراغ؟ ما العمل ليكون اليسار، أي نحن، هو صاحب الكلمة في تقرير وجهة أمتنا، ومصيرها؟

والحال، ان صفوف اليسار منقسمة إلى خطين متعارضين. الأول، هو ذاك الذي استنفد كل أولوية عدائه لـ”الشر المطلق”، من امبريالية وصهيونية، المتآمرين علينا منذ المهد… فانضموا الى محور “المقاومة” الإسلامي الإيراني، على أساس انه يحرر فلسطين ويهزم الامبريالية. ولكن هذا المحور في طريقه الى الإتفاق مع الاميركيين لتوكيله بوظيفة شرطي منطقتنا؛ فيما اسرائيل تنقز، ليس لأن هذا المحور سوف يرفع ظلمها التاريخي عن الفلسطينيين؛ إنما لأنه ينافسها على هذه الوكالة. وبذلك يسقط من يد هذه الفئة من اليساريين موقفهم “الاستراتيجي” بدعم هذا المحور. وهم الآن ساكتون، إلا عن “معركة” نبيلة أخرى مع الامبريالية والصهيونية تشغلهم عن صمتهم: فكانت حربهم على الإسلاموفوبيا، التي يعرفونها، على انها اضطهاد للمسلمين، لا خوفا من تجليات الإسلام الراهنة، ونقدا لمحمولاته الدموية.

في الضفة الثانية من اليسار، أولئك الذين لم يرتكبوا خطيئة خدمة الامبراطورية الإيرانية المعاصرة، اعتنقوا الليبرالية أو الديموقراطية أو “حقوق الأنسان” أو “المجتمع المدني”. ولكن سباتاً فكريا ظل يلحّ عليهم، وليس في حوزتهم إلا فَضَلات أيام مضت، كانت حلوة بالنسبة لهم. ولكن هذه الفضلات لا تعينهم على تسمية ما يحصل حولهم، على وصفه، على منحه بعض المعنى؛ فما بالك لو كان المطلوب منهم ليس أقل من ملء فراغ فكري هائل يجتاح المنطقة؟ بما تعينهم الأنتي امبريالية؟ أو الأنتي صهيونية؟ أو الأنتي اسلاموفوبيا؟ أو الأنتي ليبرالية؟ بماذا يفيدهم أن يظلوا على عدائهم التقليدي لـ”الرجل الأبيض” وهجائهم المتواصل لـ”الإستشراق الاستعماري”؟ ماذا يضيفون في فهمنا لـ”الليبرالية” أو “الديموقراطية” أو..عندما ينوون استردادها الى يساريتهم؟ هل يكونوا بذلك يساريين إصلاحيين؟ أم يساريين كوريين شماليين، أو كوبيين؟ أم يساريين على الطريقة الصينية والروسية؟ ستالينيين في الحكم، ليبراليين متوحشين في الإقتصاد؟

أن تبقى يسارياً اليوم، وأن تصرّ على إعادة إحياء اليسار ليملأ الفراغ الذي سدّه التقاتل المذهبي بين أصوليتين، يعني انك كنتَ، في شبابك، يسارياً، وما زلت وفياً لشبابك؛ أو انك، لو كنت أصغر سناً، قد تكون تعرفت على يساري هرم، أو نشأت في بيت يساري، أو بيئة يسارية، كما نشأ مجايلون لك في بيئات محافظة يمينية أو رجعية. يعني انك بالضرورة تقليدي، على طريقتك: تنتج الأدبيات الحديدية، التي أُدخلت اليها “تحسينات”، من باب العصر، ولكنك لم تكتب نصا جديداً منذ عهود. إذ انك، بثوابتك التي تعتز بها، لا تفعل أقل مما فعله الإسلامي، أو اليميني، أي معاندة للواقع. فبأية مادة فكرية يمكنك أن تملأ فراغاً، إذا بقيتَ تعتقد بأنك صاحب الإجابات الصحيحة، “عموما”، دائماً عموماً؟ وإذا بقيت تعتقد بأنه يكفي أن تضيف “الديموقراطية”، أو إحدى أخواتها، إلى “برنامجك” الجديد، حتى تجد الحل، الذي لا حل غيره؟

لا، ليس المقصود هجاء اليسار واليساريين، بل فقط القول بأن تبقى يسارياً اليوم يعني انك على درجة عالية من المعاندة الفكرية.

المدن

 

 

 

عصر ما بعد اليسار/ ناظم مهنا

إذا كان الشطر الأكبر من القرن العشرين هو العصر الذهبي لليسار، فنحن اليوم في زمن آخر، زمن «ما بعد اليسار» إذا صحّ القول، وقد يجعلنا هذا نرنو إلى الحالة من خارجها، ونقاربها بأقل قدر ممكن من العاطفة. بداية، مَن هو اليساري، ما ماهيته، ما أوصافه، ما أهدافه، وهل اليسار كتلة واحدة أم أفراد؟

أعتقد أنه ليس من السهل الإجابة على هذه الأسئلة، التي تبدو بسيطة، من دون النظر إلى الصورة النمطية التي قدّمتها السردية الشاملة والملحمية عن اليساري في فترة بطولته، والتي اختلط فيها الواقع مع الخيال أحياناً؛ فمهما حاول البعض أن يبخس اليساريين حقهم إلا أنهم كانوا أبطال مرحلتهم بامتياز، وكان حضورهم طاغياً على الصعيد العالمي، ففي السنوات الأولى للثورة البلشفية قلّما نجا مثقف أو كاتب في العالم من تأثيرات هذا الفكر الاشتراكي أو اليساري.

يعرف الجميع أن بلاد العرب لم تكن بمنأى عن هذا التأثير، فمنذ مطلع العشرينيات في القرن الماضي، تكوّن الرعيل الأول لليسار العربي، فظهرت في مصر وبلاد الشام شخصيات وتجمّعات وأحزاب شيوعية، هبّ أفرادها (المعلمون) يكرزون بمبادئهم الجديدة، حتى بلغوا بها في وقت قصير أقصى القرى والدساكر والأحياء المظلمة.

لقد كان لهذا الرعيل والرعيل الذي تلاه أيضاً دور في نشر فكر جديد وحديث في مناطق تعمّ فيها الأمية والفقر، لكنها تعجّ بالأحلام؛ ولذلك لا نستطيع أن نقول إن اليسار العربي والماركسي منه تحديداً أخفق في كل شيء. أعتقد في تقريره إلى شعوب الشرق كان لينين واقعياً جداً، كعادته، في النظر إلى الشيوعيين في المستعمرات وفي بلدان المشرق، مشيراً إلى صعوبة عملهم وحدود الدور الذي يمكن أن يقوموا به، وهو في نظر لينين مهم جداً على ضآلته. وأعتقد أن اليساريين نجحوا إلى حد كبير في تأكيد حضورهم الثقافي والتحرري، ولذلك كان أصحاب اليسار جزءاً من ديالكتيك العملية الثورية العالمية؛ وذلك رغم الظروف الصعبة، والمطاردة والمعتقلات، والموت تحت التعذيب. كان اليساريون كمن يرقص على الجمر؛ حملَة تنوير وتحرّر وحداثة، وإذا اعترفنا لهم بهذا نكون قد أوفيناهم بعض حقِهم، أما الذين يستهويهم اليوم جلد اليسار العربي والتحدّث عن إخفاقاته، فيحمّلونه مسؤولية كل ما آلت إليه الأمور، فهذا جحود ما بعده جحود، ومبالغة في تحميل هؤلاء ما لا طاقة لهم على تحمّله، وقفز عن الواقعية والظروف التاريخية التي نشأ فيها هذا اليسار، واستهانة بالأحلام النبيلة، فحساب الأمور بالنتائج ليس أمراً ثقافياً على الإطلاق، بل هو أقرب إلى منطق أرباب العمل ورجال المال.

