صفحات الثقافة

أزيلـوا الطغيـان لا الإبـداع

 

عناية جابر

يسكنني هذه الأيام التي تتميز بطفرة انتفاضات وكثرة الكلام على الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، سؤال يتعلق بموقع الفن والفنانين في قلب اللوحة التي بدأت ترتسم تدريجاً في المنطقة العربية. فمن المفترض مبدئياً أن يكون الفنانون المبدعون الخلاقون وفي جميع ميادين الإبداع والفن، بحالة نشوة وعطاء استثنائيين. هذا على الأقل ما تعلّمنا إياه الحالات الثورية التي تمر بها الشعوب.

إن المناخ الثوري عادة ما يفجّر الطاقات الخلاّقة الفكرية والفنية والإبداعية عموماً، ويحضّ الناس من كل ثنايا المجتمع على الخلق والإبداع. فالثورة كلحظة عبور إلى مجتمع أرقى، هي لحظة وعد تثير الشهية للانخراط في المشاركة في صوغها، ومن أكثر الفنانين حساسية بالوعد والعيد. فهل هذا حالنا اليوم؟ من يطلع على الكتابات والمنشورات الثقافية في العالم العربي حالياً يُصَب بإحباط شديد من محتوى هذه الكتابات التي تتراوح بين الخوف والقلق في أحسنها، وبين متشائم من نجاحها في جانبها المظلم. لكن المؤكد غياب الكتابات المتفائلة، حتى في صفوف داعمي أو ناشطي أو مثقفي هذه الثورات.

من المؤكد أن هذا القلق ليس وليد عُقَدٍ نفسية لدى مبدعينا أنفسهم، بل هو ثمرة ما تعد به ثوراتنا أو ما بدأت تنفّذه، حيثما تم لها الوصول إلى السلطة. أليس من اللافت في هذا السياق أن يكرّس الرئيس المصري «الثوري» الجديد أول عهده بل أول اجتماعاته بلقاء الفنانين المصريين من أجل تطمينهم وإدخال الثقة إلى نفوسهم القلقة على مستقبلهم؟ ومع ذلك لم يتبدد هذا القلق، وسرعان ما انطلقت الشائعات ضد بعض الفنانات، وسرعان ما هشّمت الشائعات بعض الفنانات وتكفلت الدعاوى القضائية المقامة من قبل المسؤولين الجدد ضد بعض الفنانين بالباقي. وكأن مناخ الرقابة قد اشتد وبدأنا نسمع بقطع مشاهد من مسرحيات، أو منع أفلام بالكامل، او الحجر على نصوص غنائية، او منع الرقص الشرقي في بلد الرقص الشرقي إلى ما هنالك من أشياء درجت عليها مصر مبدئياً، وتطال الآن تونس بما لها من سمعة فنية رائدة في العالم العربي، إلى بلدان ثورات أخرى.

وأكثر النوايا مكراً هي تلك التي تطال الفن والمبدعين والحرية اللازمة لهم، لا من قبل السلطات الجديدة، بل من قبل الجمهور نفسه. إذا كان من الصحيح ان الفنانين العرب قد تعودوا قمع السلطة قبل الثورات، فإن الصحيح اليوم، أو اللافت والمستغرب ان يتحول هذا القمع من السلطة إلى الجمهور نفسه. صار الناس يتكفلون بـ«النهي عن المنكر» وتعيين ما يجب أو ما لا يجب قوله أو فعله أو كتابته أو غناؤه أو تمثيله، أو رسمه. وبدلاً من إطلاق الطاقات وتكسير الحدود الفنية والاجتماعية، تضاعفت القيود والشروط إلى حد جعلت الفنان يحسب ألف حساب قبل إطلاق يده الفنية.

من المخزي ملاحظة مدى رحابة المناخ الفني والإبداعي وكثافة الأعمال الفنية وتنوعها ورقيها في الحقبات الملكية، وبين المناخ الرمادي الذي بدأنا نلحظه في أيامنا هذه، حيث يكثر الكلام على الحرية والدعوة إلى كسر القيود.

من المفيد الإشارة إلى أنه حتى في ظل الأنظمة التي تلت المرحلة الملكية والتي شابها الاستبداد، بقيت هذه الموجة الخلاّقة واستمرت في إبداعها وتألقها.

قد يردّ البعض أسباب ذلك إلى أنظمة الاستبداد نفسها، لكن هذا التبرير غير مقنع بما يكفي، ذلك أن الجو الإبداعي نجح رغم كل العوائق الاستبدادية في الحفاظ على تألقه وإبداعاته. فالسينما عرفت عصرها الذهبي آنذاك، كذلك المسلسلات التلفزيونية والمسارح والشعر والقصة والرسم والغناء والتمثيل.

في ثوراتنا اليوم مفارقة: وعود بالحرية كبيرة وقيود على الخلق أكبر، ومن هنا قلق المبدعين المشروع، وحرجهم، إذ لا يمكن لمبدع أن يقف على المستوى الأخلاقي، ضد شعب يثور ضد طغاته. حرج المبدع كامن بين هذين الحدين. فشعبه الثائر لإزالة الطغيان، يزيل في طريقه الإبداع أيضاً.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى