أزمة هوية
مصطفى زين
تعيش المنطقة العربية أزمة هوية، خصوصاً في بلاد الشام والعراق، اي في هذه البقعة الجغرافية المعروفة بتعددها الإثني والديني والمذهبي. تترجم الأزمة حروباً متواصلة ومتنقلة تتدخل فيها دول الإقليم والغرب، مستفيدة من هذه التعددية لتغذية الصراع وإدارته لمصلحتها.
خلال وجود سورية ولبنان تحت الاستعمار الفرنسي، بعد إعلانه كبيراً، كان بين الدولتين الكثير من المصالح المشتركة، مثل الجمارك والعملة، وكان الضباط اللبنانيون يدرسون في الكلية الحربية في حمص. وبعد الاستقلال ألغيت كل المصالح المشتركة، وبدأت محاولات تشكيل الهوية الوطنية لكل منهما. لكن سورية بقيت تنظر إلى لبنان وفلسطين والأردن باعتبارها أجزاء سلخت منها وتتحين الفرصة لاستعادتها. ولم تقتصر هذه النظرة على نظام دون آخر.
تتعامل دمشق مع اللبنانيين والفلسطينيين والأردنيين المقيمين على أراضيها مثلما تتعامل مع مواطنيها تماماً، لهم الحقوق ذاتها، عدا حق الانتخاب، وكان -ولا يزال- باستطاعة الفلسطيني التملك والانخراط في الجيش والحصول على الوظائف الرسمية والعامة والتعليم والاستشفاء المجاني. ولا يقتصر الأمر على المعاملات الرسمية، بل إن الشعب السوري يرى في هذه المعاملة مسألة طبيعية جداً.
في معنى آخر، كانت العروبة بالنسبة إلى النظم التي توالت على سورية، وبالنسبة إلى الشعب ممارسة عملية تخلو من التمييز بين مواطني بلاد الشام، حتى بالظلم والاستبداد الذي يلحق بالسوريين أنفسهم.
وفي حين راجت في المنطقة شعارات لبنان أولاً والأردن أولاً ومصر وفلسطين و.. و.. أولاً، بقيت دمشق ترفع شعار العروبة أولاً وأخيراً، إلى أن اندلعت الحرب، فبدأنا نسمع منظمات بعضها مسلح وبعضها غير مسلح ترفع الشعار ذاته وتبني عليه استراتيجيتها للعلاقة مع المحيط بعد سقوط النظام. وبدأنا نسمع من هذه المنظمات أن اللبنانيين والأردنيين والفلسطينيين يتاجرون بالسلع المدعومة ويعيشون على حساب دافع الضرائب السوري.
فجّرت الحروب في سورية أزمة الهوية، ولم تعد تسمية الجمهورية العربية السورية تعني المعارضة الكردية التي غضب ممثلوها في «المجلس الوطني» من هذه التسمية، واحتجوا على تسمية «السفارة» في الدوحة بهذا الاسم .
الملاحظ أن الجهاديين القادمين من مختلف البلدان، عربية أو غير عربية، يتفقون مع الجهاديين السوريين في أن هوية سورية، وبلاد الشام كلها، إسلامية، فالدين لا يعترف بالحدود ولا يقر الهويات المجتمعية إلا بما يتناسب والشريعة.
في مقابل أزمة الهوية في بلاد الشام، حسمت إسرائيل أمرها واختارت أن تكون دولة يهودية ليصبح الدين هويتها القومية، بهذا الخيار تستطيع الاستمرار في ممارسة عنصريتها ضد الفلسطينيين المقيمين على أرضهم، وتستطيع إصدار تشريعات وقوانين تبرر هذه العنصرية، وتعتبر الآخر، ايَّ آخر، عدواً. وكان لافتاً أن الرئيس باراك أوباما يؤيد هذا التوجه، متناسياً كل الاضطهاد العنصري الذي لحق، وما زال، بأبناء جلدته.
الحروب في سورية تبلور هويات بقوة السلاح وبالتدمير الممهنج لكل الروابط بين مكونات الشعب السوري من جهة، وبينه وجيرانه من جهة أخرى، فالهوية الجامعة، أي العروبة، بدأت تتفتت و «القوميات» التي ستفرزها الحروب ستكون خطراً على أصحابها وعلى بلاد الشام كلها، وربما يمتد خطرها إلى المحيط، خصوصاً التركي.
الحياة