أزمة توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا/ د. مصعب قاسم العزاوي
يتسم عمل توثيق انتهاك حقوق الإنسان في سوريا بصعوبات مركبة ومتداخلة فيما بينها بدءاً من تصحر الوطن السوري من كل نشاط مجتمعي مدني حقيقي من قبيل الدفاع عن حقوق الإنسان خلال العقود الطويلة من تسيد نظام الاستبداد والدولة الأمنية المافيوية في كل مفاصل حياة المواطن السوري، وصولاً إلى مأساة التغييب القسري سواءً بالقتل أو الاعتقال للعديد من الناشطين الحقوقيين الذين تمكنوا، وخلال فترة وجيزة من عمر الثورة السورية، من الإمساك بالمفاتيح الأساسية للعمل في ميدان حقوق الإنسان وتقديمه في صيغة صحيحة وصادقة، على الرغم من أنها في معظم الأحيان ظلت تتراوح في حيز التوثيق الأولي الخام الذي يحتاج دائماً إلى التدقيق والتنقية لزيادة قدرته التأثيرية عند المتلقي له، ومروراً بالصعوبات المهولة التي تقارب المستحيل لتحرك الناشطين الحقوقيين في سوريا وقدرتهم على العمل المشترك فيما بينهم في الداخل السوري ومع رفاقهم الموجودين خارج حدود الوطن.
وما ساهم بشكل مؤلم في تشويش عمل ونتاج وتعقيد مهمة الناشطين الحقوقيين في سورية ظهور مؤسسة تزعم اهتمامها بالعمل في ميدان حقوق الإنسان وهي في واقع الأمر شخص واحد ليس لكيان المؤسسة التي يتحرك باسمها أي كيان اعتباري أو قانوني أو جسم تنظيمي عياني مشخص سواء في سورية أو في المهجر. وهو الذي قام دائباً بتحويل ضآلة العمل مجال حقوق الإنسان في سورية من توثيق لكل الانتهاكات التي تندرج تحت الأبواب الأساسية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلى عمل إخباري مسطح يتناول التطورات الميدانية في واقع المأساة السورية من اشتباكات ومواجهات وتفجيرات وحوادث قتل على أساس طائفي أو ثأري دون التحقق الموضوعي من أنها في الواقع الحقيقي كذلك.
ولأن معظم المؤسسات الإعلامية الغربية محكومة بمعادلة القرد الذي إن خيرته بين أنواع الطعام فلن يختار إلا الموز من كل ما لذ وطاب لأن ذائقة القرد وتكوينه البنيوي والوظيفي تفرض ذلك، فهي، أي تلك المؤسسات الغربية، ظلت تستمرئ كل الرسائل الإخبارية التي تصور الثورة السورية على أنها حرب أهلية على أساس طائفي ومنذ الأشهر الأولى لعمر الثورة السورية، وأنها لم تقم أساساً كثورة شعبية تطمح للتحرر من الاستبداد وتحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية.
ولذلك ظلت الوسائل الإعلامية الغربية الكبرى تدمن اختزال انتهاكات حقوق الإنسان في سورية بما تقدمه لها تلك المؤسسة/ الفرد من صور شوهاء عن الثورة السورية دون البحث أو التمحيص في مدى صدقية وتوثيق المعلومات المقدمة لها كتفاصيل لتلك الصورة الشوهاء، وخاصة إن كانت من قبيل أكل قاتل همجي لقلب قتيله دون تحليل وشرح الظروف الموضوعية التي أدت إلى ذلك التحول الوحشي وفق مبدأ العنف الذي لا يولد إلا العنف في السياق المكاني والزماني لتلك الحادثة الشاذة، وأن التعميم من حالة استثنائية هو خطأ ما لم يتم التحقق علمياً وإحصائياً من أن ذلك المثال الخاص تشخيص صحيح لحالة عامة وسائدة.
وما ساهم في مفاقمة صعوبة مهمة توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا وإيصالها إلى الإعلام الغربي هو تنطع تلك المؤسسة/ الفرد لتقديم أرقام تحصي أعداد القتلى من أفراد الجيش والجهات الأمنية السورية دون تقديم أي قوائم قابلة للتحقق من صحتها وواقعيتها، واستخدام تلك الطريقة المخاتلة وسيلة للتشكيك في مصداقية الهيئات الحقوقية الأخرى التي لا تستطيع أن تقوم بأي توثيق ملموس لأعداد القتلى من الجيش النظامي والجهات الأمنية الموالية لنظام الأسد لعدم وجود أي ارتباط بينها وبين الجهات الرسمية السورية المعنية بإحصاء أعداد القتلى من أفراد جيش النظام الأسدي وأجهزته الأمنية، وخاصة في ضوء التضييق المهول على ناشطيها وملاحقة معظمهم من قبل الأجهزة الأمنية السورية.
يضاف إلى ذلك وقوع كل الكيانات السورية الأخرى المعنية بتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سورية على اختلاف مشاربها في أسر المطلب الجوهري والثابت بضرورة الحفاظ على الاستقلالية المطلقة لكل أنواع العمل في ميدان توثيق انتهاكات حقوق الإنسان عن ارتهانات التمويل الخارجي المباشر وغير المباشر، والحفاظ على أن يكون العمل دائماً وفق مبدأ يقيني ينطلق من أن العمل في مجال حقوق الإنسان وخاصة في مثل الحالة السورية يجب أن يكون عملاً تطوعياً وممولاً بشكل ذاتي من مساهمات المنخرطين فيه فقط، وهو ما أصبح مطلباً مركباً ومعقداً خاصاً في ضوء النكبة الشاملة عمقاً وسطحاً لكل تكوينات المجتمع السوري المنتفض، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى اضطرار العديد من الناشطين الحقوقيين الذين لم يعودوا قادرين على القبض على جمرة الاستقلالية المادية إلى قبول عروض العمل هنا وهناك مع مؤسسات إعلامية وحقوقية غربية وعربية وهجران العمل في ميدان توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سورية بشكل موضوعي ومنهج.
وذلك كله كان قد وسع الفسحة لما أتينا على ذكره آنفاً للإدلاء بنتاجه غير الموثق على أنه توثيق لانتهاكات حقوق الإنسان في الإعلام الغربي خاصة وبعض الإعلام العربي المتكاسل أيضاً الذي لم يكلف نفسه عناء البحث عن الحقيقة الموضوعية بما يجرى في سورية إنْ لم يكن في الواقع منغمساً في معادلة تفارق المقول عن الفعل!
٭ كاتب سوري
القدس العربي