قد تكون واحدة من أخطر مشاكل تاريخ اليسار، أنه لطبيعة طوباوية فيه، وعدَ بأكثر مما يستطيع أن يقدّم. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فهل نجح اليمين والبرجوازية العربية في شيء؟! لقد كان بيدهما ما لم يكن بيد اليساريين. أجل قد توجد أخطاء عديدة في سيرة حياة اليسار، ولكن المصير المأساوي لهذا اليسار، وفق نيتشه، هو النسق الأهم في هذه السردية إذا كنا نريد أن نتحدّث من منظار ثقافي، ويمكن أن نلخص الحكاية على الشكل التالي: «الزمن: مطلع القرن العشرين حتى السبعينيات منه أو أكثر بقليل. والمكان: قلب العالم العربي (مصر وبلاد الشام) والحالة العامة: ليل مطبق، ظلمات فوقها ظلمات قرون، إلا بقع ضوء تنوس من هنا وهناك، وومضت على أشدّها في ما سُمّي عصر «النهضة العربية الأولى» الموؤود.

حالمون

في هذه الظروف، انبرى رجال حالمون بالتغيير، يحملون طاقة كبيرة من الأمل، مستجيبين لأصداء كونية كانت تتجاوب في كل أنحاء العالم. ولنا أن نتخيّل أن هؤلاء الفرسان لم ينوجدوا ولم تلامسهم الموجة أبداً، كم ستكون الحكاية موحشة ومقفرة؛ بل إلى أي حدّ كان سيبلغ التصحر؟! مع هؤلاء ازدهرت الثقافة والجدل والصحافة وانتعشت الفنون على قدر الإمكان، وتراكمت الترجمات المختارة التي كانت لنا نحن الأجيال اللاحقة كمصل الدم للمريض. وإذا كان من الطبيعي أن يرفض اليسار شرعية السائد، وهو في أهم تعريفاته أنه رفض دائم، ويدعو إلى تغيير هذا الواقع، فإن اليمين لم يعترف اعترافاً حقيقياً بوجود اليسار إلا بصفته جماعة مارقة من الأفاقين الملحدين والمنحلّين أخلاقياً، والذين يتلقّون التعليمات من السوفييت.

على كل حال ورغم هذه الحملات ضدهم استطاع اليساريون أن يفرضوا حضورهم الجماهيري، وأن تدور في فلكهم حركات جديدة أكثر راديكالية أحياناً. ولكن، هل كان اليسار العربي راديكالياً حقاً؟ من خلال اطلاعي المتواضع على تاريخ هذا اليسار الرومانتيكي، أستطيع أن أجزم أن الجسم الرئيسي «الأرثوذكسي» لليسار كان إصلاحياً وأبعد ما يكون عن الجذرية ويتأفف بشدة من الشعارات التي تدعو إلى العنف المسلح، والتيارات الأكثر تطرفاً والمنشقة عن هذا اليسار (الرخو) لم تمارس العنف المسلح إلا في أحلامها أو مفرداتها الشعبوية، والأمثلة على ذلك كثيرة، طبعاً إذا ما تغاضينا عن الأساطير والحكايات التي كرّسها شعراء اليسار عن ثورات مسلحة، لا تتعدّى أن تكون حوادث عابرة تم فيها الاحتكاك مع بعض الدرك!

اليسار العربي عموماً كان بمجمله يساراً ثقافياً تنويرياً ولم يتعدّ ذلك إلا في حالات نادرة مارس فيها اليساريون المقاومة، كما فعل اللبنانيون وبعض الفصائل الفلسطينية، وإذا كان مظفر النواب وحيدر حيدر قد تغنوا بثورة الأهوار في جنوب العراق؛ فقد سمعتُ منذ سنوات شهادة تلفزيونية لــ «عزيز الحاج» أحد القادة الشيوعيين الذين ينسب لهم هذا النشاط الثوري المسلح يقول مبتسماً: إن ثورة الأهوار لم تكن إلا مجموعة رفاق من تسعة أشخاص تاهوا في أحراج القصب، وصادفوا في طريقهم مخفراً للشرطة فيه بعض الحراس النائمين، فاستولوا على بعض البنادق وتمت مطاردتهم والاشتباك معهم. وسمعت أساطير مشابهة عما كان يُسمّى منظمة «أنصار» المشكّلة من بعض عناصر من ثلاثة أحزاب شيوعية انبرت للمشاركة في العمل الفدائي، وكان هذا تعبيراً عن الجدل القائم داخل اليسار الشيوعي حول الكفاح المسلح، والذي تطور إلى انشقاقات كبيرة داخل هذه الأحزاب.

عصر اليسار

أما اليوم وقد مضى عصر اليسار، وبات وكأن الزمن الذي يفصل بيننا وبين ماركس ولينين وتروتسكي يعادل قروناً؛ حتى يصحّ أن يتوهم البعض أن الأبطال الكلاسيكيين الثلاثة بكل ما أحدثوه من وقع شديد على إيقاع العالم الحديث ينتمون إلى عصور ما قبل التاريخ، ويا لها من مفارقة! تجيز لنا أن نستشهد لها بمقطع من قصيدة بتلر يتس «المجيء الثاني» وكأنها رثاء متقدم لليسار على شكل نبوءة: «المركز يتفتت والخيّرون يفتقدون أي يقين!». نحن اليوم، وقد دخلنا في عصر اللويثان الجديد، بعد أن بدا العالم للوهلة الأولى وكأنه يوضع بين أيدي (التكنوقراط المحايد) ليتبين أنه بين أيدي أعتى اليمين (المحافظ) الذي لم يتوقف للحظة عن تسعير الحروب، وإحياء العنصرية، وتغذية أشد الحركات الدينية ضراوة وظلامية، وفي ظل غياب تام لليسار بعد أن سُرق منه كل شيء، واستُخدمت شعاراته من قبل أعدائه التاريخيين في أبشع صورة! في عصر يضجّ بالحركات المجتمعية الخالية من المضمون اليساري والاجتماعي، يسمّونه: عصر الفوضى واللايقين، وعصر المتاهة و»المتاهة وطن المتشككين»، حسب وولتر بنيامين، عصر «مابعد اليسار واليمين والثالثيين» عصر لا يستطيع أحد أن يجزم أين سيكون المستقر. والعلم يكشف لنا اليوم مداخل للجحيم، وأعتقد أنه قد عثر حتى الآن على خمسة مداخل، قد تكون كافية لإدخال العرب كدفعة أولى ثم ليأتي بعدهم مَن يأتي. أما مَن يتحدثون عن أمل في انبثاق يسار عربي جديد، فشخصياً وبكل أسف لا أراه في الأفق القريب، بل يلوح في الأفق الشبح المشؤوم لغراب إدغار ألن بو وهو ينعق بجملته الكارثية وفي ليلنا الحالك: «ما مضى لن يعود».

إن تاريخ هذا اليسار العربي الذي انقضى له كل الحق في الدخول في النسق المأسوي، على أنه سردية ثقافية تنويرية يجب أن تقرأ بما لها وما عليها. وما من شيء يمنع إخلاصاً للثقافة والشعر والفن والتاريخ؛ من أن نرفع القبعات وننحني إجلالاً للرومانسيين الثوريين الذين احترقوا على فوانيس القرن العشرين الخادعة، وكانوا أبطالاً بلا انتصارات كبرى.

(كاتب سوري)

السفير

 

 

 

 

الاستنساخ اليساري/ عباس بيضون

ظل اليسار إلى يوم قريب بطاقة الدخول للمثقفين العرب وغير العرب، اليسار القومي واليسار الاشتراكي. لم يكن الفاصل واضحاً. قام اليسار بالتبعتين، حين نكصت الأنظمة القومية العسكرية عن التحرير وقعت المهمة على اليسار الاشتراكي الذي احتار بين الغايتين. كان عليه أن يتكفل بالتحرير وأن يحقق في الوقت نفسه الثورة الديموقراطية من ضمن النضال الاشتراكي. كان اليسار بطاقة المثقفين والتنظيمات اليسارية كانت بدقة تنظيمات مثقفين بينما بقي «الشعب» قاعدة تنظيمات شعبوية عائمة: تنظيمات المثقفين انتحلت لغة عمالية غائبة وادّعت تمثيل بروليتاريا غير فاعلة سياسياً وبدون استقلال عن الفئات الشعبية التي كانت لا تزال جمهور تنظيمات قومية مسلحة. كان اليسار الجديد انشقاق مثقفين عن الحركة الشعبية، لكنه يتصدى لقيادة تاريخية ولحق تاريخي بالقيادة ما دام عند نفسه صوت الطبقات المسحوقة والعمالية. كان الفارق كبيراً بين التكوين الطبقي للتنظيمات اليسارية، الذي يغلب عليه المثقفون، والبرنامج العائم الذي يجمع مهامَّ تحريرية إلى مهام ديموقراطية من ضمن نضال اشتراكي. لم يتح لهذا البرنامج أن يقوم على قائمتين، وحيث سهلت الظروف طرحه كما هي الحال في عدن سرعان ما غرق في صراعات شخصية وقبلية دامية وانهار من داخله وتم التخلي عنه.

لم ينجح اليسار جديده وقديمه في التصدي فعلاً لمهام أخذها على عاتقه بدون أن يتحقق من قدرته على النهوض لها، وقدرة الواقع نفسه على توفيرها. في وسعنا القول إننا كنا هنا أمام انتحال بحت لصفحات من التاريخ الاشتراكي هي نفسها كانت قد بدأت تهتز. لم يكن الانتماء البروليتاري ذا أساس حقيقي، والشعب المسلح استفز غير المسلحين وأوشك هذا على النفاذ إلى حرب بين الطرفين، بل بدأت الحرب وكادت تعم، حاملة معها ضغائن اتنيّة وطائفية. انفجرت في المقلب الآخر حرب أهلية استمرت سنوات بدون أن تنتهي إلى نتائج واضحة، سوى ما فرضه الاحتلال الإسرائيلي. انفجر الوضع الأهلي ولم يسع اليسار الناشئ أو اليسار السابق سوى الالتحاق بقوى لم تخف طابعها الاتني والطائفي. لم تكن هذه بأي من المعاني خسارة لقوى شعبية انخرطت في الحرب بقدر ما كانت خسارة لليسار الذي وجد نفسه ملتحقاً بمعسكر اتني وطائفي، كان في هذا الالتحاق بطبيعة الحال مقتله الفعلي. استمر اليسار الجديد يتكلم عن القيادة البروليتارية في حين كان يحارب إلى جانب طغام اتنيين وطائفيين ويتلقى عنهم أشنع التهم.

ليس في وسعنا أن نزعم أن اليسار القديم أو الجديد استطاع أن يبدع تحليلاً فعلياً للمرحلة وأن يضع من ضمن ذلك برنامجاً وخطة عمل. لقد كان اليسار على درجة من القشورية والسطحية بحيث لم يكفّ، قديمه أو جديده عن الاستنساخ. لقد التقط قديمه الخلطات السوفياتية «الطريق اللارأسمالي» بينما عاد جديده إلى سجال ثورة أوكتوبر. «القيادة البروليتارية للنضال التحرري والديموقراطي»، وبطبيعة الحال لم يكن ذلك كله إلا إسقاطات نظرية وتبريرات فحسب. لقد كان هذا هو السياق الدارج فيما كانت قوى طائفية نشطة تستولي على المنصة وتخرج اليساريين بالقوة أو بالتوافق من الساحة. هذا الوقت تلازم مع بداية الانهيار الشيوعي، سقطت المنظومة السوفياتية كلها، وكان هذا بطبيعة الحال إلغاء لسبب وجود اليسار وتدميراً لإشكاليته. منذ ذلك الوقت صار اليسار من التاريخ، صار فقط ذكرى أجيال شاخت أو شبت فيه. دبت الحيرة من جديد وعلى نحو أشد وأكثر عصفاً، لقد طار دفعة واحدة البناء النظري والنموذج التاريخي، حتى اليسار المنتقد للخط السوفياتي وجد نفسه بلا أرض وبلا سبب. كان من غير الممكن فصل التحليل والنظرية عن الممارسة. فقد كانت الممارسة هي النظرية والتحليل في العمل، لذا كانت التجربة السوفياتية وسقوطها هما اليسار الحقيقي، بقي على أن يتبنى تقريباً الليبرالية، أن يقف أخلاقياً مع الأقليات وضد أشكال الاضطهاد الاتني والجنسي والاجتماعي والثقافي. بالطبع خسر اليسار التحليل التاريخي والاقتصادي، ركيزتيه الأساسيتين، لم يعد علماً ولا قانوناً ولا حتمية، انه الآن منحى أخلاقي أكثر منه شيئاً آخر. لقد عاد إلى منبعيه الأساسيين: الحرية والعدالة.

السفير

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى