صفحات سوريةطلال المَيْهَني

أسئلةٌ مُعَلّقة: الوحدة الوطنية في سوريا

 

دمشق ـ طلال المَيْهَني()

يتم طرح مفهوم «الوحدة الوطنية» عبر خِطَابٍ روّجتْ له، على مدى عقودٍ من التاريخ السوري الحديث، حكوماتُ ما بعد الاستقلال، بما فيها النظام الاستبدادي الحالي. إلا أن هذا الطرْح لم يتعدَ أسلوب التسويق العاطفي، ولم يترافق مع تطبيقٍ لمفهوم المواطنة، أو مع اهتمامٍ حقيقي ببناء هويةٍ وطنية، أو تأسيس انتماءٍ وطني سوري.

ويبدو أن التركيزُ المُفْرِط على التكرار الخطابي لـ»الوحدة الوطنية» كان محاولةً لنُكْرَان عدم نضجها، ودليلاً ضِمْنِياً ولا واعياً على ذلك. وتتقاطع هذه الحالة غير الناضجة «للوحدة الوطنية» على المستوى العملي، مع حال الإبهام وعدم الوضوح على المستوى النظري المفاهيمي، كنتيجةٍ لعجزٍ مُزْمِنٍ في «النظرية السياسية» في منطقتنا. ويؤدي ما سبق إلى انعكاساتٍ جِدِّيَة على مفهوم «الدولة/ الوطن»، الذي يبقى مَلاذاً رومانسياً للمخيال الأدبي والنضالي، مع عدم قابلية الترجمة في ممارساتٍ سياسيةٍ/ اجتماعيةٍ واعيةٍ وناضجة.

ولكن مع التسليم بأن «الوحدة الوطنية»، التي يتم تلميعها شعاراتياً وخطابياً، لا تعكس بالضرورة حالاً من الممارسة الفعلية والواعية والمتجذّرة على امتداد الوطن السوري، إلا أن هذا لا يعني، في الوقت نفسه، بأن المُكوّنات السكانية في سوريا كانت تَنْهَشُ بعضها البعض. وللدقة يمكن توصيف «الوحدة الوطنية» التي شاعتْ في السياق السوري بأنها حالةٌ مهذبةٌ من «التعايش الأهلي» المُعْتَمِد أساساً على حُسْنِ النيات وحسن الجوار، وعلى إرْثٍ من القِيَم الأهليّة التقليدية. كما أن التداخلات الديموغرافية والمساحة الجغرافية لسوريا ساعدتْ على عدم تحول المكونات السكانية إلى كينوناتٍ متصارعةٍ ذات انتماءاتٍ متضاربة، ولم تظهر بالتالي أي زعاماتٍ تتحدث «أهلياً» بالنيابة عن هذه الكينونات. ومع أن مثل هذا «التعايش الأهلي» يحملُ بُذُورَ الارتقاء، في حال تَوَفَّرَت الشروط الملائمة، إلا أنه لم يتحوَّل بعد إلى «تعايشٍ مَدَني» حتى على مستوى التجمُّعات المَدينية التي ضَعُفَتْ فيها «القيم الأهلية». هذا التحول من «الأهلي» إلى «المدني» ضروريٌ للتأقلم مع المتطلبات المتغيرة باضطراد، حيث لا يُمْكِنُ «للتعايش الأهلي»، الذي لَعِبَ دوراً ملحوظاً على مستوى التجمعات السكانية الصغيرة في الماضي، أن يستمر لوَحْدِهِ كَضَامِنٍ للهوية والانتماء والسلم المجتمعي في إطار «الدولة الحديثة» في عصر الحداثة وما بعد الحداثة.

لَعَلَّه من البَدَهِي القول بأن هذه الحال غير المثالية «للوحدة الوطنية»، المُتَجَمِّدة في حدودها الأهلية واللامدنية، هي منتجٌ استبداديٌ بامتياز. ولكن من المهم هنا الإشارة إلى الدور المتناقض (والمُدَمِّر) الذي يلعبه الاستبداد؛ عبر المحافظة، مبدئياً وظاهرياً، على «وحدةٍ وطنيةٍ» مجوّفةٍ وشعاراتية. لكن هذه المُقاربة الاستبدادية هَشّةٌ، ولا يمكن لها أن تَصْمُدَ أمام التحليل النظري الجاد، كما لا يمكن لها أن تَتَّصِفَ بالدّيْمُومَة على المستوى العملي، بل تحمل في باطنها بذور التنكُّس والانفجار والتَفَتُّت. فهي لا تعتمد على تعاقُدٍ حُرٍّ وواعٍ وسَلِيمٍ سواء بين السلطة والمكونات السكانية، أو بين مختلف أطراف المكونات السكانية، مما يُرَسِّخُ التَهَتُّك في النسيج الاجتماعي على المدى البعيد. حيث تسعى الأنظمة المستبدة، في أوقات الاستقرار «الكاذب»، إلى اللعب على التناقضات السكانية، بالإكراه والطغيان والعَسَف، وتحويل «التنوع والاختلاف» من حاضنٍ للخُصوبة والإبداع، إلى مصدرٍ للخلاف وإلى تَوَتُّرٍ سَلْبِيٍ يُؤَسِّسُ لبُغْضٍ غير مُعْلَنٍ تحت الرماد، ما يؤدي إلى إبادة «الثقة» وترسيخ «اللا ثقة» على مستوى المكونات السكانية، أو على مستوى الأفراد. ويستغل المستبد ما سبق كورقة تهديدٍ في لحظات التحوُّل التاريخية الكبرى، آخذاً السكان والأوطان رهينةً لاستبداده.

ويزداد الأمر تعقيداً في الحال السورية، حيث حاول النظام فرض صِيغَةٍ شُمولِيّةٍ سطحيةٍ على مجتمعٍ غنيٍ ومتنوع، وذلك عَبْرَ طرْحِه لفكرة «الوحدة الوطنية» من زاويةٍ مُتَخَشِّبَةٍ تُصِرُّ على اعتبار الاختلاف (بأبعاده الثقافية والقومية والفكرية إلخ) جُرْماً معيباً يتناقض مع الروح الوطنية. ويضفي ما سبق نكهةً إيديولوجيةً مُنَفِّرةً على مصطلح «الوحدة الوطنية»، الذي غدا عنصراً أساسياً في اللغة الخشبية التي يستخدمها النظام البعثي، ومكافئاً للتجانس الشمولي المُصْمَتْ الذي يَأْنَفُ من التعدد والتنوع.

ومنذ آذار 2011 بَرَزَ مفهوم «الوحدة الوطنية» بِحُلَّةٍ جديدةٍ وغير رسميةٍ في سياق الحراك الشعبي على شكل شعاراتٍ وهتافاتٍ كثيرة، ليعكس إرادة شريحةٍ واسعةٍ من السوريين الطامحين إلى تغييرٍ جذريٍ وحداثيٍ يضمن الحرية والكرامة والعدالة. لكنه مع ذلك بقي محصوراً في إطار خطابٍ مبهمٍ، ومعتمداً على اللحظة العاطفية. ومع شُحِّ وانكفاءِ «النخب» وعدم تفاعلها المناسب مع الحدث، ومع تصعيد النظام المَهْوُوس بالسلطة من خِياراتِه الأمنية والعسكرية، وانتشار الصراع العنفي في أرجاء البلاد، لم يأخذ هذا الخطاب الواعد جداً حَظَّه من الإغناء والارتقاء، حيث بقي مُفْتَقِراً إلى العُمْق النظري (وهذه مُعْضِلَةٌ مُلازِمةٌ للظواهر الاجتماعية والسياسية في منطقتنا)، كما لم يجد طريقه إلى الترجمة العملية على كامل الأرض السورية.

وكان متوقعاً أن تنكشف، في سياق الصراع العنفي الذي تشهده سوريا، الهشاشةُ التي وَسَمَتْ مفهوم «الوحدة الوطنية» طيلة عقود، وأن تطفو على السطح أمراض «المجتمع السوري» التي خلّفها المستبد بعد أن تَكَوَّرَتْ بعض المُكَوِّنات السكانية، في ظلِّ العنف السائد، على مُحَدِّداتها اللاحداثية، مُحاوِلةً التمايُز بنفسها «وُجُودياً» عن المكونات السكانية الأخرى. فبدأتِ الأخبار المُريعة تَصِلُ تِبَاعاً، وتزداد تواتراً، عن ممارساتٍ رهيبة، على مستوى الجماعات الرسمية وغير الرسمية والأهلية من كل الأطراف، لسوريين بحقّ سوريين آخرين، وانتشر خطابٌ طائفيٌ تحريضيٌ بَغِيض، ودعواتٌ إلى التصفية والاستئصال والتَشَفّي، لا يمكن تفسيرها أو تبريرها في سياق الاختلاف السياسي فقط. ما دفع بعض الأطراف السورية الداخلية (الرسمية وغير الرسمية)، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، إلى الاستقواء بالخارج على حساب أطرافٍ سوريةٍ داخليةٍ أخرى، مما يعطي دليلاً إضافياً على عدم نضج «الوحدة الوطنية».

في رأيي، فإنكار ما نراه ونسمع عنه، أو وصفه بأنه ليس سوى «ممارساتٍ فردية»، أو مُحاولةُ سَوْقِ الحُجَجِ لتبريره، أو رَمْي كلِّ هذه البَلايا في خانة النظام (أو بعض الكتائب) وكأن زوال النظام (أو بعض الكتائب) سيُشْفينا من كل تلك العِلَل في ضَغْطَةِ زر… في رأيي، فإن كلَّ ذلك إمعانٌ في دسِّ الرأس في التراب، وابتعادٌ عن مجابهة المشهد السوري في تجلّياته المُرّة. كما لا يُمْكِنُ أن نَحْتَجَّ في هذا السياق بمنطق «الضحية والجلاد»، لأننا حتى لو أخذنا بهذا المنطق، في صيغته الجامدة والمُفْرِطة في التبسيط، فإننا سنعود إلى جوهر الأسئلة التي تَطْرَحُها هذه المقالة حول «الوحدة الوطنية»: كيف استطاع «السوري الجلاد» أن يفعل ما يفعله «بالسوري الضحية»؟ كيف استطاعتِ الانتماءات السياسية أو الطائفية أو القومية أو الطبقية أو غيرها، أن تفرض نفسها كعُنْصرٍ حاسِمٍ يُحَدِّدُ مصير الإنسان السوري في القرن الحادي والعشرين؟ ألا يَدُلُّ ذلك على خَلَلٍ عَميقٍ يحْكُمُ العلاقة بين بعض السوريين؟ ألا يُشِيرُ ذلك على أن بعض السوريين ينظر إلى بعضهم الآخر نظرةً ملؤها الاختلاف الذي يبيح القتل والاستئصال؟ ألا يُظْهِر ما سبق أن للحَدَثِ الأليم جذوراً عميقةً وتراكماتٍ تتجاوز سَطْحِيّة الخطاب السائد؟ أين اخْتَفَتِ هذه الوحدة في حال افترضنا وجودها؟ ألا يؤكد هذا مسؤولية السلطات السورية وفشلها الذريع، على مدى عقودٍ، في بناء هويةٍ وانتماءٍ وطنيٍ جامِع؟

وينقلنا هذا كُلُّهُ إلى واقعٍ أليمٍ يُفترَضُ أن نواجهه بشجاعة: فالمآسي التي يَحْفل بها المشهد السوري ليستْ سوى أعراضٍ ظاهِرِيّةٍ لِعِلَلٍ مُزْمِنةٍ، ولإرثٍ تراكمي. لقد بدأتْ هذه الأعراض منذ لحظة تأسيس «الدولة السورية» ككيانٍ سياسي وليدٍ دون إرادةٍ واعيةٍ وذاتيةٍ وجَمْعِيةٍ، ودون مُسَاهَمَةٍ مباشرةٍ من أبنائه. ثم دخلتْ مرحلة الاستفحال المُسْتَتِر والتدريجي عبر عقودٍ من الاستبداد وما خلّفه من فسادٍ، وظلمٍ اجتماعيٍ، وقمعٍ للحريات.

وقبالة هذا الواقع الأليم، تقف الأصوات السورية العاقِلةُ شبه عاجزة: أزمةٌ ثقافيةٌ/ اجتماعيةٌ تتجاوز كونها مُجَرَّد أزمةٍ سياسية، أزمةٌ لا يَصِحُّ في خِضَمِّها التباكي على «وحدةٍ وطنيةٍ» مُبْهَمَةٍ وغير ناضجةٍ بالأساس.

وعليه، فالانتفاضة السورية لم تقتل أو تقتلع «الوحدة الوطنية» كما يتم الترويج له في بعض الأوساط، بل أظهرتْ هشاشتها، وعَرّتْها من الوَهْم المُعاش الذي يعيق رؤية الحقيقة على قساوتها. وعلى العكس، تُشَكِّلُ الانتفاضة السورية نقطة التحول الكبرى والأهم على مستوى «الذات السورية» منذ الاستقلال، مع ما يعنيه ذلك من انتقالٍ مُحْتَمَلٍ لهذه «الذات السورية» بتناقضاتها وأَزَمَاتِها، على المستوى الفردي على الأقل، إلى حيّز الوعي بالأزمة. فهذه الانتفاضة هي الهَزّة الأولى؛ هَزّةُ المكاشفة الصريحة والمؤلمة، وللأسف، «المتأخرة» التي حَرّكَتِ الركود المستنقعي المزمن في الأفكار، وعَرَضَتِ المُكَوِّنات السكانية في سوريا بإيجابياتها وسلبياتها الكثيرة، وقامتْ بتَعْرِية الهياكل الهشّة للدولة السورية، ككينونةٍ سياسيةٍ، من نفاق الأقنعة والأنظمة المستبدة والكذب على الذات، والأهم أنها جعلتْ قطاعاً لا بأس به من النخب الشابة تُدْرِكُ ذلك.

هذا الإدراك بحدِّ ذاته خطوةٌ أولى وأساسية، قد تُمَهِّدُ للمسير في دربٍ طويلٍ يمكن البناء عليه، عبر إعادة تعريفٍ «للوحدة الوطنية» نظرياً وعملياً، وإعادة التفكير فيما يتّصلُ بها من مفاهيم كالهوية والانتماء والوطن والأمة إلخ. فمقاربة أسئلة «الوحدة الوطنية»، وتجاوزُ هذا النوع من الأزمات المُعَقَّدَة، يتطلب انخراطاً كاملاً في عملية تفكيكٍ مُمَنْهَجٍ لمُسَبِّبات وآليات الحدوث، المباشرة واللامباشرة، الواعية واللاواعية. ومن النَّافِلِ الإشارةُ إلى أن هذه المقاربة التفكيكية تستلزِمُ زمناً أطول بكثير من وتيرة الأحداث الآنية والأليمة والمتسارعة كل يوم، وإلى جهدٍ أكبر من مُجَرّد النّوايا الصّادِقة والمُخْلِصَة. كما أن هذه المقاربة مشروطةٌ، كي تَضْمَنَ تَحَقُّقَ النتائج، بمستوىً من الاستقرار، ومساحةٍ من الحرية، وحَدٍّ أدنى من العناصر والنخب التنويرية الفاعِلَة والقادِرَة على لعبِ دورٍ إيجابيٍ في التغيير.

قد لا تتوفر في هذه المرحلة العَصِيبَةِ كل هذه الشروطُ المُثْلى، فالساحة السورية غارقةٌ بمشاهد العنف والدماء. إلا أن هذا لا يعني الاستِكانَة والاستسلام: فالتغيير، والسعي نحو التغيير، لا يحتمل التأجيل والتسويف والانتظار المُنْفَعِلُ للظروف كي تتحسن. هذا ما أدركه قطاعٌ لا بأس به من الشباب المدني في الداخل السوري؛ ففي خِضَم هذا الألم الذي يكتسح الوطن، تُمْكِنُ الإشارة إلى إيجابياتٍ محتملةٍ قد تنجم عن تعارف والتقاء (أو بدء تعارف والتقاء) المكوّنات السكانية السورية مع بعضها بشكل صريحٍ وواعٍ، مما قد يزرع في مرحلةٍ لاحقةٍ بذور «الثقة» على أسسٍ أكثر صلابة. فالصورة ليست قاتمةً بالمُطْلَق، وهناك يقظةٌ فِكْرِيةٌ ومَدَنِيَةٌ تشقّ طريقها بصعوبةٍ وخجلٍ في هذا الزمان الرديء، يسعى بها بعض العقلاء الذين يغلب عليهم العنصر الشبابي التوّاق إلى تغييرٍ جذريٍ وكامل. لكن العنف يجعل الجهود محصورةً، في الوقت الحالي، في أعمال الإغاثة عوضاً عن الترميم الوطني والبناء الفكري. كما أن جعجعة السلاح، وهمجية النظام، وتدخلات اللاعبين الخارجيين، والغرائز ومشاعر الثأر التي تعصفُ بالبلاد، تمنع هذه اليقظة من أخذ حقّها في الظهور والتسويق وتَصَدُّرِ المشهد.

() كاتب سوري

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى